كالنطفة لا هوية لها ما لم تعرف اكتمالا وفترة إنضاج، تمتلئ مخيلة الروائي بعشرات الشخصيات والأحداث بهدف بلورة فكرة وحيدة. وربما انقطع نفَسُه وانتهى العمل قبل أن تكتمل الفكرة تلك، فإذا هي تلقي بظلّها على رواية قادمة وما يليها منتجة ما يعرّف بأنه ثلاثية. ولكي يبدو كلامي ذا صلة مباشرة بتجربتي الذاتية، لا بد من تمرين هو أصعب ما يكون على روائي: العودة إلى اللحظة الأولى، اللحظة الأصلية التي تسبق ولادة شخصياته، وهي لحظة غالبا ما يصعب القبض عليها إذ يختلط على تخومها الوعيُ باللاوعي، كأنما تتمتع كل رواية بلحظتها التأسيسية الخاصة، تماما كما للبشرية سِفر تكوينها وللكون لحظة انبلاجه، لحظة"البينغ بانغ"Bing Bang: في روايتي الأولى التي تحمل عنوان"المحوّل"دار مختارات، 1985، شخصية رئيسية تدعى سعاد. سعاد شابة في العشرين من عمرها تحيا حربا أهلية في بلد لا تعمد إلى تسميته. عن الحرب لا تتحدّث، لا الرواية ولا هي، حتى يخيل للقارئ أن الأحداث تجري في بلد طبيعي لا يشكو سوى من انقطاع متكرّر للتيار الكهربائي وقد استعيض عنه بشموع تضاء في غير أمكنتها المعهودة، وبعدد هائل من محوّلات تقول سعاد إنها كالوحوش والذئاب، قد استولت على قلب المدينة وليلها. في مخيلة سعاد العتمة هي الحرب، والحرب هي أشبه بعطل فني أو تقني يسببه انقطاع الكهرباء. الرواية هي محاولة الإجابة عمّا يشبه سؤالا خطر لي ذات يوم من نوع: لو كنا نحن البشر، في الحرب، كالآلات، فما تراها تكون المحولات التي تبقينا نعمل لدى انقطاع تيار الحياة؟ هكذا حضرت سعاد، من هدير محرّك، أصبح عويلا، ثم وحشا يعرّ في مدينة تبقى مظلمة فلا تقوى عليها شموع أو محوّلات... وسعاد الباحثة عن محوّل يبقيها على صلة بالحياة، ستكتشف أن العلاقات البشرية، كالناس، تصاب برصاص الحروب، فإذا بها ستنتهي إلى إيجاد محوّلها في الكتابة وفي اختراع شخصية مشابهة لها تماما، هي توأمها الذي سينهض من الورقة ذات ليلة مقررا أن ينوب عنها في تحمّل ما بات يفوق قدرتها على الاحتمال. في رواية"حياة وآلام حمد ابن سيلانة"كان على حمد، وهو الشخصية الرئيسية، أن يقوم بتمرين صعب ألا وهو قبول فكرة الموت وقد فاجأه بوفاة والدته. من الحكايات الأربع المتصلة في ما بينها والتي تتألف منها الرواية، حمد غير موجود إلا في ثلاث. حكاية أولى تروي ما سبق ولادته، أي أخواته السبع اللواتي كنّ محاولات والدته سيلانة ووالده عقل لإنجاب صبي. في الحكاية الثانية هناك قفزة كبيرة في الزمن تظهر حمَدا وقد بات مراهقا وهو أمام جثة أمه التي يرفض موتها، فإذا به يخرج من الدار في رحلة ستنتهي، كالدائرة المقفلة، عند النقطة التي ابتدأ منها، ألا وهي لقاؤه بالموت. لست أدري ما الذي ربط فكرة الموت بالجمال. بل هي فكرة الجمال استدعت فكرة الموت كأنما اللقاء بها بررّ أو أباح القفز فوق كل القوانين، تلك المتصلة بالطبيعة كحيّز وكشخصية، أو بالسرد كفضاء وكآلية. وإذا بي أحيك طبيعة منفلتة من كل أسر، طبيعة بين الوحشية والوهم، تماما كما هو حمد الجميل، الجميييييييييل جمالا يجعله بين الذكر والأنثى، بين التشهي والقتل، بين الريبة واليقين، يسلّمه حمار إلى نافذة، النافذة إلى باب، الباب إلى جبل، والجبل إلى مصيره المحتوم. ثغرة كان عليّ قبولها جرّت ورءاها فكرة هي التالية: لا يتراكم العمر بتراكم السنوات، وإنما يجيء دفعة واحدة، على غفلة منا، ودائما إثر لكمة يصفعها بنا الموت. في رواية"باص الأوادم"التي تحكي عن اجتماع نحو عشر شخصيات في باص متجه من الشمال إلى الجنوب مع ما يستدعي ذلك من تشكّل علاقات وتحالفات وعداوات، ووصف سير رحلة تحمل الركاب إلى مصادفات تظهر في أحيانٍ على شاكلة أحداث، وفي أخرى في ملامح شخصيات وافدة إلى فضاء الرواية أو رأس مقطوعة سائبة تسافر معهم داخل كيس زيتون، كان شاغلي بل حافزي الأوّلي إذا صح التعبير، هو اعتماد حركة في آلية السرد مماثلة لحركة غرض بعينه هو ساعة الرمل. كحركة ساعة الرمل التي تعمل وفقا لآلية تراكم حبيبات رملية صغرى هي أشبه بثوان ما تلبث أن تهوي على ذاتها حين يتم قلب الوعاء، أردت أن أروي رحلة تأخذ الاتجاه المعاكس ما أن تبلغ الرحلة، ومعها الرواية، منتصفَ الطريق، تماما كما سيحدث للشخصيات بأسرها إذ سنراها تفرغ من الملامح التي قدّمت نفسها من خلالها لكي تتشكّل تدريجيا ملامحُها الحقيقية، مؤذنة ببلوغ الرحلة وجهتها والروايةِ مقصدها. لن أتناول في تمريني الصعب هذا رواية"مستأجرة شارع بو دوفير"التي تحكي عن المنفى يبدأ من تخوم الخواء ضاربا عرض الحائط كل قوانين الفيزياء"أو عن رواية"يا سلام"حيث يتجسد العنف في ملامح مجموعة من الشخصيات تحيا أزمة استمرارها في الوجود بعد نفاذ وقود الحرب وانقضائها"أو عن رواية"لغة السرّ"التي تشكّلت إثر قراءتي تقرير أميركي وُضع قبل دخول العراق وورد فيه أن اللغة العربية لغة ضيقة الآفاق، متحجرة، غير قادرة على مواكبة تطورات العصر، بغية الرد على أسئلة تشغلني منذ سنوات وتتعلق بعوالم اللغة وما يحيط بها. وإنما سأختم بالقول إن لعبة الرواية، ككل كتابة وككل إبداع، تستمرّ عصية على السبر لأنّ فيها ما يعدو محاولاتِ أسرها في أفكار ونظريات تبقى، على أهميتها، نزيلة الهامش لا المتن. * مقتطف من نصّ أطول ألقي في ندوة أقامتها الجامعة الأميركيّة في بيروت.