بإمكان الادارة الاميركية ان تحول دون تطوّر تجربتها في العراق الى نتيجة مشابهة لتجربة الاتحاد السوفياتي في افغانستان حيث سقطت عظمة القطب السوفياتي في زمن الحرب الباردة والدولتين العظميين. فالقطب الاميركي صنع الأصولية الاسلامية في افغانستان بشراكة باكستانية سعودية مستخدماً تشريب "الجهاد" للشبيبة وتدريبهم بواسطة الاستخبارات المركزية لالحاق الهزيمة بالقوات السوفياتية "الملحدة" في افغانستان المسلمة. اوّل ما على الولاياتالمتحدة القيام به هو "الاعتراف" بالتجربة الافغانية في الثمانينات ليس من زاوية انتصار الرأسمالية على الشيوعية حصراً، وانما من زاوية كيف صنعت اميركا الاصولية وماذا فعلت اميركا بالاصولية بعدذاك. وثاني ما يتطلبه انقاذ اميركي في العراق من تجربة افغانية هو ان تتجرع الادارة الاميركية كأس التواضع بدلاً من التهام كؤوس الغطرسة المثملة. وثالث ما قد ينقذ العظمة الاميركية من الانهيار هو تحويل العراق الى ورشة دولية لبناء العراق وليس الى ساحة معارك بديلة بعيدة عن الساحة الاميركية لخوض الحرب ضد الارهاب. ورابع ما يستعيد لاميركا العظمى مقومات العظمة الفعلية هو عدالة مواقفها، وجرأتها على تنفيذ السياسات وفرض الحلول على اسرائيل والفلسطينيين، بما يؤدي الى قيام دولة فلسطين مكان الاحتلال الاسرائيلي عام 1967 بلا مناورات ولا هفوات ولا خطوات زئبقية بين الامام والوراء. اميركا في ورطة. وما لم يعترف ذوو الغطرسة العمياء في وزارة "الاندفاع" الاميركية بهذا الواقع فإنهم سيضاعفون افرازات وعواقب توريطهم الولاياتالمتحدة ولا يحق لأي دولة مهما بلغت عظمتها ان تنتقي دولة وشعباً ساحة لإزاحة الاخطار عن التراب الاميركي. قبل التسرع الى الشماتة من قبل ذوي الغباء الاعمى في صفوف المندفعين لرؤية اميركا تدفع ثمناً باهظاً لاخطائها يجدر التذكير بالساحة الافغانية حيث وقعت حرب اسقاط العظمة. فاذا ارادوا للعراق ان يتحول الى افغانستان، ليبتهجوا. افغانستان "طالبان" وافغانستان بيت "القاعدة"، وافغانستان البؤس، وافغانستان الانهيار التام والفشل الكلي لمعنى الدولة. يجوز القول ان العراق اليوم دولة فاشلة منهارة بمعنى، ويجوز القول ان الحرب الاميركية اتت الى العراق بهذا الوضع ويمكن لومها على ذلك. انما ماذا كان العراق قبل ان اصبح دولة منهارة فاشلة؟ كان حلبة للاستبداد والسلطوية والقمع واستراق مستقبل شعبه باسم وطنية زائفة من اجل غايات حكم نرجسية. خطآن لا يصنعان صحّاً. وواقع الامر ان العراق قابل لان يصبح امثولة لتحوّل دولة من فاشلة تحت ظل الاستبداد، ثم فاشلة نتيجة الاجتياح والاحتلال، الى قادرة متمكنة من التعافي وصنع المصير والقرار. هذا يتطلّب سياسة اميركية بديلة عن تلك التي صاغها المتطرفون في مكتب نائب الرئيس الاميركي وزارة الدفاع الاميركية وتبناها الرئيس جورج دبليو بوش. يتطلّب مواقف جدية فعلية وليس مصيرية فقط لدول مثل فرنسا وروسيا والمانيا تأخذ الوضع خارج معادلة سياسية ساذجة وخطيرة تلوح بين التحدي والاذعان، معظمها يقع في اعتبارات العلاقات الثنائية. يتطلب من الامين العام للامم المتحدة كوفي انان ان يكفّ عن نمط "الابحار" وان يجرؤ على مواقف ضرورية، ليس فقط في شأن العراق وانما ايضاً في شأن ما يحدث على الساحة الفلسطينية الاسرائيلية. فالإفراط في الحذر والابحار ليس في مصلحة الاممالمتحدة ولا هو ضمن السلطة الاخلاقية لمنصب الامين العام لا سيما في عالم يجب الا يقع في الاسود والابيض في معادلة الحرب على الارهاب. يتطلب ايضاً عزم العراقيين على صنع مصيرهم رغم انف الاحتلال والارهاب اللذين يورطان العراق في تحويله ساحة حروب للآخرين. فمقاومة الاحتلال بالشكل الذي ينفّذه اربابها ليست سوى اطالة وتكريساً للاحتلال، عمداً كان او سهواً. اما استغلال شبكة "القاعدة" ومشتقاتها للوضع العراقي لشن حربها على اميركا، فإنه امر طبيعي وعملي لها، ما لم يتخذ الشعب العراقي موقفاً حاسماً ضدها لمنع تحويل العراق الى ساحة المعركة وتحويل مستقبله الى افغانستان. والشعوب العربية ايضاً مطالبة ببعض التفكير في ما يتعدى غضبها ونقمتها وانتقامها انها مطالبة بالوقوف مع الشعب العراقي بما هو في مصلحة الشعب العراقي حتى وان كان يتطلّب ذلك الموقف مساعدة الولاياتالمتحدة على انجاح تجربتها في العراق مع التنبه لضرورة قطع الطريق على غايات المتطرفين في الادارة الاميركية. صعوبة المسألة وتعقيدها يجب الا يكونا مبرراً لغسل الايدي من المسؤولية. فالامر لا يتعلق حصراً بالعراق وشعبه، وانما يصبّ في عمق المصير عربياً واميركياً وعالمياً. ماذا يعني كل هذا عملياً؟ هنا بعض الاقتراحات: اولاً، وفي ما يتعلق بالاحتلال الاميركي البريطاني للعراق، لقد باتت الولاياتالمتحدة سجينة احتلالها للعراق ووقعت في فكر الحصار مما جعلها مرشحة لممارسة احتلال مشابه للاحتلال الاسرائيلي لفلسطين. فهناك انباء عن ممارسات احتلالية مشابهة مثل تدمير البيوت، كما هناك تجاوزات اميركية قانونية مثل الاعتقالات بلا محاكمات وهذا اسوأ ما يمكن ان ترعى اليه الولاياتالمتحدة. على الادارة الاميركية رفض المنطق الذي يسوّقه بعض الفاعلين فيها بأن هناك نوعاً من التطابق بين التجربتين الاميركية والاسرائيلية يتطلب نسخ ادوات الاحتلال الاسرائيلي. ما لم تفعل ذلك، ستسقط الولاياتالمتحدة في قاع الدولة المحتلة على النسق الاسرائيلي، وسيزول التمييز الضروري بين الاحتلال الأميركي للعراق لأهداف تحريره وبين الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين لاهداف توسعية. ثانياً، لا مفر من وضع الادارة الأميركية "استراتيجية مخرج"، بدلاً من سياسة استمرار الاحتلال الى "الفترة الزمنية التي تتطلبها التطورات". لا أحد ينتظر انتهاء الاحتلال في غضون شهور أو حتى سنوات قليلة. انه احتلال عقد تقريباً، ما لم تفرض الأحداث تقهقر الولاياتالمتحدة وهزيمتها في العراق. فبناء الدولة العراقية لن يتطلب فترة زمنية احتلالية أقل من اعادة بناء المانيا أو اليابان. المطلوب هو الوضوح في تحديد المواعيد الزمنية العملية لتسليم العراق الى العراقيين لتطمين العراقيين والعالم ان هذا ليس احتلالاً دائماً. ثالثاً، كفى اعتباطية في تناول الملف العراقي. وكفى الطمع في رغبة القائمين على الاجتياح والاحتلال بأن تسد الموارد العراقية النفطية كلفة الاجتياح والاحتلال. اميركا تنفق الآن بليون دولار اسبوعياً على الاحتلال، مما يساهم في عجزها الاقتصادي الذي ستُلام عليه الادارة الحاكمة. على اميركا اليوم تكريس موارد لتغطية كامل نفقات تمكين العراق من استعادة الأمن وبدء البناء بلا مساومات. هذه هي كلفة الاجتياح والاحتلال. وليس معقولاً ولا واقعياً ارتهان العراق وموارده لتغطية كلفة اجتياحه واحتلاله. فلا مفر من ضخ الأموال الاميركية في العراق الآن، في بنيته التحتية كما في متطلبات صنع الأمن فيه. وهذا يشمل كلفة اعمار ما ينسفه الارهاب او "المقاومة". وكلفة استتباب الأمن الضروري كأساس، وكلفة اقامة بنية تحتية مواطنية مدربة على تسلم العراق من الاحتلال. هذا يتطلب اقدام على دفع الفاتورة مسبقاً بدلاً من التردد لحسابات اميركية داخلية. رابعاً، وهذا ينقلنا الى خانة الطمع. طمع الشركات الأميركية وحاميها في الادارة الاميركية. هناك نوع من الجشع والطمع العارم بحيث ينظر الى العراق بأنه "كعكة" لن يسمح باقتسامها. وهذا من أسباب مقاومة تحويل العراق الى ورشة دولية. قاونياً، لا يحق لسلطة الاحتلال القفز الى "الخصخصة" لأن اهالي البلد المحتل غير قادرين على المنافسة المتكافئة ولا على تمويل المشاريع الخاصة خصوصاً اذا كانوا تحت سلطوية الاستفراد وعندما يتعلق الأمر بموارد العراق الطبيعية يتخذ النفط بعداً مميزاً. فلا يجوز ترك القرار حصراً في أيدي سلطة الاحتلال. لا يجوز قانونياً ولا أخلاقياً ولا يحق للفلاسفة الاميركيين والاسرائيليين وضع خطة الضخ النفطي العراقي من كركوك الى ميناء حيفا الاسرائيلي. يجب على مجلس الحكم الانتقالي ان يصر على بقاء قطاع النفط في خانة حكومية الى حين تمكن العراق من تحويله الى القطاع الخاص. هناك أفكار تدور في فلك انشاء شركة حكومية مساهمة حيث يكون للمواطن اسهماً فيها. الفكرة جيدة، انما يجب أن تصبح عملية. خامساً، ان افكار بعض أقطاب الادارة الاميركية في شأن تعزيز دور الأم المتحدة خائبة ومليئة بالمزيج من الغباء والغطرسة، اذ انها صبت في خانة ضيقة عنوانها: كيف نتمكن من الحصول على قوات غير اميركية لننشل اميركا من متطلبات مضاعفة القوات في العراق فيما القوات الأميركية متناثرة؟ في هذا نموذج للاخطاء الفادحة التي يرتكبها ذوي الغطرسة في الادارة الاميركية. فهم اما في جهل كامل لما أسفرت عنه سياساتهم وفكرهم السياسي وأساليب فرض عظمتهم. أو انهم في عزم خطير على تحويل العالم الى حظيرتهم باعتلاء وازدراء وعنجهية. إذا ما استقر القرار على وقف تطور عراق اميركا الى افغانستان السوفيات، فإن نقطة الانطلاق هي بعض التواضع الاميركي وبعض الانخراط العربي وبعض الجرأة الدولية... وكثير من الدعاء.