تبدو موسوعة الانترنت المفتوحة "ويكيبيديا" Wikipedia، وكأنها قيد عملية إعادة اكتشاف هويتها وأساليب عملها، بعد أن اهتزت صدقيتها أخيراً بأثر من فضيحة مدوية. وكذلك لا يُخفي مؤسسها الأميركي جايمس ويلز، عزمه على حماية مشروع"ويكيبيديا"التي تُمثّل موسوعة مفتوحة أمام المساهمات المباشرة من جمهور الانترنت، بحسب ما يرد في موقع ذلك المشروع راهناً. ولا تصعب معرفة السبب أيضاً. ففي الاسبوع الماضي، تداولت وسائل الاعلام خبراً مفاده ان مُحرراً أساسياً في تلك الموسوعة الالكترونية، زيّف هويته وقدراته, وتصرف طويلاً على هذا الاساس. فقد دأب مُحرّر الأديان"ايسجاي"على وصف نفسه بأنه بروفسور في علوم الأديان. وعهدت اليه"ويكيبيديا"الحكم على المواد ذات الطابع الديني التي تصلها، انطلاقاً من كفاءته المزعومة. ثم تبيّن انه طالب في جامعة كانتاكي. وفي تصريح تداولته وسائل الاعلام الأميركية أخيراً، بيّن ويلز أن"ويكيبيديا"بصدد التزام سياسة للتأكد من هوية الكتاب تتضمن أساساً وضع هوية المُحرّرين بين يدي الجمهور الواسع لكي يتحراها، بدل قصر عملية التثبت من الهوية على الطاقم التحريري لتلك الموسوعة الالكترونية. وأشار ويلز أيضاً الى أعتزام"ويكيبيديا"تجديد مُحرك البحث المُستعمل فيها، لكي يصبح أكثر قدرة على التعامل مع مواد الميلتي ميديا المرئية - المسموعة. وفي المقابل، لم تلق أراء ويلز ترحيباً عند بقية طاقم التحرير والادارة. ففي تصريح الى مجلة"نيويورك تايمز"، أعربت فلورنس دو فويار، التي ينظر إليها باعتبارها خليفة ويلز في قيادة"ويكيبيديا"، عن اعتقادها بأن الشيء الأساسي يتمثّل في نوعية المحتوى، وليس هوية الكاتب. والأرجح أن للنقاش في هذه الأمور في موسوعة"ويكيبيديا"الرقمية، الذائعة الصيت والتي تنطق بعشرات اللغات، آثاراً عميقة في نقاشات من نوع صدقية المعلومات على الشبكة الالكترونية الدولية, وحرية التعبير، وأساليب التفاعل مع الجمهور, وطرق صنع المحتوى الرقمي وغيرها. تعميم الثقافة الديموقراطية وممارستها المعلوم ان"ويكيبيديا"هي موسوعة مفتوحة أمام كُتاب من مختلف الجنسيات واللغات، يتشاركون في صنعها ورفدها بشتى أنواع العلوم والفنون والآداب والأخبار، بغية تعميم الثقافة الديموقراطية والمساهمة في بناء مجتمع معرفي إلكتروني عالمي. ظهر هذا المشروع على يد الأميركي ويلز، حين كان في عمر 34 سنة، وهو يهوى النشر الالكتروني، واستند الى خبرته في إدارة موقع رقمي متخصص في التسلية ونشر الموضوعات والصور العاطفية. ويصف فكرتها بأنها موسوعة الكترونية مفتوحة"يكتبها الجمهور ويقرأها الجمهور أيضاً"، كما يعتبرها"مفاجأة العصر في القرن الأول من الالفية الثالثة". ومن المعلوم أن ويلز كان من المولعين بالنُظُم المفتوحة المصدر، مثل"لينوكس"Linux. وشارك ويلز في عدد من المشاريع القائمة على التبادل الطوعي للمعلومات والمعارف. ويعتبر أن"ويكيبيديا"استمرار لتلك الأفكار, لأنها تجسّد دائرة معارف عالمية مجانية مفتوحة ترتكز على المشاركة الجماعية لعشاق المعرفة على الانترنت على اختلاف جنسياتهم وألسنتهم. ومع انطلاقة المشروع في مطلع الألفية الثالثة، وضع ويلز مجموعة من المبادئ والآليات والضوابط الصارمة للكتابة في"ويكيبيديا"منها التزام الكتاب الموضوعية أو بالأحرى"حيادية وجهة النظر"، وعدم الترويج لأفكار تنحاز لطرف سياسي أو عقائدي. وأنشأ هيئة تحرير تتولى مراجعة المواد قبل نشرها. واسند ويلز رئاسة التحرير الى لاري سونجر، وهو شاب يحمل دكتوراه في علوم الفلسفة، وتتمثل مهمة سونجر الرئيسة في التأكّد من استناد الموضوعات الى الوثائق والمراجع والمصادر الموثوق بها وإيداع نسخة منها في أرشيف الموقع الالكتروني irc.freenode.net. مديرو المشروع يشرف على مشروع "ويكي"، وهو الاسم المختصر للموسوعة، عدد ممن يسمون"مديرو النظام"الذين تنحصر مهماتهم في"المحافظة على سياسة الموسوعة وحمايتها من التخريب وتنظيم العمل التحريري". ويصف ويلز هؤلاء بأنهم:"ليسوا موظفين ولا ممثلين للمؤسسة... إنهم متطوعون ذوو خبرة ينتخبهم زملاؤهم المساهمين في المشروع". وتُساهم هيئة من 121 شخصاً تصحيح الموضوعات، كما تملك هذه الموسوعة هيئة تحكيمية لفض الاشكالات التي قد تنشأ بين المُصححين، إضافة الى لجنة فنية لمعالجة الاختلالات التقنية في الموقع، بما في ذلك حمايته من محاولات العبث والتخريب، وضربه بالفيروسات أو هجمات"الهاكرز". ويدير ويلز العلاقات العامة، وضمنها المقابلات واللقاءات مع رجال الأعمال والسياسة والثقافة والإعلام وغيرهم. بعد نجاح موسوعة"ويكيبيديا"وجد ويلز ان الموقع المخصص لها لم يعد كافياً لاستيعاب ما يرده من مراسلات وأبحاث ومقالات ومعلومات. فعمد الى إنشاء مؤسسة"ويكيميديا فاونديشن"wikimediafoundation.org لتنهض بمهمة جمع الهبات والتبرعات العالمية. واضاف الى المشروع الأُم، مجموعة من المشاريع الشقيقة مثل"ويكيبوكس"wikibooks ، وهو نواة لمكتبة الكترونية شاملة، وپ"ويكيشناري"wikionary وهو معجم متعدد اللغات وپ"ويكيفيرسيتي"wikiversity وهو دليل عن جامعات العالم وپ"ويكيسورس"wikisource وهو مصدر للوثائق التاريخية والرسمية والقانونية وغيرها، وپ"ويكينيوز"wikinews المتخصص بالأخبار والاحداث اليومية الدولية وپ"ويكيكوت"wikiquote للمختارات العالمية في الحكم والأمثال وما يتعلق بالأخلاق والحياة والموت، وپ"ويكيكوموز"wikicommos لبث الصور والاغاني وأشرطة الفيديو والأفلام والموسيقى وپ"ويكيسبيشز"wikispecies لعالم الحيوان والنبات والفطريات والبكتيريا والطحالب وغيرها. العربي ليس غريب الوجه واللسان يلفت ان القسم العربي، الذي بدأ العمل به حديثاً، في هذه المواقع الشقيقة، يحظى بمكانة مرموقة. فعلى سبيل المثال تضم المكتبة العربية قرابة 1478 مؤلفاً وعدداً من المعاجم القديمة والحديثة، إضافة الى مئات الوثائق والنصوص الآبية والفلسفية والتاريخية والعلمية والتقارير والمعاهدات الدولية والدواوين الشعرية وغيرها. ويشير ويلز الى ان عدد الزوار موقع"ويكيبيديا"يتجاوز 350 مليوناً في الشهر ما يجعلها بين المراتب العشرة الأول بين مواقع الانترنت الأكثر جذباً للجمهور. وتُدار عبر 330 خادماً للانترنت موزعة بين فلوريدا وامستردام وكوريا الجنوبية. وتأتي الإنكليزية في طليعة لغات"ويكيبيديا"، إذ تنتشر على 1.5 مليون موضوع، وتليها الألمانية والفرنسية. ويصل مجموع لغاتها الى 250 لغة. وينوّه ويلز بأهمية الدعم المالي لمشروعه الذي ابتدأ بموازنة من 5 آلاف دولار، ووصل الى 6 ملايين دولار راهناً. ولا يخفي ويلز طموحه الكبير بالوصول بمشروعه الى الصين التي تفرض حظراً على ذلك الموقع، على رغم وجود نسخة كاملة عن"ويكيبيديا"باللغة الصينية تشرف عليها نخبة من كتاب المنطقة. في المقابل، ينتقد البعض مشروع"ويكيبيديا"انطلاقاً من ان إعطاء الحرية الكاملة للكُتّاب في نسخ الموضوعات وتعديلها يتنافى مع فن الكتابة وتقاليدها وأصولها، إضافة الى ما يرتبه من مسؤولية قضائية تتعلق بمسائل من نوع التلاعب بالنصوص، مع غياب التفويض الشخصي والقانوني من أصحاب العلاقة. كما ان المشرفين على تصنيف المقالات والموضوعات وتصحيحها ليسوا، كما تُظهر فضيحة"ايسجاي"خبراء في حقول اللغة والمعرفة والعلوم، وإنما أشخاص منتخبون عشوائياً من جمهور الانترنت، وبالتالي فقد لا يتمتع بعضهم بالمؤهلات اللازمة لإحداث تعديلات أو تغييرات في النصوص. وأخيراً، فإن استناد المشروع الى حركة البرامج الحرة، التي تتصاعد بنشاط على الانترنت، قد يقود الى الإفراط في الخروج على مستلزمات الموضوعية في الكتابة، ما قد يجعل بعض النصوص عرضة للشك. فهل يقود التجديد في اساليب العمل، بعد أزمة"المُحرّر الديني"، الى اكساب"ويكيبيديا"المزيد من الصدقية؟