أمام القمة العربية القادمة فرصة سانحة في مجال تسوية الصراع مع إسرائيل يجب عدم إغفالها أو تضييعها أو تخريبها، إذ قد تكون الفرصة الوحيدة المُتاحة لفترة طويلة قادمة. فالظروف الموضوعية مواتية لانتزاع زِمام المُبادرة ووضع إسرائيل على المَحك وإجبارها على الاختيار بين احتمالين يجب أن لا يكون هناك ثالث لهما. فإما أن تَقبل بإنهاء احتلال الأرض العربية والتوصل إلى تسوية سياسية مع العرب مجتمعين، وإما أن ينكشف الغِطاء عنها ويتعرض وجودها للخطر. أما بقاء وضع الاحتلال كما هو عليه الآن فيجب على العرب في قمتهم إغلاق الباب بشكلٍ نهائي وفعّال أمام إمكانية استمرار انسيابيته الحالية، وهذا أمر أصبح مُتاحاً للعرب أكثر من أي وقت مضى على الإطلاق. ولكنْ لكي يتحقق ذلك فإن على العرب التصارح والتصالح فيما بينهم ليعبِّر موقفهم عن حالة اتفاق داخلي حقيقي يستطيع الصمود أمام الضغوط الخارجية المُعتادة، وإلاّ فإن إصدار بيان ختامي شِعاراتي يُظهر وحدة موقف اصطناعية تخفي تحتها العديد من الشقوق في مواقف الأطراف العربية المُتناحرة لن يُفيد، لكونه لن يؤخذ على محمل الجدّ من قِبل إسرائيل والمجتمع الدولي اللذين اعتادا على الاستفادة من حالة الشقاق العربي المزمنة. أول العوامل المساعدة التي تهيئ للعرب هذه الفرصة السانحة يكمن في عمق المأزق الذي تُعاني منه الإدارة الأميركية في المنطقة. فالفشل الذريع الذي تُمنى به السياسة الأميركية في العراق، والتداعيات السلبية للإخفاقات المُتكررة للحرب الدائرة هناك على شعبية الرئيس بوش وإدارته داخل الولاياتالمتحدة، وانتخاب كونغرس ذي أغلبية ديموقراطية ومعارض لسياسة وحرب الرئيس في العراق، وتعقّد التعامل الأميركي مع الملف النووي الإيراني بسبب المحنة الأميركية في العراق، وفشل مشروع"الشرق الأوسط الكبير"، كل ذلك أدى إلى إصابة سياسة الإدارة الأميركية في المنطقة بعطب شديد، وأدى إلى انحسار التأييد الداخلي للرئيس بوش إلى أدنى مستوياته. وأصبحت الإدارة تبحث لنفسها عن منفذ لاستعادة ولو جزء يسير من مكانتها وشعبيتها الضائعة، وقيل لها من قبل مختلف الأطراف أن إيجاد حل للقضية الفلسطينية يُعتبر الركيزة الأساس لإعادة الاستتباب والاستقرار للمنطقة. ويبدو أن عمق الأزمة التي تعانيها هذه الإدارة أدى إلى ترك هذه الرسائل أثراً مهماً يدّل أخيراً على بروز احتمالية استيعاب الدرس واستخلاص العِبر. ويُستدل على ذلك من تصريحات وتحركات وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس والتي يبدو أنها تحمل في ثناياها توجهاً جدياً لإعادة الاهتمام بملف القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي. وقد لقي هذا التوجه الجديد للإدارة الأميركية ترحيباً ودعماً من أوروبا الحليفة القوية لأميركا، نظراً لأن موقف الاتحاد الأوروبي ومعظم الدول المكونة له كان تقليدياً يعتبر الصراع الشرق أوسطي السبب الرئيسي لعدم الاستقرار في المنطقة، وكان دائماً يدعو ويعمل من أجل إيجاد تسوية مقبولة لهذا الصراع. استشعر الإسرائيليون بداية هذا التحول في الموقف الأميركي واستنشقوا فيه الخطر، كون ترجمته العملية ستقود إلى تحقيق رؤية بوش للتسوية السياسية القائمة على مبدأ الدولتين القاضي بإنهاء الاحتلال للأرض الفلسطينية، وانسيابياً للأرض العربية المحتلة. وابتدأ الضغط الإسرائيلي المباشر وغير المباشر ينهال على الإدارة الأميركية كي لا"تضعف"أمام المطالبات العربية المؤيَدة أوروبياً، وتستمر في تبني الموقف الإسرائيلي للتسوية. ولكن المفارقة التي يجب الانتباه لها في هذا المسألة أنه لم يكنْ أمام الحكومة الإسرائيلية، لضعفها ولفقدان رئيسها أدنى مُقومات التأييد والشعبية في الشارع الإسرائيلي، أي إمكانية لإنقاذ نفسها سوى بالتوجه من قبلها أيضاً لإنعاش عملية التسوية السياسية، والتي تُمثّل المخرج - المهرب لها أمام الجمهور الإسرائيلي اليائس منها والغاضب عليها. أمام الضرورة الذاتية والحاجة الإسرائيلية من جهة، ولكن بفعل الضغط الإسرائيلي من جهة أُخرى، بدأت الإدارة الأمريكية مساعيها الجديدة لإنعاش عملية التسوية السياسية، ولكن دون التخلي عن الشروط الإسرائيلية. ومع أن رئيس الحكومة الإسرائيلية أعرب علانية عن إمكانية التعاطي مع مُبادرة السلام العربية لعام 2002، إلاّ أن هذا الإعراب جاء بقصد الالتفاف على هذه المُبادرة وللتضييق على التوجه الأميركي الجديد، وذلك من خلال المُطالبة بتعديل بنود المُبادرة العربية وإفراغها من مضمونها، وجعلها تُلائم الشروط الإسرائيلية. فإسرائيل ستوافق على هذه المُبادرة إن قَبِل العرب بإسقاط حق العودة واستعادة جميع الأرض المحتلة بما فيها القدسالشرقية. أي أن إسرائيل تُريد من العرب تعديل المُبادرة من تلقاء أنفسهم، أو اعتبارها موقفاً عربياً ابتدائياً، وليس نهائياً، للدخول بموجبه في مفاوضات مع إسرائيل، تؤدي في النهاية إلى القبول بهذا التعديل. وعلى هذا الأساس، تم خلال الفترة الماضية حراك أميركي واسع لتحريك العرب في هذا الاتجاه الإسرائيلي. وما مكوكيات الوزيرة رايس إلاّ شواهد على ذلك. إذاً العرب مطالبون بتعديل المُبادرة العربية لإنقاذ سياسة الإدارة الأميركية في المنطقة وإنعاش شعبية بوش في الولاياتالمتحدة، وتوفير طوق نجاة لأولمرت في إسرائيل. ولكن الاستجابة العربية لمطلب التعديل تُطيح بالحقوق العربية وتُغلق المجال أمام الفرصة السانحة المُتاحة. وكأن أصحاب المأزق في الولاياتالمتحدة وإسرائيل يُريدون إنهاء مأزقهم ليس بالتوصل لتسوية مقبولة على العرب، وإنما بتصدير مأزقهم إلى العرب. المطلوب من القادة العرب قراءة وقائع المشهد الحالي بدقة وموضوعية، وبالتالي الصمود أمام الضغوط الأميركية ذات المنشأ الإسرائيلي، وعدم الاستجابة لها في القمة العربية. فهذه الضغوط لن تصمد لأن الضاغطين يمرّون بفترة عصيبة، وهم بحاجة إلى الروافع، وليس العكس. ولكن مجرد الصمود العربي أمام هذه الضغوط لن يكفي لتحقيق الأهداف العربية، بل على القمة العربية أن تُشكّل للعرب حالة جديدة تضعهم من خلالها في موقع الهجوم عوضاً عن البقاء في خانة الدفاع. فتحقيق التسوية بالشروط الأساسية التي حددتها المُبادرة العربية أمر يجب أن لا يُخجل منه أو يُعتذر عنه لأي كان. لكي يُستفاد من الفرصة السانحة بما يُخرج العرب من خانة الاتهام الدائم الموجه ضدهم بالسلبية، ولكن دون انتقاص لحقوقهم الوطنية الشرعية، عليهم أن ُيخرجوا أنفسهم من حالة الاعتذارية ويشنوا هجوماً ديبلوماسياً مُركّزاً لفرض رؤيتهم وموقفهم فيما يتعلق بملف التسوية السياسية. عليهم، أولاً، عرض موقفهم بهذا الشأن بأقصى الوضوح ودون أي التباسات أو غموض على الإطلاق. عليهم أن يخاطبوا العالم بجلاء عن الاستعداد العربي الجماعي للتوصل إلى تسوية سياسية مع إسرائيل وفق مبدأ"الأرض مقابل السلام"، وأنه دون تحقيق هذا المبدأ فإن التسوية لن تتم على الإطلاق. التأكيد على هذا المبدأ لا يعني بالضرورة عدم الدخول في مفاوضات مع إسرائيل حول الجزئيات، وإنما يُوضح أن العرب ليسوا بوارد مفاوضات وحلول تجتزئ أرضهم المحتلة بسبب انتصار إسرائيل في حرب عام 1967. ثانياً، على العرب إيضاح، وبما لا يقبل الشك أو التأويل، أن إسرائيل ستخسر جرّاء عدم موافقتها على العرض العربي. فهذا العرض متناغم مع رؤية بوش لتحقيق التسوية من خلال إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية. فإما أن تقبل إسرائيل بمبدأ الدولتين وتطبيقه وفق قرارات الشرعية الدولية، وإما أن تعرف بأن العرب مجتمعين، وفي مقدمهم بهذا الشأن يجب أن يأتي الفلسطينيون، سيعيدون النظر في مسألة قبولهم هم بمبدأ الدولتين. أي أن القبول بمبدأ الدولتين يجب أن يكون متبادلاً، فإما أن يقبله الطرفان أو يرفضه الطرفان. وإذا لم تستجب إسرائيل للدعوة العربية لتحقيق التسوية السياسية، فيجب أن يكون مُعلناً وبوضوح، ومن القمة العربية، أن حلّ الدولة الواحدة سيُصبح مرفوضاً من العرب، إذ أنهم لن يقبلوا بأن تُحلّ القضية الفلسطينية من خلال إيجاد كانتونات تُشكّل معازل للفلسطينيين كما هو حاصل حالياً. وثالثاً، ولكي تؤخذ المُبادرة العربية التي يجب أن لا تُعدّل، بل يجب التأكيد عليها كما هي، على محمل الجدّ من قِبل إسرائيل والأطراف الدولية، يجب أن لا تبقى مفتوحة زمنيّاً، تستفيد منها إسرائيل متى شاءت، وتَضرِب بها عرض الحائط متى أرادت. لذلك مطلوب من القمة العربية تحديد سقف زمني لهذه المُبادرة، فإما أن يتم قبولها من قِبل إسرائيل فيتم الدخول حينها في مرحلة تحديد الإجراءات التفصيلية، وإما أن تستمر إسرائيل بممارسة الغموض بشأنها. يجب أن يكون معلوماً بأن اتبّاع إسرائيل للمنحى الثاني سيؤدي بالضرورة إلى سحب هذه المُبادرة عن الطاولة عند انقضاء سقفها الزمني المُحدد سلفاً. كي يُؤخذ العرب بجدّية من قِبل إسرائيل والولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي، عليهم أن يتعاملوا مع هذه الأطراف بالجدّية الضرورية واللازمة. توجد فرصة مُتاحة لذلك الآن إن أراد العرب استغلالها، والقمة العربية هي المحّك للقيام بذلك. * اكاديمي فلسطيني - جامعة بيرزيت