تقترب سيارات الشرطة الدنماركية في شارع نوربروغادي ببطء نحو مئات المتظاهرين المتجمعين وسط الشارع التجاري الشهير للاحتجاج على قرار بلدية العاصمة كوبنهاغن اقفال "بيت الشباب". وبسرعة كبيرة يقفز رجال الشرطة من سياراتهم ويهجمون بكل قوة على المتظاهرين لتفريقهم. يهرب المتظاهرون الى زواريب منطقة نوربرو ويختفون في مداخل البنايات. ولكن بعد انسحاب رجال الشرطة الى داخل سياراتهم المصفحة ضد الحجارة وقنابل المولوتوف يخرج المتظاهرون ليعيدوا سيطرتهم على الشارع من جديد. هكذا كان مسرح الاحتجاجات في كوبنهاغن قبل اسابيع. عمليات كرّ وفرّ امتدت من العاشرة ليلاً حتى الرابعة فجراً لفترة ثلاثة ايام متتالية. سبب التظاهرات أن البلدية باعت"بيت الشباب"الذي كان مقصداً لمئات الشباب الدنماركيين وغيرهم من الاوروبيين الذين ينتمون الى حركات يسارية، الى كنيسة"بيت الرب". انفجر الشباب غضباً ونزلوا الى الشارع لاستعادة"بيتهم"بالقوة. كان البيت المكون من خمس طبقات بمثابة مركز حر لا سلطة داخله غير سلطة الشباب أنفسهم. يمارسون هواياتهم من رسم وموسيٍقى ومسرح وكتابة القصص والاجتماع بأقران من دول أوروبية أخرى لتبادل الافكار. ولكن البلدية قررت بيعه بعد ان وجدته عبئاً مالياً عليها. وزج السياسيون رجال الشرطة في المعركة التي تطورت الى معارك شبه حقيقية في وسط نوربروغادي الشاب الدنماركي بو الذي حضر باكراً الى التظاهرات يدرس العلوم السياسية في جامعة روسكيلدي. يقف في زاوية طريق فرعي لشارع نوربروغادي. يشد كوفيته الفلسطينية التي يرتديها معظم الشباب هنا، حول وجهه، ويفتح جعبته السوداء التي تشبه كيس قماش ويسحب منها اصبعاً احمر يشبه الديناميت. يشعل خيط البارود فيه ويركض الى اقرب نقطة من سيارات الشرطة ويرميه عليها. يدوي صوت الانفجار عالياً فيختفي رجال الشرطة من الشارع كلياً وتبدأ سياراتهم تتحرك يميناً وشمالاً والى الامام والى الوراء محاولة محاصرة من يرمي المفرقعات التي لها صوت كصوت القنابل الصوتية. ولكن بو على اتصال برفاقه في الجهة الاخرى، فيعطيهم اشارة الى ان سيارات الشرطة اصبحت قريبة منه فيباشرون برشق الشرطة بالمفرقعات. انه اسلوب يستخدمه الشباب لخلق حال ضياع بين رجال الشرطة، وينجح في معظم الاحيان. ادخلُ مع بو الي مدخل بناية ونتبادل بعض الكلام فيقول:"لقد سلبونا بيتنا ونحن نريد استعادته بالسلم او بالقوة. هذه الحكومة لا تعطي الشباب اهمية كبيرة لذا نريد ان نلقنها درساً لن تنساه". ولكن ما دخل رجال الشرطة الذين يقومون بمهماتهم؟ يقول بو:"يمكن لرجال الشرطة أن يرفضوا تنفيذ الأوامر. نحن نعيش في بلد ديموقراطي ولن يتمكن احد من طردهم من عملهم في حال رفضوا مجابهتنا". يحمل بو مفرقعاته ويخرج مجدداً الى الشارع ليثبت ان الشرطة لم تتمكن بعد من السيطرة على الشارع. على رغم ان اصوات المتفجرات تدوي عالياً وتصم الآذان إلا أن العديد من سكان المنطقة اعربوا عن تضامنهم مع احتجاجات الشباب. ويقف بيتر جنسون 72 عاماً بالقرب من أحد المحال التجارية ويراقب الحرب الدائرة بين الشرطة والمتظاهرين. يسكن بيتر في مبنى داخل احد الشوارع الفرعية ويمكنه مشاهدة ما يحدث من على شرفته. يقول بيتر:"لو ان الشرطة حاولت ان تتحاور مع المتظاهرين وتركتهم يعبرون عن احتجاجهم وغضبهم ضد سلبهم"بيت الشباب"لما حصل ما يحصل الان. انا اسكن هنا منذ سنوات عدة واعرف اهمية"بيت الشباب"للكثير من الشبان والصبايا، لذا احمل الحكومة مسؤولية ما يجري". وأعلنت الشرطة الدنماركية منذ اللحظات الاولى لانطلاق شرارة التظاهرات انها لا تواجه مصاعب كبيرة في احتواء غضب الشباب الدنماركي وانما تخشى من النشاطات التي يقوم بها الناشطون الاجانب القادمون من السويد والمانيا. الشاب السويدي دانيال شلمان، 42 عاماً، علم بخبر التظاهرات من خلال صديق له فقرر السفر من مدينة كارلسكرونا السويدية الى كوبنهاغن"لدعم رفاقي في نضالهم ضد الحكومة والشرطة. انا لم اشارك في الكثير من التظاهرات من قبل ولكن شعرت أن من واجبي القدوم الى كوبنهاغن للاحتجاج على اقفال"بيت الشباب"لأنني زرته مرات عدة من قبل". دانيال شاب عاطل من العمل ويعتقد ان وجود مكان مثل"بيت الشباب"مهم جدا لابناء جيله. ولكن دانيال الذي يريد دعم رفاقه يشير الى انه لن يشارك في اعمال الشغب. خلاف ما يريده رفيقه جاك ادمي، 42 عاماً، من مدينة مالمو السويدية. فجاك ناشط في حركات اليسار وشارك في العديد من التظاهرات التي شهدت اعمال شغب كما انه اعتقل مرات عدة. ويقول جاك:"من واجبي ان اشارك في هذه التظاهرات لأنني انتمي الى عائلة يسارية ناضلت طيلة حياتها ضد النظام الدكتاتوري في تشيلي. هذه الانظمة البوليسية لا تفهم الا لغة العنف ونحن لا نمارس العنف ضدهم وانما ندافع عن انفسنا. وأنا مؤمن بأن هذه الطريق هي الاسلوب الوحيد لتحقيق مطالبنا". يقول جاك كلماته تلك والنار تشتعل في حاويات النفايات في منطقة نوربرو معلنة ان التظاهرات لم تنته بعد. ولكن الشرطة الدنماركية التي استخدمت قنابل غاز مسيلة للدموع ممنوع استخدامها في التظاهرات لانها مميتة وتمكنت من حصر تلك التظاهرات والاحتجاجات بعيداً من موقع"بيت الشباب"الذي تم تدميره كليا من اجل بناء كنيسة"بيت الرب". تمكنت الشرطة من اخماد ما وصفته ب"عمليات الشغب"عبر اعتقال اكثر من 007 ناشط من حركات يسارية مختلفة. وعلى رغم مرور اسابيع على قمع التظاهرات في كوبنهاغن فإن اصداء"الحرب"بين الشرطة والمتظاهرين مستمرة. فبعد ان فضحت احدى الصحف المحلية ان الشرطة استخدمت قنابل غاز لا تستخدم الا عند اقتحام منازل فيها مسلحون ويشكلون خطراً على حياة رجال الشرطة وانها في بعض الاحيان مميتة أقرت الشرطة انها استخدمت تلك القنابل من طريق الخطأ. ولكن حصلت الشرطة على تقدير من الحكومة الدنماركية لتمكنها من اخماد التظاهرات. وتبين انها اتبعت اسلوباً فعالاً لذلك هو اسلوب الاعتقالات الجماعية. فخلال ثلاثة ايام اعتقلت الشرطة اكثر من 007 متظاهر، بعضهم لا يزال ينتظر محاكمته حتى الآن.