"لو كانت إسرائيل تعلم أن ما تبقى من مستوطنة ياميت سيكون مصدر رزق لهؤلاء الصغار لكانت جمعت ركام المستوطنة بعد هدمها في نيسان أبريل1982"، يقول أحد سكان مدينة رفح المصرية عن مستوطنة ياميت، وهو يشير إلى مجموعة من الأطفال يبحثون في ركام المستوطنة عن الحديد وأي شيء يصلح للبيع في تلك البقعة الساكنة التي كانت في وقت من الأوقات أكبر المستعمرات الإسرائيلية في سيناء. ويحكي الكاتب الصحافي المصري أنيس منصور في أحد مقالاته عن مستوطنة ياميت، أنها تسببت في أزمة بين الرئيس الراحل أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك مناحيم بيغن بسبب خطأ مطبعي في صحيفة"الأهرام"التي كتبت:"قال الرئيس السادات للسيد مناحيم بيغن: أمامك مستوطنة ياميت احرثوها"- كما يفعل الإسرائيليون عادة بتجريف البيوت وحرث المزارع - وبدلاً من كلمة احرثوها ظهرت كلمة احرقوها، وهاج بيغن وماج ولعن وشتم، ونشرت الصحف الإسرائيلية:"السادات النازي يتحدث عن الحريق والإحراق بهذه السهولة وكيف نعقد السلام معه". واصلت الصحف مهاجمتها للسادات الى أن نشرت الصحف اعتذاراً عن الخطأ غير المقصود. مع الانسحاب الإسرائيلي في سيناء إثر معاهدة كمب ديفيد، بدأت عملية هدم المستعمرة في إطار عملية"اليمامة الحمراء"التي تحولت الى مواجهات عنيفة بين المستوطنين وبين قوات الإخلاء التي وصل عديدها إلى حوالى 20 ألف جندي. واستخدم المستوطنون جميع أنواع القذائف اليدوية الصنع وإطارات السيارات المحروقة لمنع إخلائهم، وعلى الجانب الآخر استخدمت قوات الإخلاء الغازات المسيلة للدموع وتطلبت العملية أكثر من ثلاثة أيام واستخدمت إسرائيل نحو 50 جرافة لتدميرها وأنهت سبعون شحنة من الديناميت وزن كل منها مئة كيلوغرام، وضعت في عشرات الملاجئ المحصنة، عملية دفن المستعمرة نهائياً في رمال سيناء، ولم يبق منها سوى كتل ركام من حجارة وحديد مكسرة وكأنها مدينة ضربها زلزال. ولكن إسرائيل لم تكن تعلم أن ما تبقى من كتل حديدية سيكون مصدر رزق لأطفال صغار في رفح لم يكونوا قد ولدوا بعد، وهم الآن في سن الخامسة ويأتون على البقية الباقية من المستوطنة حيث ما زال هناك الكنيس اليهودي أو ما تبقى منه. ويتولى الصغار كل يوم تكسير جزء منه واستخدام حديد التسليح وبيعه بالكيلو مقابل جنيه واحد حوالى 25 سنتاً. ولا يقتصر عمل الصغار على استخلاص الحديد بل أي شيء آخر البلاستيك والمسامير والأجزاء الخشبية وقطع الأرضية لبيعه بما يوازي 75 سنتاً مقابل الكيلوغرام. ويقول علاء 35 سنة وهو أحد السكان المحليين، إن الاطفال"يقومون بعمل لم تستطع الحكومة القيام به، فهم يهدمون ما تبقى من المستعمرة التي لم تستطع الحكومة الاقتراب منها، إنهم يأتون على كل ما يمثل دولة الاحتلال". يضيف ممازحاً:"لو كانت إسرائيل تعلم أنهم سيبيعون ما تبقى من المستعمرة لكانت أخذت الركام معها، وقد تطالب الآن بجزء من الأرباح". أحد الصغار 6 سنوات على الأكثر يبدو مرتاباً من النظرات المحدقة به، ولكنه يواصل عمله، وهاجسه تحقيق مبلغ مناسب قد لا يتجاوز الخمسة جنيهات أي أقل من دولار واحد. يرفض الصغير الحديث في البداية، لكنه لا يلبث أن يتعاون غير أنه لا يعرف، من كان صاحب المباني المهدمة، ولماذا لا يزال هذا المبنى قائماً الكنيس اليهودي. وكل ما يعرفه أنه يسعى لجمع أكبر كمية قبل أن تروح الشمس. وبسؤاله عن من يشتري ما يجمعه يشير إلى كبيرهم، المنهمك هو الآخر في جمع أكبر قدر ممكن من الحديد. ويوضح الأخير انه يعطي الحديد لوالده الذي يعطيه بدوره أموال زملائه يوماً بيوم.