الفن السابع على موعد في الأيام المقبلة مع موجة سينمائية قديمة متجددة: سِيَر نجوم الغناء التي تجتاح الغرب والشرق على حد سواء ... لكن مع فارق لا يمكن تجاهله، ففي حين تواجه التجارب العربية الإخفاقات ولو نسبياً، تقابل التجارب الغربية نجاحات كبيرة وصولاً الى تعميمها والسعي نحو مزيد من قصص أهل الموسيقى، خصوصاً تلك التي تمتلك مفاتيح النجاح، وتلتف حولها النسبة الأكبر من الجماهير. وفي هذا السياق تُشرع الأبواب السينمائية قريباً لعروض تضم مجموعة وجوه وأصوات تركت بصمة لافتة في تاريخ الموسيقى العالمية، مثل بوب ديلان ومارفين غاي وجايمس براون وميلز دايفيس وكايت مون وجانيس جوبلن وإيفان كورتيس... ومنذ الآن يبدو أن الفيلم الأكثر إثارة للجدل بين سير هؤلاء سيكون فيلم"لست هناك"الذي يحمل توقيع تود هانيس عن سيرة بوب ديلان التي لن تمر مرور الكرام... لا لأن شخصية ديلان مثيرة للجدال بحدّ ذاتها، فمارتن سكورسيزي سبق وتعرّض لها من خلال فيلم بلغت مدته 3 ساعات و20 دقيقة من دون أن يثير هذا الشعور. أما فيلم هانيس فلا شك سيقال الكثير عنه، خصوصاً في ما يتعلق بالأسلوب الذي اتبعه المخرج، إذ سيتقمص شخصية ديلان أكثر من ممثل، من الرجال، لكن من النساء أيضاً. وهنا كل الحكاية. فهل يمكن مثلاً تخيل النجمة كايت بلانشت في دور رجل، خصوصاً حين يكون هذا الرجل بوب ديلان احد أبرز الراسخين في الذاكرة الشعبية من بين مطربي الروك؟ قد يكون السؤال بحدّ ذاته غريباً، لكنه ليس كذلك بالنسبة الى المخرج الذي أسند مهمة تجسيد الشخصية الى بلانشيت التي لن تكون وحدها بوب ديلان على الشاشة. سيكونه أيضاً ريتشارد غير وكريستيان بايل وهيث ليدغير وسواهم... وإذا كان كثر يتوقعون ان يثير فيلم ديلان ضجة بعد عرضه، فإن الضجة بدأت تحوم منذ الآن حول الفيلم الذي تحدث عن سيرة مارفين غاي، بل منذ بدأ الحديث عن تحويل لوران غودمان سيرة هذا الفنان الى عمل سينمائي. إذ سرعان ما دبت المشاكل بين الجهات المعنية، وفي المحصلة لم تحظ المخرجة بحقوق الكثير من أغنيات ذلك العصر الذهبي، ما سيضع المكتبة السينمائية في الفترة المقبلة، أمام عملين مستقلين. الأول هو"قصة حياة مارفن غاي"ويصور السنوات الذهبية من حياته وسيرته، والثاني فيلم SEXUAL HEALING من إخراج غودمان الذي يصوب اهتمامه الى الوجه الآخر، ويصور سنوات أفول نجم غاي ونفيه الطوعي الى أوروبا ثم نهايته المثيرة للشفقة والحزن. سير مأسوية النهايات الحزينة بالذات ستطبع الأفلام الأخرى، وكأن قدر المشاهير النهايات التعيسة. وهكذا تعود السيرة المأسوية لجانيس جوبلن الى الضوء من خلال فيلم"الإنجيل بحسب جوبلن". ويصور هذا العمل صعود الفنانة الى القمة ثم وفاتها بجرعة زائدة من المخدرات عن 27 سنة. والدور الذي يمثل جوبلن هو الدور الذي طالما صارعت المغنية بينك من اجله، لكن الاختيار رسا في النهاية على زوي ديشانل. وليست بينك الوحيدة التي حلمت بتجسيد شخصية هذه المغنية على الشاشة، فرينيه زيللفغر اقتربت من هذا الحلم من خلال مشروع فيلم آخر كان من المفترض ان يحققه روبرت بنتون، قبل ان يؤجل الى ما لا نهاية. ومثلها ليلي تايلور في مشروع أقدم لم ير النور أيضاً... وما يقال عن زيللفغر وتايلور يقال أيضاً عن اسماء اخرى مثل سكارلت جوهانسون وبريتني سبيرز، وسواهما ممن جذبتهن سيرة جوبلن ونهايتها المأسوية. هذه النهاية بالذات نستعيدها في فيلم آخر، ولكن هذه المرة عن عضو فرقة"THE WHO" كايت مون. فهو مثله مثل جوبلن توفي بجرعة مخدرات زائدة عن عمر 32 سنة، ويجسد شخصيته مايك مايرز بطل"أوستين باورز"و"شريك" في فيلم من الواضح أن محوره الأساس سيكون تلك الفرقة وامجادها التي تحققت في الستينات والسبعينات، وصولاً الى المجد الذي تجسد في كايت مون الذي قضى وهو في عز مجده. أما مأساة إيفان كورتيس أحد أعضاء فريق جوي ديفيزيون أسطورة سنوات"الموجة الجديدة"وانتحاره شنقاً في الپ24 من عمره، فتعود الى الضوء من خلال فيلم بالأبيض والاسود بعنوان control من توقيع روك انتون كوربين. واللائحة تطول بأفلام مماثلة قيد التحضير ومشاريع افلام عن هذا المغني او ذاك... من هنا السؤال الذي يتبادر الى الذهن: ما سرّ هذه الهجمة المتجددة اليوم على أفلام سير المغنين والموسيقيين؟ من يعود قليلاً الى الوراء، وتحديداً الى سنة 2004 إبان إنجاز فيلم"راي"عن أسطورة الغناء راي تشارلز، يجد الجواب الشافي. يومها لم يكن أحد يتوقع ان يفتتح هذا العمل موجة جديدة في السينما. لكن نجاح"راي"الكبير ووصول بطله جايمي فوكس الى أرفع الجوائز الفنية الأوسكار لم يكونا ليمرا مرور الكرام. بل على العكس فتحا شهية السينمائيين الى هذا النوع السينمائي الذي كان غاب فترة، على رغم جمهوره الكبير، واستقطابه النقاد والناس العاديين معاً. وليس غريباً استثمار ظاهرة"راي"، إذ راح صناع السينما يبحثون عن مشاريع مماثلة، الى ان ولد فيلم"واك ذا لاين"عن سيرة المغني جوني كاش على أمجاد سيرة راي تشارلز، مشكلاً حدث عام 2005 السينمائي، إذ أعاد سيرة الرجل ذي الرداء الأسود بعدما غيبه الموت سنة 2003... وأعاد أسطواناته الى الضوء، بحيث سجلت العام الماضي ثاني أعلى المبيعات بين الاسطوانات الأميركية قدر الرقم بنحو خمسة ملايين أسطوانة. وفي الموسم الحالي برز فيلم"دريم غيرلز"الذي نالت عنه جينيفر هادسون أوسكار افضل دور ثانوي، وايضاً فيلم"لا موم"عن حياة إديت بياف الذي حطم كل الأرقام في فرنسا، وفاق عدد متفرجيه فيلم"إميلي بولان"الذي كان يعتبر الأكثر مشاهدة من الجمهور الفرنسي حتى اليوم... من الاسطورة الى الانسان كما يبدو، يحوي هذا النوع من السينما كل مقومات النجاح وجذب الجماهير العريضة، شكلاً ومضموناً. ففي الشكل، الغناء والموسيقى والرقص مادة جذب لا تضاهى. وفي المضمون يزخر هذا النوع بالحكايات الأسطورية لحلم الصعود الى القمة، ومجابهة الصعاب، وسخرية القدر الذي يتحكم بمصائر المشاهير، والفضائح والأحداث المأسوية... وكلها صفات لا تغيب عن سير النجوم في العالم العربي، لا بل تكاد تزخر بقصص وحكايات ينتظرها الجمهور، مثل العلاقة السرية التي جمعت فنانة مغمورة بمطرب مشهور، أو الزواج العرفي بين شخصيتين من الوسط الفني، أو حكايات الغيرة بين الفنانات ونصب المكائد، الخ... من هنا لا بدّ من السؤال: لماذا تنجح هذه الأعمال في الغرب وتفشل عندنا؟ ربما يكون الجواب مرتبطاً بالورثة أكثر من أي شيء آخر. ذلك ان الفنان، حين يرحل يصبح ملكاً لأهله أو قبيلته - حتى وإن كانت لم تتعرف إليه طوال حياته إلا حين تتوخى منه مكسباً -. واللافت انه ما أن يحكي سينمائي ما عن مشروع لهذا الفنان او ذاك حتى تثور العواصف. عواصف تختلط فيها مخاوف"الفضيحة"مع مطامع الربح. وبما ان هذه المشاريع لا تنجح إن لم تصل الى التعبير الصريح عن حياة الفنان، يمكننا ان نتصور النتيجة. والنتيجة مثلاً، بالنسبة الى فنانة كبيرة مثل أسمهان، هي تلك التي تندلع في كل مرة يحاول فيها احد الدنو من حياتها. ظاهرياً يبدو حظ ام كلثوم أفضل: فيلم ومسلسل أعاداها الى واجهة الحدث الثقافي بعدما كان غناؤها الرائع وحده يؤمن وجودها الدائم. كثيرون فرحوا بالفيلم والمسلسل. ولكن، هل حقاً عرفنا، إذ رأيناهما، أشياء صادقة وحقيقية عن ام كلثوم؟ ما يقال عن أم كلثوم يقال عن"حليم"الذي سال حبر كثير حوله، ولكن هل قال الفيلم كل شيء؟ ثم هل على العمل الفني ان يقول كل شيء؟ ابداً... ولكن كي يتحول العمل الفني الى عمل حقيقي، خصوصاً حين يتعلق الأمر بأبطال الغناء، أبرز أساطير ازماننا الحديثة، قد يكون على العمل، وقبل أي شيء آخر، أن يعيد الفنان، وخصوصاً بعد موته من الأسطورة الى الإنسان. والأكيد أن ما صنع ويصنع نجاحات غالبية الأفلام التي تناولت وتتناول حياة المغنين اليوم، إنما هو ذلك البعد التراجيدي الذي تتنطح السينما للتعبير عنه. فلولا ذلك البعد ما كان لفيلم"راي"أن يقنع، ولما تدافع الناس لمشاهدة"لا موم"... تحديداً لأن الناس يعرفون أن فن راي تشارلز وإديت بياف، كي لا نتكلم عن الآخرين، لم يكن ممكناً لولا فجائع حياتهما. أليست الفاجعة غذاء الفن؟ إذاً؟ لا تعليق. يكفي هذا الواقع أن يمنع الورثة في عالمنا العربي من"الموافقة"على ان تدنو السينما والتلفزيون أيضاً من كبار العائلة الراحلين. وإلا فنموذج"ألمظ وعبده الحامولي"جاهز... ذلك ان هذا الفيلم الذي حاول يوماً ان يحكي حكاية عبده الحامولي وغرامه بألمظ، وقام ببطولته عادل المأمون ووردة، عرف كيف يضرب ضربته: وضع كل الحق في المأساة على القصر الملكي المصري... من دون أي اعتبار لداخلية بطليه المغنيين. وكم كان سهلاً في عهد ثوري، يناهض الملكية في مصر، أن يدان القصر الملكي لإساءته الى حياة مغنيين كبيرين. في سينما اليوم أميركية وأوروبية، ليس هذا هو المهم. المهم هو ان يصور الفيلم حياة الفنان من الداخل، لهيب روحه، اللهيب الذي يصنع فنه الكبير، والذي يستعر في كل مرة غنى فيها. والأكيد ان هذا التصوير هو الذي يحصد العجب اليوم. فإذ زالت المحظورات التي كانت تحول دون وضع حقيقة الإنسان - الفنان على الشاشة، صار في إمكان السينما ان تقول كل شيء... ثم ما معنى السينما إن لم تقترب من حياة بوب ديلان أو جوبلن أو مارفن غاي أو إديث بياف، انطلاقاً من هذا الپ"كل شيء"الذي هو جوهر الفن؟