أثار قرار الكونغرس الأميركي الذي رفض خطة بوش التي يعتزم أن يرسل بموجبها عشرين ألف جندي أميركي الى العراق تساؤلات حول انعكاسات هذا القرار على مستقبل سياسة الإدارة الأميركية بإزاء وضع القوات في العراق، خصوصا أن القرار غير ملزم من الناحية التنفيذية. إن الاجابة عن أي سؤال حول أثر القرار حاليا ومستقبلا لا بد أن تستضيء باستجلاء أبرز العوامل المحددة التي تشكل القرار الأميركي تجاه وضع الجنود في العراق، التي نكتفي هنا بذكر واحد منها هي حالة الاقتصاد الأميركي في ضوء مجريات الحرب. فلا يخفى أن عملية احتلال العراق والسيطرة على النفط كان من غاياتها إتاحة المجال للاقتصاد الأميركي أن يغطي العجز في الموازنة ويصل إلى حالة الانتعاش. فالاقتصاد الأميركي رغم ضخامته يعاني من عجز كبير والدين الأميركي يعد من أكبر الديون في العالم. ومن الوسائل التي تمكن اقتصادا كالاقتصاد الأميركي من الانتعاش وإبعاد شبح العجز في فترة ضيقة الدخول في حرب منخفضة الكلفة نسبيا تتيح فرصة تشغيل قطاعات كبيرة من المجتمع الأميركي على هامشها وعلى هامش التعاقدات التي ستبرم عقب الانتهاء منها. هذا ما حدث تماما مع حرب الخليج عام 1991. وقد رصد الجميع أثر حرب الخليج الثانية على الاقتصاد الأميركي إذ نتج عنها تحول كبير في الميزانية السنوية التي شهدت تغطية العجز الضخم السابق على الحرب بسبب المكاسب المالية التي حققها الاقتصاد الأميركي من الحرب ومن التعاقدات التي أعقبتها. ويعلم القاصي والداني كيف أفاد الاقتصاد الأميركي من هذا الانتعاش عقداً كاملاً إذ سادت الولاياتالمتحدة حالة وفرة غير مسبوقة وانخفضت معدلات البطالة إلى أدنى مستوياتها. وفي ضوء حالة الهبوط الاقتصادي التي بدأت الولاياتالمتحدة تعاني منها مع انتهاء الدورة الاقتصادية التي كان محركها الأساسي حرب الخليج الثانية وبناء على تعذر إعادة سيناريو 1991 وبناءً على أن طبيعة علاقات القوة لا تسمح للاقتصاد الأميركي أن يتبنى سياسة"الحقن المالي"- أي الاعتماد أساسا على المعونات - التي تنتهجها جل اقتصادات العالم من أجل تجنب الانهيار المالي، فقد اختار صانعو القرار الأميركي أن يطبقوا سياسة جديدة تجاه العراق مستلهمين مفهوماً من مفاهيم إدارة الأعمال ينطبق أساسا على الشركات، فطبقوه على العلاقة بين البلدان. وهذا المفهوم مشابه في الأثر لسياسة"الحقن المالي"وإن خالفه في الطبيعة وهو مفهوم"الاستحواذ"acquisition. ينتمي مفهوم الاستحواذ إلى حقل إدارة الأعمال ودراسات علاقات الشركات ويعبر عن استيلاء شركة على شركة أخرى من خلال شراء أسهمها. وعادة ما يأتي مقرونا بمفهوم الدمج merger الذي يعبر عن دمج شركة بشركة أخرى. ويعبر المفهومان عن خيارين استراتيجيين تتبناهما بعض الشركات في حالات معينة منها الوقوع تحت تهديد التعثر المالي. وقوام الخيارين أن تبادر الشركة المتعثرة إلى الاستحواذ على شركة أخرى أو إلى الاندماج معها على أمل أن يتيح تحريك موارد الشركة الأخرى إنعاش الشركة المتعثرة. استلهم الفكر الاستراتيجي الأميركي مفهوم"الاستحواذ التجاري"في تعامله مع العراق فقرر أن الخيار الاستراتيجي الأمثل في هذه المرحلة هو التهام الاقتصاد العراقي. فقد رأى الفكر الاستراتيجي الأميركي أنه إن استطاع أن يضم الاقتصاد العراقي إلى الاقتصاد الأميركي يمكنه أن يفيد من موارد الاقتصاد العراقي الفريدة في إنعاش الاقتصاد الأميركي. إذن هو تطبيق لمفهوم الاستحواذ على اقتصاد البلد برمته وليس على قطاع أو أكثر من قطاعاته. ومن يرصد أطوار الاحتلال الأميركي للعراق ومن يتابع لغة الإعلام الداخلي الأميركي وهو يتحدث عن العراق يلحظ أن الإدارة الأميركية باتت تقوم بإلحاق الشأن العراقي بالشأن الأميركي الداخلي تماما كما يتعامل مالكو الشركة المستحوذة مع الشركة المستحوذ عليها. الأدلة على هذا التفسير أكثر من أن تحصى. لكن الدليل الأوفى هو قيام الاحتلال الأميركي بتدمير البنية الاجتماعية الإنسانية والمؤسساتية للعراق. فمن دون أي مبالغة يستطيع الناظر المدقق أن يرى أن الاحتلال الأميركي ينتهج مع مجتمع العراق نهجاً لم يسمع بمثيله في أي تجربة استلابية في التاريخ الحديث أو الوسيط أو القديم. فمن ناحية أولى هناك افراغ سكاني ديموغرافي واسع النطاق حيث خرج إلى سورية والأردن ولبنان ومصر وبلدان الخليج أكثر من ثلاثة ملايين عراقي حتى اليوم والعدد في ازدياد. وهذا الافراغ السكاني يذكرنا بسياسة إنهاء الخدمة لمجموعات من العاملين بالشركة المستحوذ عليها من قبل الإدارة الجديدة. وهو إجراء يكاد يكون حاضرا في كل عملية استحواذ تجارية تروم به الإدارة الجديدة تخلية الخريطة البشرية من أجل خفض كلفة الشركة التي تنفق على تلك القوى البشرية ومن أجل إعادة تشكيل الخريطة البشرية في الشركة من جديد بما يلائم خطط المستحوذين. ومن ناحية ثانية هناك تفكيك كامل للمؤسسات والكيانات الجماعية الوسيطة. ومن ناحية ثالثة هناك إخراج وتغييب للطاقات العلمية. بكلمات هناك سعي يروم منع قيام أي حالة إنسانية مؤسساتية يمكن أن تباشر نشاطاً اقتصادياً طبيعياً مستقلاً في العراق. هذا بالإضافة لتكريس الطائفية. لكن الأمر أكبر من تكريس الطائفية. فكثير ممن هجروا ينتمون لمختلف الطوائف. إنه إعادة تشكيل الحالة الإنسانية الاجتماعية الجغرافية العراقية لتصبح عبارة عن"جزر على اليابسة"يتبع اقتصاد كل جزيرة منها الاقتصاد الأميركي تبعية مباشرة ومستقلة عن تبعية اقتصاد الجزيرة المجاورة. ورغم وجود اوجه شبه بين سياسات الاستيلاء على اقتصاد البلد الواقع تحت الاحتلال في ما بين الاحتلال الأميركي للعراق والاحتلال البريطاني مثلا لمصر والهند وبلدان أخرى فهناك اختلافات. فالاحتلال الأميركي يباشر الاستحواذ الكامل مع التفريغ السكاني شبه الكامل ولا يعنيه حتى أن يفيد من الطاقة البشرية للسكان الواقعين تحت الاحتلال في حين أن الاحتلال البريطاني كان يفيد من القوى البشرية لدى البلد الواقع تحت الاحتلال في عملياته الاقتصادية. الخطير في تطبيق فكرة الاستحواذ التجاري أنه بمرور الوقت يعتاد المستحوذ على الحالة الجديدة التي خلفها الاستحواذ ويبدأ في التعامل جديا مع موارد الطرف المستحوذ عليه باعتبارها موارده هو ويشق عليه أن يرى الوضع يعود الى سيرته الأولى فيفقد موارد الطرف المستحوذ عليه التي كان يعول عليها تعويلا حقيقيا. يقودنا هذا الأمر إلى نتيجة جديرة بالعناية وهي أنه قبل أن يجري إرجاع السعي الأميركي لاحتلال العراق والاستحواذ على الاقتصاد العراقي إلى توجهات إدارة بوش الابن يتوجب إرجاعه للحالة البنيوية للاقتصاد الأميركي. فقبل أن يكون قرار احتلال العراق ناتجا عن اندفاع إدارة ايديولوجية فهو ثمرة لفلسفة الاقتصاد الأميركي والنماذج الحاكمة له والمرحلة التي وصل إليها في دورته الرأسمالية. وهذا ما يعلمه الديموقراطيون والجمهوريون المعارضون لبوش على السواء. هم يعلمون في قرارة أنفسهم أن مصير الاقتصاد الأميركي إن عاجلا أم آجلا هو القيام بسياسات الاستحواذ تلك. وإن لم يكن مع العراق فمع غير العراق. فلا مفر لاقتصاد يقوم على تكريس مفهوم الاستهلاك الى درجات تفوق بكثير ما تتحمله الطاقة البشرية ويروم تحقيق مستويات خيالية من الوفرة والرفاه لبعض دوائره أن يجد نفسه غير مكتفٍ بأية موارد تتاح له مهما بلغت تلك الموارد من الكبر. كما يعلم أعضاء الكونغرس في قرارة أنفسهم أنهم يقرون سياسات الاستحواذ على مستوى العلاقات بين البلدان وإن كانت شديدة الانتهاك للقانون الأممي بناء على أنها مقبولة لديهم على مستوى العلاقات بين الشركات. وكل هذا ينعكس على طريقة تصويتهم لصالح الحرب في بادئ الأمر حيث صوت معظم من ينادون اليوم بإدانة خطة بوش العسكرية لصالحها. وكل هذا تجده حاضرا في خطابهم الاعتذاري الذي انعكس في أحاديث عدد منهم. فمحصل خطابهم هذا أنهم لا يرفضون الحرب من حيث المبدأ بل يرفضون ما آلت إليه من خسائر ومن إحراج للدور الأميركي على خريطة العالم. ويستطيع المراقب أن يرى أن هاجس الديموقراطيين الأول هو إحراز نصر داخلي بتوظيف ملف الحرب أملا في إكمال إخراج الجمهوريين الذين استأثروا بدفة القرار لمدة ست سنوات ظلت غالبية الديموقراطيين خلالها بعيدة عن المجلسين الكبيرين وعن دائرة التفاعل مع أصحاب المصالح المالية الكبرى. * كاتب فلسطيني