يعتقد عدد من النقاد والمتابعين بأن معظم الروائيين يستندون في ما يكتبونه من روايات الى حيواتهم بالذات فيختارون منها ما يريدون إظهاره وينسبونه الى أبطال وبطلات رواياتهم وأعمالهم القصصية. فالروايات في نظر هؤلاء النقاد ليست سوى سير شخصية مقنعة أو محطات ونتف من حياة الكاتب يؤثر أن يقدمها عبر الآخرين ومن خلالهم. واذا كان الكاتب الشهير نجيب محفوظ صرح في بعض مقابلاته بأن ثمة تشابهاً كبيراً بينه وبين بطل ثلاثيته المعروفة كمال عبد الجواد فإن ذلك التشابه بين المؤلف وأبطاله لا ينحصر في نجيب محفوظ وحده بل ثمة من الجيل اللاحق من قسم حياته الشخصية على رواياته المختلفة من دون تعديلات تذكر. على أن هذا النهج في الكتابة الروائية لا يمكن تعميمه على الجميع اذ ثمة كتّاب آخرون، وبخاصة أولئك الذين ينزعون الى الروايات التاريخية والملحمية والواقعية، يقيمون مسافة موضوعية محددة عن ذواتهم بحيث لا تظهر هذه الذوات الا على شكل مواقف واشارات غامضة ومتباعدة. قد يكون الكاتب المصري يوسف القعيد في روايته الأخيرة الصادرة عن دار الساقي"قسمة الغرماء"أقرب الى النوع الثاني الذي لا يؤثر الإتكاء على السيرة الذاتية المباشرة في اختيار موضوعاته وأبطاله بل يعمد الى تقديم صورة بانورامية شاملة عن الواقع المعيش عبر نماذج روائية متعددة ومبثوثة في أحشاء الواقع المصري المتباين الطبقات والشرائح والانتماءات السياسية والاجتماعية. وهذه الميزة في أدب القعيد لا تقتصر على الرواية الجديدة وحدها بل يمكن تلمسها في أعمال سابقة مثل:"الحرب في بر مصر"وپ"يحدث في مصر الآن"و"بلد المحبوب"، على رغم أن هذه الأخيرة أقل واقعية وتسييساً من الروائيين الآخرين وأقرب منهما الى الغنائية الرومانسية. لا يعني ذلك بالطبع أن ليست هناك من نقطة اشتباك مشتركة بين أبطال القعيد وبينه شخصياً لكن الكاتب يعرف تمام المعرفة كيف يتوارى خلف أبطاله وكيف يحملهم الكثير من مبادئه والتزامه الوطني والقومي من دون أن يصبح عبئاً عليهم ومن دون أن يصبح اتكاؤه على سيرته نوعاً من فقر الدم الروائي والتخييلي. ولعل أكثر ما يؤكد هذا الزعم هو تكنيك السرد الذي تقوم عليه"قسمة الغرماء". فهذا التكنيك لا يطابق بين المؤلف والراوي ولا ينيط مهمة القص بأحد أبطال الرواية دون سواه، كما أنه لا يلجأ الى تقنية الراوي الكلي القدرة الذي يشرف من علٍ على حيوات الأبطال ومصائرهم لكنه بدلاً من ذلك يعمد الى وضع الرواية برمتها في عهدة الأبطال أنفسهم بحيث يروي كل منهم روايته الخاصة عن الأحداث ويرى اليها من منظوره المختلف عن سواه. هكذا تختلف الوقائع باختلاف المنظور وتمتلك أبعاداً نسبية وغير مطلقة سواء من حيث طبيعتها وأحداثها التفصيلية أو من حيث دلالاتها الأخلاقية والانسانية. لا يعني ذلك أن الكاتب لا يمتلك قناعاته ورؤيته الخاصة به الى الواقع الذي يتناوله بالكتابة، وهو هنا الواقع المصري الراهن بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكنه يؤثر أن يترك المهمة لأبطاله بالذات وأن يتكفل كل منهم برواية الأحداث نفسها من منظور خاص ومستقل. وهذه الطريقة في السرد ليست جديدة تماماً بل نرى لها نظائر عدة كما هي الحال في رواية"الأمواج"لفرجينيا وولف أو رواية"الوجوه البيضاء"لالياس خوري. تتوزع"قسمة الغرماء"رواة يجمعهم الاستلاب والغربة والقلق على المصير في مجتمع محكوم منذ عقود بالقهر والفساد والفقر وتعليق الاجابات الواضحة عن أسئلة العدالة والحرية والحرب والسلام. لا ينتمي الأبطال الرواة الى شريحة اجتماعية واحدة. فالمهندس الشاب ماجد يعيش مع أمه مرام في"لوكندة"بائسة في أحد أحياء القاهرة الفقيرة بعد أن اضطر أبوه عبود جرجس، الموظف المرموق المقيم في الصعيد، الى ترك البلد نهائياً والاقامة في مكان مجهول بسبب الضغوطات الكبيرة التي تعرض لها من بعض المتطرفين الأصوليين، نظراً لانتمائه الى الديانة المسيحية القبطية. ومع ان ماجد واكرامي ينتميان الى الجامعة نفسها الا ان فوارق طبقية هائلة تفصل بين الأول المدقع في الفقر والثاني المسرف في الغنى. قد تكون مهرة، الفنانة الفائقة الجمال والتي آثرت ارتداء الحجاب بعد اعتزالها، هي الشخصية الأبرز والأكثر اشكالية في الرواية. فهي الصديقة السابقة لعبود والتي يكلفها هذا الأخير بتسليم المعاش الشهري الى ولده وزوجته. وهي اذ تنفق أكثر من مدخولها، بالنظر الى غلاء المعيشة المطرد في مصر، تضطر الى انفاق المعاش الخاص بماجد وأمه. حتى اذا قصدت زوجها السابق الضابط مصطفى نور الدين تكتشف بأن السلطة قد سرحته من الخدمة، نظراً لقلة الحروب أو انعدامها، وأنه انضم إثر ذلك الى المجموعات الأصولية. فيما المحامي عفارم الذي يعشق مهرة حتى النخاع يفقد عقله شيئاً فشيئاً بسبب العشق ويلاحق الفنانة المعتزلة في كل مكان متخيلاً أنها شجرة الدر وأنه ليس سوى معز الدولة الفاطمي. في عالم اللامعقول هذا يتقاسم الأبطال على اختلاف مستوياتهم مصائرهم المأسوية وينتهون جميعاً الى المنفى أو الفقر أو الجنون، أو الى الوقوع في فخ الأصولية المغوي. وليست العلاقة الشهوانية الغريبة التي تقع في نهاية الرواية بين مهرة الأربعينية وماجد العشريني سوى وجه من وجوه العبث المأسوي الذي يفقد الأشياء منطقها ويدفع الشخصيات الى خياراتها العدمية المباغتة. على أن يوسف القعيد يحاذر، أخيراً، أن يصدر أبي حكم قيمي أو أخلاقي صارم على أبطاله. فهو يتركهم يحددون مصائرهم من ضمن منطقهم الخاص الذي يبدو محكماً في الظاهر بينما هو في حقيقته مفكك وفاسد وشديد الهشاشة. صحيح أن الخلل الأصلي قائم في النظام السياسي والاجتماعي نفسه ولكنهم بدلاً من مقاومة الخلل ومجابهته بجرأة اختار كل منهم أن ينتحر على طريقته وأن يخلي الساحة للفوضى والفساد والتطرف الأعمى.