الدول العربية صاحبة أكبر امبراطورية نفطية يعرفها التاريخ وأهم موقع استراتيجي فريد، وتلك الثروة وهذا الموقع خلقا من هذه الدول خصوصاً دول الخليج العربي قوة، وهذا جعل الكبار يتصارعون على المنطقة ويتسابقون إلى الفوز بنصيب من الكعكة الجوهرة في ظل نظام دولي لا يعرف ولا يعترف إلا بالقوة. وإذا كانت عيون العمالقة شرقاً وغرباً مفتوحة على هذا الكنز الفريد العالم العربي والكل يطمح بنصيب من الغنيمة وسط صراع دولي ضاع معه قانون العدالة وتحكم قانون الغاب، ذلك أن هذه الدول استمرأت هذا القانون - قانون الغاب -، لأنها وجدت النظام العربي للأسف يعيش الانكسار والتشتت وخيبة الأمل وظروف مأسوية نجزم أن العالم العربي لم يعرف لها مثيلاً منذ ميلاد جامعته العربية العجوز الذي جاء قبل تأسيس منظمة الأممالمتحدة بثلاثة أشهر عام 1945. وحال الأمة العربية اليوم تثير الحزن مثلما تثير الشفقة، فالمنطقة برمتها غارقة في بحر من الأزمات والصراعات والحروب والانقسامات والمكائد والمؤامرات من الداخل والخارج. ومن أجل رأْب الصدع ولمّ الشتات وتخفيف آثار النكبات والنكسات الخطيرة التي خلفت آلاماً موجعة وجراحات غائرة في جسد الأمة المهترئ، نتيجة الصدمات والتصدعات العديدة التي تلقاها هذا الجسد النحيل على مدى أكثر من نصف قرن تنعقد القمة العربية في العاصمة السعودية الرياض الاسبوع المقبل بعد جهود مضنية بذلتها الحكومة السعودية وجهود مكوكية مرهقة قام بها السعوديون في محاولة جادة، لتوحيد الرؤى والتوجهات، من أجل الوصول إلى حلول معقولة للقضايا العربية الملحة وما أكثرها وما أشد تعقيدها! ولعل أكثر القضايا إلحاحاً هي قضية فلسطين، هذا السكين الغائر في قلب الأمة والجرح النازف ألماً ودماً وحسرةً، هذه القضية التي يتجرع المسلمون والعرب كأسها المرّة منذ عام 1948، حين احتلت إسرائيل الاراضي الفلسطينية برضى، بل بتواطؤ الدول الغربية التي ترفع عقيرتها اليوم من دون خجل وتتحدث عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، ولم تكتف إسرائيل بما احتلت من الأراضي الفلسطينية، بل ألحقتها بأراضٍ عربية أخرى عام النكسة 1967، حرر بعضها ولا يزال الجولان ومزارع شبعا تحت الاحتلال. ولم تنتهِ جراح العرب العميقة عند هذا، فقد اختطفت منهم الادارة الأميركية بمحافظيها أو قل شياطينها الجدد جهاراً نهاراً بلاد الرافدين واحتلت أميركا العراق بقوة السلاح، وقبل ذلك بضعفنا وتشتتنا وهواننا على الناس، والمحتلون والمستعمرون الجدد لم يدخلوا من حدودنا، ولكنهم دخلوا من عيوبنا، وهناك جرح آخر وما أكثر جراحنا هو أفغانستان التي ما أن انعتقت من الاحتلال السوفياتي حتى وقعت في براثن الاحتلال الإمبراطوري الأميركي. وهناك لبنان الذي يصارع أزمته الداخلية بين أكثرية ومعارضة وتدخلات خارجية يدخل التمزق والشتات في النظام العربي الذي يمزق جسده الضعيف ليزيده هزالاً، والوضع الصومالي المخزي وأزمة دارفور التي في طريقها الى التدويل بأيادٍ أجنبية. كلها جراحات وملفات خطيرة وجسيمة، بل هي تحديات يواجهها النظام العربي اليوم ومرشحة لتطرح على قمة الرياض، وهذه التحديات الجسام لم يواجه العرب مثلها منذ انعقاد أول مؤتمر قمة لهم في أوائل الستينات من القرن الماضي، وكل تلك القضايا قنابل موقوتة وضعتها أيد أجنبية وعلى مؤتمر الرياض نزع فتيل انفجار تلك القنابل وإبطال مفعولها. ونذكّر هنا - وذلك لبث روح الأمل ولتأكيد الثقة في قدرة القيادة السعودية - بمؤتمر الخرطوم الذي لَمْلَم الجراح بعد نكسة 1967، وكانت الجهود السعودية في ذلك المؤتمر كالبلسم الذي عالج الجراح، وجاء انتصار العرب 1973 على العدو الصهيوني، بقيادة السعودية ومصر وسورية، ملبياً لبعض طموحات الشعوب العربية آنذاك التي انتظرت كثيراً لرد بعض الاعتبار. ولعل ما يعزز الأمل ويقوّي التفاؤل بأن القيادة السعودية التي تقف وراء انعقاد هذا المؤتمر نجحت في محاولاتها التي قامت بها، من أجل لمّ شمل الأمة العربية وتضميد جراحاتها، وعلى سبيل المثال فهي القيادة التي أوقفت نزيف الدم اللبناني في حربه الأهلية الطويلة باتفاق الطائف الشهير، ورعت ميثاق مكة للمجاهدين الأفغان واتفاق مكة بين القوى العراقية ومبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز التي أصبحت مبادرة عربية للسلام، وأخيراً اتفاق مكة بين الفصائل الفلسطينية. فالملك عبدالله بن عبدالعزيز صاحب حكمة وبُعْد نظر ورأي سديد حظي باحترام أمته والعالم ورعى أخيراً اتفاق مكة الذي ذكرناه فحقن الدماء الفلسطينية وأوقف الاقتتال وتكوّنت حكومة الوحدة الوطنية واعترف بها العالم والاتحاد الأوروبي، ماعدا بالطبع أميركا وإسرائيل! وتستمد هذه القمة أهميتها من أهمية المكان ومن مكانة الداعي، فالقمة ستنعقد في الرياض ودعا لها ويترأسها خادم الحرمين الشريفين ومكان انعقاد القمة، أي أن السعودية لها أهمية كبرى دينية وسياسية واقتصادية وثقافية بين أمتها والمنظومة الدولية، والداعي الملك عبدالله عُرِف بصدق التوجه والتفاعل مع الأحداث وبالحكمة ونفاذ البصيرة والقدرة على تقديم الاقتراحات والحلول، وصولاً إلى عدالة المعالجة لكل قضية بوصفة سعودية محايدة، تتجاوب وأهمية الحدث، ونزع فتيل أزمته قبل اشتعاله. لا يختلف اثنان في أن القمم العربية على مدى الستين عاماً الماضية واجهت العديد من المعضلات والكثير من الألغام المزروعة والحزازات المترسبة داخل البيت العربي الى جانب التدخلات الخارجية التي تضعف الجهود وتستلب إرادة الأمة بإملاءات تمسُّ سيادة النظام العربي في الصميم. ولا يزال وللحسرة والمرارة بعض القادة العرب - وإن كانوا قلة - يغرّدون خارج سربهم العربي، وتجسد هذا بخاصة قبل انعقاد القمم العربية الأخيرة، لاستعراض العضلات وإطلاق الشعارات والخطب والتصريحات الرنانة، لتسليط أضواء الإعلام على ذواتهم الزائفة، محولين القمم إلى منبر لأغراضهم الشخصية بعيداً عن معالجة هموم الأمة والمخاطر المحيطة بها، وبدلاً من أن يقدم هؤلاء القادة الحلول يقفون ضد كل مشروع للنهوض بالأمة! واليوم يشهد التاريخ العربي انعقاد قمة لم تواجه أية قمة سابقة ما تواجهه من التحديات الكبرى والقضايا الشائكة والمشكلات العديدة، وكلها يربطها خيط التعقيد المتعرج بشكل لم يسبق لقادة الأمة وشعوبها مواجهته على رغم فداحة ما واجهه العرب من قضايا عصية في القرن الماضي، هذا لأن قضايا الألفية الثالثة المشؤومة تنخر في جسد الأمة على الصعد المجتمعي والسياسي والاقتصادي بشكل يهدد الكيان كله من رأسه إلى أخمص قدميه، مع غياب الحكمة والرؤية الموحدة تجاه القضايا الكبرى والمخاطر التي تحيط بالأمة. إن المنطقة العربية أصبحت بؤرة للصراعات منذ نشأة الدولة العبرية، إذ منذ ذلك الوقت وإسرائيل تعمل على تعزيز وجودها وزيادة رقعة أراضيها، وفي المقابل تسعى الأمة العربية من أجل استعادة الحق السليب وهو ما اصطلح على تسميته ب"الصراع العربي - الإسرائيلي"أو"القضية الفلسطينية"التي لم يجد العرب سبيلاً إلى حلها منذ عام 1948، ونتلمس لهم بعض العذر بسبب الدعم الأميركي الصارخ للدولة العبرية والصلف الإسرائيلي المتشنّج، ولكننا لا نجد لهم عذراً في عدم امتلاك ناصية القوة. إن القضايا التي تنتظر المؤتمر كلها من الحجم الكبير، فهناك الأزمة العراقية التي شتتت الدولة العراقية وفككت النسيج الاجتماعي، والأزمة اللبنانية التي تسبح على نهر من الخلافات الداخلية والتدخلات الخارجية، والصومال ودارفور وأخيراً - وليس آخراً - إصرار إيران على امتلاك السلاح النووي، سعياً إلى فرض هيمنة إيرانية ليس على الخليج فحسب بل على المنطقة العربية كلها! وإذا كان المؤتمر سيناقش استعمالات الطاقة النووية في الأغراض السلمية، فإن هذا الملف المهم سيضع العرب على خطوة الألف ميل التي تبدأ بخطوة لامتلاك التكنولوجيا السلمية التي تعني"القوة". كلها ملفات شائكة ومعقدة ومتشابكة تجسد النكبات والكوارث التي حلّت بالأمة وتنعكس على الانكسار الذي تمكّن من جسد النظام العربي وجامعته العربية، وأصبحت الشعوب - وكأنها في ذهول عما يحدث من حولها من عواصف قاتلة تهب على الأمة - كل واحدة أكبر من أختها، فضاع الأمل وتاه الحلم وتشتتت الطموحات! ومع هذا فنحن لا نفقد الأمل فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، والأمل ليس مستحيلاً إذا تحققت الإرادة، للبحث عن بوصلة تحدد الطريق في النفق المظلم، لتخفيف حدة الأزمات المتلاحقة، ولتحقيق بعض أحلام الشعوب، وليس مؤتمر مكة الذي تبناه ودعا له خادم الحرمين الشريفين ببعيد، والملك الصالح عبدالله بن عبدالعزيز وهو يترأس قمة الألفية الثالثة سيجد فيه الزعماء الزعيمَ الذي لا يندم كلُّ مَنْ طرق بابه، والمشيرَ الذي لا يخدع أهله، وستفتح الملفات المعقدة وتجد القضايا المزمنة الحل على يديه إن شاء الله. هذه القضايا التي طاولت النظام العربي وأبرزت هشاشته وضعفه أمام التحديات وعندما تتم معالجة هذه القضايا في مؤتمر الرياض - وهذا هو المؤمل - حينئذ نكون قد أزلنا أهم أسباب الضعف الذي أصاب جسد الأمة، فنتوقع منها أن تنهض بعد رقاد وأن تقوى بعد ضعف، وأن تتقدم بعد تقاعس ودفع عجلة نهوضها، للتغلب على الإحباطات وتجنب هيجان البراكين والزلازل من تحتها! * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية