منذ الثمانينات من القرن المنصرم، درج الكُتاب في مصر على المرور بعالم الأقباط، كون هذا العالم القبطي يتيح مادة خصبة للكتابة. وطرقت روايات عدة عالم الأقباط والمسلمين معاً طبقاً لما أثارته الحياة الواقعية في مصر وما أفرزه المناخ السياسي في الثمانينات من وجود عبارة "عُنصرا الأمة" إيماءً إلى الوجود القبطي مع المسلم على أرض الكنانة. بل إن عدداً من الكُتاب المصريين وبخاصة الذين تقادمت الكتابة لديهم لم تنح مشروعاتهم إلى هذا العالم، إلا بعد ظهور العبارة السابقة، وقد ولجوا عالم الأقباط والمسلمين معاً. ونذكر على سبيل المثال نصوص ادوار الخراط التي تعدّ تأريخاً للحياة القبطية في مصر، بهاء طاهر "خالتي صفية والدير" - رواية يوسف القعيد "قطار الصعيد"، رواية ابراهيم عبدالمجيد "لا أحد ينام في الإسكندرية"، رواية نعيم عطية "شبرا"، ورواية غبريال زكى "وصايا اللوح المكسور". ولكن ما الذي يسم رواية بهاء عبدالمجيد "سانت تيريزا" الصادرة حديثاً عن دار شرقيات القاهرة 2002 التي تجعل من قاعدة الأقباط المسلمين - اليهود ركيزة لها؟ بداية جاء رواية "سانت تيريزا" عبر مقاطع قصيرة، أكثرها مُعنون بأسماء الشخصيات، وهي تتضافر معاً مكونة نسيج النص. واستخدم الكاتب عبدالمجيد فيها السرد عبر ضمير المخاطب، ما عدا شهادة شخصية سوسن المسلمة جاءت في ضمير المتكلم، مما أباح لها التعبير عن توترها الداخلى بيُسر. أما الشخصيات فهي: بدور قبطية، لوكا يهودي، جرجس قبطي، سوسن مسملة، سليم مسلم. انها شخصيات رئيسة وتكوّن دعامة للرواية فضلاً عن شخصيات ثانوية تلتحم مع الشخصيات الرئيسة مكونة الهيكل العام للرواية: سابينا مسيحية ايطالية، أم سوسن مسلم، أبو سابينا مسيحي إيطالي، فيرونيكا مسيحية إيطالية، ثم شخصية سعيد المسلم وهو شقيق "سوسن المجند الذي استشهد في الحرب غائب وحاصضر عبر نعي أمه الدائم له. الأحداث تقع في منطقة شبرا ما بين كنيسة سانت تيريزا وشارع شبرا وميدان فيكتوريا. أما زمن النص فيقع ما بين نهاية الأربعينات حتى بداية الثمانينيات "إبان اغتيال الرئيس أنور السادات" من القرن الماضي. وضع بهاء عبد المجيد قبل العنوان الأول في النص "زجاج أزرق حزين" عبارة "الروح تواقة والجسد ضعيف". وهي لا تخلو من دلالة على كل إنسان يحمل في داخله آمالاً تَحُول دونها مقدرات خارجة عن إرادة صاحبها. وهذا ما ينطبق على بعض الشخصيات في النص. تطرح الرواية عبر شخصياتها بعض العلاقات الشائكة التي تعتري المجتمع المصري، وأولاها العلاقة الودية التي كانت تسود حياة المسلمين والأقباط معاً. العلاقة الثانية هي الثأر المضمر الذي يُكنّه الأقباط لليهود دفاعاً عن المسيح الذي حاول يهوذا الغدر به. العلاقة الثالثة علاقة التوتر التي لحقت بحياة المسلمين والأقباط بعد ظهور عبارة "عنصرا الأمة" وما تلا ذلك في الحياة الواقعية المصر من تعارك قبطي/ مسلم. "بدور" شابة قبطية تعاني الفقر، وتتطلع إلى حياة أفضل. هكذا تطالعنا الرواية بصورة كوم اللحم التي تجسدها أخواتها وهي بعد لم تكمل علمها إذ اكتفت نظراً الى ظروف الفقر بالشهادة الإعدادية. تنظر "بدور" حولها فتجد أخواتها متراصات على جانبي الفراش، تزيح ساقي إحداهن بحنان، تنهض متثاقلة وتحاول اختراق أجسادهن. تواجهها صورة العذراء فتذكرها في قلبها ص 9. أما في حياتها فتمارس الشعائر القبطية في كل معانيها تحت ظل كنيسة سانت تيريزا. ثم تقدم الرواية استرجاعاً قصيراً لحياة "بدور" وعمّها اللذين عاشا في الفيوم وكان لديهما طموح الفقراء في الحصول على أية ثروة. لأنهما في الفيوم فأقرب الثروات هي كنز قارون القابع تحت البحيرة: "ذهب جدّها إلى البحيرة ذات صباح وقال سأبحث عن كنز قارون، أما عمّها فغطس وقال سأحضر إكسير الحياة الذي حوّل به قارون التراب إلى ذهب، غرق الجد، ولم يظهر العم" ص 10. أما والد بدور فرحل بناء على رأي أمه في اتجاه الهرم. سارت العائلة في اتجاه النيل حتى وصلت إلى شبرا حيث وجد الأب حجرة متواضعة في جوار كنيسة سانت تيريز "في شبرا لم يعرف ماذا يعمل وكيف يطعم أبناءه وعندما حكى قصته الى قس الكنيسة قال له: عليك بالصيد ففيه بركة. كان يخاف النيل ويخاف الطين منذ أن مات أبوه في البحيرة. أما هو فقد مات بشوكة انحشرت في حلقه" ص 11. هكذا يظهر النص أسرة "بدور" القبطية ويبرر زواج "بدور" أولاً من جرجس كي تنعم بالحياة في ظل رجل ينفق عليها، ثم تجاوزها إياه في علاقتها مع لوكا الفنان اليهودي صاحب أتلييه الملابس المشهور في مصر: "كانت "بدور" في بداية الأمر جاهلة أموراً كثيرة وخاصة كيفية التعامل مع نساء الطبقة الراقية، إلا أنها تعلمت بسرعة كيف تكسب ثقتهن وعاشت مع لوكا حياة مختلفة، حياة خارج العالم المحدود الذي نشأت فيه، عالم أكثر إثارة، ولكنه عالم شائك وهي بعد لم تتحصن فتخطئ أحياناً وتصيب أحياناً أخرى" ص 37. لم تنل "بدور" قسطاً من التعليم لكنها كانت تحب قراءة الإنجيل على مسمع من جارتها الطيبة أم سعيد التي كانت تهز رأسها وكأنها تفهم ما يُتلى عليها مُعلّقة: "كل كلام ربنا كويس" ص 12. وكأن الراوي جعل من هذه الجملة ذريعة لسرد العلاقة الودية التي تصل الى درجة المحبة بين المسلمين والأقباط في حي شبرا العتيد. وهكذا تظهر شخصية "سوسن" الفتاة المسلمة رفيقة "بدور" وصديقتها الحميمة وكاتمة أسرارها. والسرد في الجزء الخاص ب"سوسن" يأتي عبر ضمير المتكلم وهي تولي اهتماماً خاصاً بالذهاب إلى الكنيسة وكأن هناك تضافراً بين الشعائر الإسلامية والقبطية. فأول ما تصفه "سوسن" هو ذهابها إلى كنيسة سانت تيريزا "من حين إلى آخر نذهب أنا وأمي إلى سانت تيريزا، الصمت الذي يحيط بالمكان يرهبنى، صور القديسين وهم ينظرون إلى السماء ويرفعون أيديهم في سلام، أرى صورته وهو طفل وحوله هالة من النور وأمه الطاهرة تنظر إليه بحنان في وجه ملائكي مشرق، أشعة الشمس التي تخترق النوافذ الملونة والمدرجات الخشبية بُنّية اللون تغريني بالجلوس عليها انظر إلى الصليب الكائن فوق المذبح فأراه فوقه يفرد ذراعيه مُنكّساً ولكن عينيه تنظران إلى السماء يغطّي رأسه إكليل من الشوك، نظراته التي يغمرها الحزن كانت تدهشني وتحزننى" ص 15. لعلّ اللقطة التي تشكلها للعالم عالقبطي في كنيسة وفي صورة المسيح إلى جانب أمه الطاهرة كونت جزءاً من وعي سوسن تجاه هذا العالم القبطي الذي يغمر مكان كنيسة سانت تيريزا في منطقة شبرا. وقد أكد مرويها على التواشج المسلم - القبطي. فلو لم يكن منقبول منها وأمها كأسرة مسلمة للشعائر القبطية ما تجاسرت على الذهاب إلى الكنيسة، بل والانبهار بهالة المكان. وينتقل الكاتب من علاقة الأقباط بالمسلمين إلى صورة اليهودي الحائر: "الخواجة لوكا صاحب الأتيليه يهودي الأصل جاء من اليونان إلى القاهرة منذ فترة طويلة ولم يرحل مع الذين ذهبوا إلى إسرائيل بعد إقامة دولتهم. لم يحصل على تعليم عال... ولم يتزوج وهو يواظب على الصلاة في المعبد اليهودي في شارع عدلي. يوم السبت يوم خاص يعتزل فيه الحياة، يأتي إليه جرجس ليعد له الطعام ثم يرحل" ص 18. تحتل شخصية "لوكا اليهودي جزءاً من السرد وتتبدّى عبرها رؤية الأقباط الى اليهود. فهو يطلب يد سابينا الفتاة الكاثوليكية الإيطالية التي تعيش مع الجالية الإيطالية في مصر. لكن والد سابينا الكاثوليكيي المتشدد رأى أن من المستحيل أن تتزوج من يهودي: "تأهب والد سابينا كأنه سيلقى تصريحاً قائلاً: "اليهود ليس لهم مستقبل، هم مهددون في كل آن، لا أريد أن ينتهي بك الأمر وبأولادك في غرف الغاز... سابينا كلمتي الأخيرة أنني غير موافق. عبدالناصر لن يترك أي يهودي على أرض مصر، فهو الآن في حرب مع الدول العظمى. ألم تسلب إنكلترا من الفلسطينيين أرضهم وتعطها الى اليهود؟ ألم تتزعم إسرائيل الهجوم على مصر في حرب 56؟". ص 21. إن التعصب الديني الذي يسم الأب ما هو إلا صورة خفية للتذرع بالسياسة كي يكره الفتاة على ترك لوكا اليهودي، إيماناً منه بضرورة تزويجها من مسيحي ورفضه زفاف ابنته من حفيد قتلة المسيح نسبة إلى يهوذا الخائن. أما لوكا فيحاول الدفاع عن نفسه قائلاً: "لماذا أحمل عار آبائي وأجدادي ؟ لم أكن موجوداً عندما حاكموا المسيح، ولم أشاهدهم وهم يرفعونه على الصليب مُعلّقاً بين السماء والأرض ص 42. نهاية مفتعلة طرح النص خيوطاً كثيرة عبر زمن يتجاوز الثلاثين عاما، لكنه جانب الصواب في كون كل خيط يُطرح يحتاج إلى نص في حد ذاته، مما جعل نهاية الرواية التي تحمل عنوان "صلاة الشموع" مفتوحة. فلوكا اليهودي مثلاً يعترف: "لم يبق لي سوى الخواء، "بدور" أصبحت مُخيفة وحُبها سجن دائم اسمه الضمير، والآن "سوسن"... لا لا لن أستطيع، انتهى دوري المقدر لي هنا حياة عبث وهراء". أما جرجس زوج "بدور" فيقتل لوكا اليهودي بعدما تغاضى كثيراً عن علاقتهما. ويقرر فجأة أن يقتله في مشهد سينمائي: "قتلته يا بدور... غسلت عاري... خلاص مفيش يهودي حايخش بيتنا.. اليهودي مات اليهودى مات" ص 94. كأن قضية الصراع القبطي اليهودي هي التي جعلته يقتله وليس انتقاماً لشرفه بعد أن أقام علاقة مع زوجته، وسوسن التي تتبين لها في النهاية أن سليم الذي أحبته كان ارهابياً تبقى في جوار قسم الساحل تقف وتواجهها سيارة أمن مركزي يدفع الجنود إلى داخلها رجالاً ملتحين يهللون الله أكبر الله أكبر، تنظر إليهم وتتأمل وجوههم من وراء النوافذ ربما بينهم سليم" ص 96، تسعى الشخصيات إلى نهايتها ومصائرها محددة بقوة جبرية، مما أخل ببنية النص. فالكاتب بهاء عبدالمجيد أراد، عبر 97 صفحة، ان يتطرق الى مشكلات اليهود واضطهادهم من هتلر إلى عبد الناصر. وكذلك أن يعالج علاقة المسلمين بالأقباط من الاستقرار إلى التوتر، والإرهاب الذي قادته عناصر إسلامية متطرفة موظفة كي تنخر المجتمع المصري، وقد نجحت واقعياً إلى حد ما... هذه كلها خيوط تعجّل الكاتب في طرحها مما أخلّ بجزء من السرد الذي أراد له الكاتب ان يكون بانوراما للحياة الواقعية المصرية، من دون التركيز على جانب واحد يظهر فيه خلل الواقع في صورة ظاهرة. * ناقدة مصرية.