المفارقة الدالة في تقديم بدر الديب لديوان صلاح عبدالصبور الأول - الناس في بلادي - وكلمة الغلاف التي كتبها زميل الشاعر، في قسم اللغة العربية، أحمد كمال زكي، أن كلمة الثاني كانت مشحونة بالمفردات الماركسية التي يزهو بها ماركسيّ شاب، يؤكد مولد زميله الشاعر الجديد، ابن الخامسة والعشرين"في المرحلة الحرجة من حياة مصر"، في فترة اشتد فيها الصراع ضد الاستعمار وأعوانه. وتؤكد الكلمة أن عيني الشاعر تفتحتا على نور يريد أن يعانق البشرية لتعيش في سلام. ويضيف أحمد كمال زكي إلى ذلك أن"ظهور صلاح الشاعر ليس حدثاً فردياً، وإنما هو مظهر لطليعة عاملة كادحة تريد أن تصل إلى حياة أضيق ما فيها يسع الأرض والسماء"، وكان ذلك يعني أن هدف الشعر - على الأقل"في الناس في بلادي"- هو"أن ينطق صوت الفقراء"، ويسعى إلى"الإسهام في انبثاق المجتمع الجديد". ولا تثريب على كاتب كلمة التقديم المزهوة برطانها الماركسي الذي كان يتوافق والزمن الصاعد للفقراء وللطليعة العاملة الكادحة، فقد كان كاتب كلمة التقديم نفسه شاباً لا يقل حماسةً عن صديقه الشاعر. أما بدر الديب الأنضج ثقافة، والأكثر عمقاً في النظر، بحكم السن والثقافة، فكان تقديمه للديوان ينطوي على تأكيد الأبعاد الوجودية للتجربة النفسية التي تجسّدها قصائد الديوان في معطياتها التي تبدأ بالحزن ولا تنتهي بالحرية. وقد كانت هذه الملاحظة من بدر الديب نوعاً من الحدس الثاقب الذي أدرك أن وراء السطح الماركسي الثائر يكمن تمرد من نوع موازٍ، ولكن غير متطابق مع الخطاب الماركسي السائد. وكان يقصد، إذا أمعنا قراءة ما بين السطور من تقديمه، أن قصائد الديوان تنطوي على منزع وجودي، لا يتناقض مع النزوع الماركسي السائد، ولكنه يريد أن يستبدل بهامشيته ما يستحقه من الحضور الذي له جذوره في طبيعة الشاعر الذي ظلّ إلى ذلك الزمان، وبقي على ذلك طوال حياته، متوحِّداً بمعنى من المعاني، يتأبّى على أي تنظيم أو نسق مغلق لأية نظرية. وكانت تلك نظرة نافذة وصادقة في الوقت نفسه، ففي الوقت الذي كان الجميع يحتفي بديوان الشاعر الذي بدا كأنه نصر إبداعي للمجموعات الماركسية، كان الشاعر نفسه يضع هذه الماركسية موضع المساءلة، ويراجع موقفه منها ومن الشيوعية على السواء. وكان ذلك نتيجة حدثين تركا أعمق الأثر في نفسه: أما أولهما فهو التقرير الجسور الذي قدّمه خروشوف إلى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي، فاضحاً فيه النتائج البشعة للحقبة الستالينية، معلناً زمناً جديداً من الانفتاح، وهدم السور الحديدي الذي جعله ستالين مداراً مغلقاً لا خروج عليه أو منه، معنوياً ومادياً. ولم يصدّق الرفاق الذين ألفوا النزعة الستالينية التقرير، عندما بثّته للمرة الأولى وكالة أنباء إيطالية، ولكنهم سرعان ما صدموا بما ورد فيه بعد أن أذاعته وكالة"تاس"السوفياتية. وسرعان ما تبعت التقرير مراجعة العهد الستاليني، والكشف عن جرائمه، وإعادة الاعتبار إلى الكُتَّاب والفنانين الذين أعلنوا اعتراضهم على الاستبداد الستاليني، فكان جزاؤهم المعتقلات والمنافي الفظيعة في سيبيريا. وبدأت أصوات مغايرة النبرة الصعود في مدى الكتابة الإبداعية، ولم يكن ممكناً لعقل مثل عقل صلاح عبدالصبور أن يغفل عملاً مثل رواية"ذوبان الجليد"التي كتبها إيليا إهرنبورغ 1918-1967 ضد الحقبة الستالينية كلها، ونشر روايته بعد عام واحد من وفاة ستالين سنة 1953، فكانت منذ صدورها سنة 1954 باباً سرعان ما اتسع لفضح مثالب الحقبة الستالينية، وعلامة جذرية على مراجعة الحقبة كلها، إبداعياً وفكرياً. وهي مراجعة سرعان ما تأثر بها صلاح ودفعته إلى تقديم تلخيص مطوّل للرواية في مجلة"صباح الخير"على صفحات أربعة أعداد متوالية، ما بين شهري يونيو ويوليو 1957، وذلك في سياق كتب فيه صلاح، قبل ذلك، عن فلاديمير ماياكوفسكي 1893-1930 الذي قتله النقاد 26/7/1956 ويتسع بناظريه ليكتب عن"الوجودية"في جريدة"الشعب"التي كان شعار صفحاتها الثقافية - بفضل لويس عوض ومحمد مندور -"الأدب في سبيل الحياة"وليس"في سبيل المجتمع"بمعناه الماركسي المحدود. وتتسع حدقتا صلاح لتتأمل شاعراً يعلو على أفق الالتزام بمعناه الواقعي، رائد قصيدة النثر في الولاياتالمتحدة، وهو"والت ويتمان"1819-1892 الذي يكتب عنه صلاح مقالاً بعنوان"نبي من أميركا". وتتكرر كلمة"الأسس الإنسانية"تكراراً دالاً في هذا السياق، كي تكون منطلقاً للقومية العربية، كما كانت منطلقا للوجودية التي كتب عنها صلاح في جريدة"الشعب"28/6/1956. ولم يكن ذلك كله بعيداً من السياق الذي لم يتردد معه صلاح عبدالصبور في السخرية من شعار"الأدب الهادف"، فكتب عن"الأدب الهاتف"الذي يخلو من الإبداع كما أوضح في مقال له في"صباح الخير"4/4/1957. هذا عن الحدث الأول، أما الحدث الثاني فتجسّد في أحداث المجر التي واكبت العدوان الثلاثي على مصر، وكانت عدواناً موازياً في التحليل الأخير، فقد اقتحم الجيش الأحمر بودابست، من دون أن يتردد في قتل من سماهم المرتدين، بعد أن ثار الشعب المجري على المجموعة الشيوعية الحاكمة، رافضاً معها المدار الحديدي المغلق للشيوعية نفسها، وذلك في مدى شعبي: نقدي وإبداعي. وما كان لأي عقل حر أن يقبل وصفه بأنه انقلاب عسكري قاده مرتدون، كان لا بد من استئصالهم. وقد ظلت مشاعر السخط والاحتجاج كامنة في النفوس، بعد قمع الاقتحام السوفياتي، كالنار تحت الرماد. أما صلاح فقد لفت انتباهه سياق ثقافي مختلف، يشهد مراجعة جذرية للماركسية، في مدى نقدي وإبداعي واسع، على أيدي ماركسيي الداخل مثل إهرنبورغ وماركسيي الخارج، أمثال الفرنسي روجيه جارودي الذي كانت دراسته عن الإنجاز الإبداعي للشاعر الفرنسي لويس أراغون منطلقاً إلى عمله"واقعية بلا ضفاف"، ثم"ماركسية القرن العشرين"، وذلك في موازاة ما كتبه ألتوسير 1918-1990 من قراءة جديدة حول"رأس المال". وواكب انفتاح النقد الماركسي في فرنسا، وحيويته في إعادة التفسير والمراجعة، ما تجاوب معه في الدوائر الماركسية على امتداد الأقطار الأوروبية التي شهدت ما كتبه النمسوي إرنست فيشر عن"ضرورة الفن"وپ"الفن ضد الإيديولوجيا". وكانت هذه الكتابات وغيرها ثمرة المراجعة التي بدأت قبل أن تنتصف الخمسينات، وخلالها، في السنوات التي أعاد فيها الدارسون السوفيات الجدد اكتشاف باختين الذي ردوا إليه الاعتبار، وأعادوا نشر ما كتبه عن رابليه ودستويفسكي. وكان صلاح عبدالصبور على علم ببعض هذه التحولات التي عرفها ماركسيون من أمثال أبو سيف يوسف في مقالته العلامة:"نقادنا الواقعيون غير واقعيين"التي كانت أبرز رد ماركسي متفتح على الدوغماتية التي تميزت بها مقالات العالم وأنيس في كتابهما"في الثقافة المصرية"1955. وقد نشر أبو سيف نقده - تحت اسم مستعار - في مجلة"الرسالة الجديدة"27 حزيران/ يونيو 1956. وكان رفضه النظرة الضيقة للعالم وأنيس قرين رفض علي الراعي الذي قرن نظرة الكتاب بما سماه"المنهاجية التامة"، ورفض كمال عبدالحليم الذي رأى، في ما كتبه العالم وأنيس، نقداً يرتبط بالخنق لا الخلق. وكان على صلاح عبدالصبور أن يختار، إزاء هذه التحولات، البقاء في الأفق الماركسي التقليدي الذي كان العالم وأنيس، في مصر، وحسين مرة، في بيروت، أبرز ممثليه، أو يجاوز هذا الأفق إلى مدار آخر، أكثر انفتاحاً، وأكثر تحرراً من المدار المغلق الذي دار فيه رفاق"المصري". وكانت الوجودية هي الحل، فهي فلسفة إنسانية، تقف إلى جانب الشعوب الساعية إلى تحررها، وتعادي الفاشية، وتنفتح على الآفاق اللانهائية لحرية الفرد الذي يجعل للعالم معنى، بفعله الحر فيه، عندما يتحدى العبث المقدور، مهما كان الثمن، على نحو ما تحدى بطل مسرحية"الذباب"لجان بول سارتر المقدور عليه، فاستبدل بالاستسلام إلى عبث الوجود تحقيق الإرادة الخلاقة للوجود الفردي الحر في الوجود. ولم يكن من الغريب أن يقارب صلاح الأفق الوجودي، خصوصاً بعد أن أدرك، على نحو من الأنحاء، أن هذا الأفق لا يتناقض مع أي تفسير ماركسي منفتح، ولا مع أية"واقعية بلا ضفاف"، فالفن ضد الإيديولوجيا التي هي دائرة محكمة الإغلاق من التصورات الجامدة التي لا تخلو من صفات الأصولية. وقد ساعده على الاطمئنان إلى سلامة توجهه الجديد، كل ما أخذ يصل إلى دائرة معرفته من تحولات في مجال الفكر الماركسي، وتأصيل أفق مفتوح من واقعية بلا ضفاف، وانفتاح على المحرمات القديمة، كافكا وجويس، خصوصاً بعد اكتمال فهم مبدأ عدم التطابق، حتماً، بين الوعي الإيديولوجي والإدراك الجمالي. ولذلك ما كان العلم بموقف إليوت الرجعي الكاثوليكي بحائل دون وصوله إلى ذرى الفن الذي يجاوز الإيديولوجيا ويفضحها، تماماً كما فعل بلزاك الذي كان إبداعه ينقض معتقداته السياسية وانتماءاته الطبقية وتحزباته الدينية فيما أكد مؤسسا الماركسية في النظرات التي لم تلق الأضواء عليها إلا بعد التحرر من الدوغماتية. وبالطبع، كان على صلاح أن يواجه إدانة تخليه عن طريق الرفاق، والنظر إليه من منظور سوء الظن الذي استمر قائماً، مقروناً باتهام مضمر، ظل يلاحقه طوال حياته. وهو موقف شبيه إلى حد ما، ومع بعض الاحتراز، بموقف يوسف إدريس، وتحوله عن الرفاق المتحزبين، وإبحاره صوب أفق مغاير. أما أفق صلاح فقد كان مفتوحاً على الوجودية تحديداً، وذلك في موازاة غير عدائية مع أفقه القديم. وقد شجعه على ذلك ترجمة الكثير من الأعمال الإبداعية والفكرية للوجودية لكل من سارتر وكامي وسيمون دي بوفوار وغيرهم، والأعمال الفلسفية الكبرى التي نهض بعبء ترجمتها عبدالرحمن بدوي مترجم"الوجود والعدم"، وذلك بعد أن ظل يدعو إلى نزعة وجودية إنسانية لم يكن لها إلا صدى سلبي في دوائر الماركسيين والشيوعيين الأصوليين. وكانت مجلة"الآداب"التي تبنّت نشر الديوان الأول لصلاح عبدالصبور، وظلت تنشر له، في حال اقتراب مستمر مع الوجودية، وتولّت مع غيرها من دور النشر اللبنانية ترجمة الكثير من الأعمال الإبداعية والفكرية للوجودية التي أكسبت التيار القومي بعده الإنساني الذي جعله أقدر على أن يقف موقف النقيض من تيار مجلات:"شعر"وپ"حوار"وپ"أدب"وغيرها من المجلات التي كانت تعبيراً عن الانتماء الليبرالي بمعناه الأميركي تحديداً، ولا تتردد في قبول دعمه المادي والمعنوي على نحو ما تكشّف أخيراً في كتاب"الحرب الثقافية الباردة: الاستخبارات المركزية الأميركية وعالم الفنون والآداب"الذي كتبته ف. س. سوندرز وترجمه الصديق طلعت الشايب ترجمة متميزة، ونشر في"المشروع القومي للترجمة"قبل أن يتحول إلى"المركز القومي للترجمة". وكان استبدال الوجودية بالماركسية استبدالاً ترك أثره في شعر صلاح، وأتاح للبذور الكامنة المنطوية على تيمتي"الليل"و"الحرية"فضلاً عن"التوحد"الذي هو الوجه الآخر من"التفرد" الاندفاع والبروز، وذلك في المدى الذي تأصلت فيه رؤية إنسانية للعالم. وقد ظلت هذه الرؤية تتدعم بالتحولات الإيجابية التي كانت تتراكم في الدوائر الإبداعية الماركسية. أقصد إلى الدوائر التي شهدت، منذ الأربعينات، انقلاب بريخت على المسرح الأرسطي، وتأسيسه مسرحاً مغايراً، هو المسرح الملحمي الذي يقوم على"التغريب"لا"التطبيع"، فالنص المسرحي، كالفعل المسرحي، في مدى الملحمية التي تنأى بالمتفرج عن الاندماج في النص بصفته عالماً خيالياً يغدو طرفاً فيه، وتستبدل بذلك تغريب المعالجة بما يباعد ما بين المتفرج والتقمص الوجداني لما يراه، فيظل دائماً على مسافة تتيح له التأمل والحكم على ما يرى، في حال من الوعي اليقظ لا الوعي المخدر الذي كان يستغرقه الخيال في المسرح غير الملحمي، ويدمجه في النص وهم الحائط الرابع الذي كان يعبره المشاهد ليغدو مراقباً خارجياً، أو مشاهداً تغلبه مشاعر التعاطف والاتحاد بما يدنيه من الفعل المسرحي الذي ينجذب إليه، تعاطفاً، أو اتحاداً وجدانياً، أو تقمصاً... إلى آخر تلك المبادئ التي نقضها بريخت في مسرحه، ليبقي على المتفرج ملكاته النقدية التي تضع كل ما على خشبة المسرح موضع المساءلة، في حال يدنو من الحياد العقلي. وما أكثر المعارك التي خاضها برتولت بريخت مع كهان النظرية الماركسية في الأدب، خصوصاً جورجي لوكاش التي دارت بينه وبريخت صدامات فكرية، كانت تجعل لوكاش يتهم بريخت بالخروج على استمرار التقاليد الأرسطية التي ارتدت أقنعة الواقعية، بينما كان بريخت يتهم لوكاش بأنه يريد توثين الفن، وأن استغراقه في نقد إبداعات القرن التاسع عشر الواقعية، جعله يفرض معاييرها على زمن مغاير، يسعى إلى التحرر من الأوثان التي أخذ لوكاش على عاتقه حمايتها وفرض منطقها على الآخرين في زمن غير زمنها. ولم يكن من الغريب أن يقرأ صلاح عبدالصبور مسرح بريخت، وأن يجمع إليه مسرح العبث الذي رأى فيه معادلاً موضوعياً لبعض الواقع الذي يعيشه، والذي انتهى إليه حكم العسكر في مصر وهيمنة أنظمتهم التسلطية، في مواجهة المواطن العاري من أي حماية، تماماً كما حدث في"مسافر ليل". ولم يفت صلاح الإفادة من بعض حيل التغريب البريختي في مسرحه الملحمي، خصوصاً حين يطرح العرض على المشاهد أسئلة، يطلب منه المشاركة في العرض بالإجابة عنها، كما حدث في"بعد أن يموت الملك". ولم يقتصر إعجاب صلاح ببريخت على مسرحه فحسب، بل امتد الإعجاب إلى شعره، خصوصاً القصائد التي ترجمها رفيق صباه عبدالغفار مكاوي. ومنها ترجمة القصيدة التي استدل بها صلاح على بعض آرائه في كتابه"حياتي في الشعر". أعني القصيدة التي تبدأ على النحو الآتي: حقاً إنني أعيش في زمن أسود الكلمة الطيبة لا تجد من يسمعها والجبهة الصافية تفضح الخيانة والذي ما زال يضحك لم يسمع بعد بالنبأ الرهيب أي زمن هذا؟ الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة لأنه يعني الصمت على جرائم أشد هولاً ذلك الذي يعبر الطريق مرتاح البال ألا يستطيع أصحابه الذين يعانون الضيق أن يتحدثوا إليه؟ وتنتهي القصيدة الطويلة بتوجيه خطابها إلى الأجيال الجديدة تماماً على نحو ما فعل البطل الشاعر في مسرحية"ليلى والمجنون": آه، نحن الذين أردنا أن نمهد الطريق للمحبة لم يستطع أن يحب بعضنا بعضاً أما أنتم فعندما يأتي اليوم الذي يصبح فيه الإنسان صديقاً للإنسان فاذكرونا وسامحونا. وأغلب الظن أن الأسطر الأخيرة من القصيدة كانت تتجاوب مع ما انطوى عليه وعي صلاح من اتهام الرفاق القدامى الذين رأوا في تباعده عن الواقعية الاشتراكية، وانفتاحه على غيرها، نوعاً من الخيانة، بينما كان صلاح يراه نوعاً من الأمانة مع النفس.