كبدت الحروب الولاياتالمتحدة الأميركية خسائر مالية تجاوزت 3 تريليون دولار منذ عام 1775، تمثل خسائر الحرب العالمية الثانية نحو 68 في المئة من الإجمالي. وفي حين أن السيناريوهات الأميركية تقرر إجمالاً أن الحرب ستكون سهلة وقصيرة وغير مكلفة، يبدو أن ذلك يعكس الجانب الأميركي من المعادلة. وفي حقيقة الأمر، فتكاليف الحرب لا يمكن أن تحصى، فمثلاً تتجاهل معظم السيناريوهات الأميركية تتبع كلفة الخسائر البشرية بين المدنيين العراقيين، إذ أن احتلال بغداد قد يعني حسب بعض التوقعات الأميركية مقتل عشرة آلاف من المدنيين. وعلى رغم تعذر احتساب الكلفة الكلية للحرب، إلا أن حساب التكاليف المباشرة متاح بإضافة الإنفاق المباشر على الحرب إلى الخسائر في الإنتاج والدخل الذي لم يتحقق. ومن وجهة نظر عربية فإن الحرب الأميركية على العراق، في حال وقوعها، قد تؤدي إلى أعباء مباشرة على الاقتصادات العربية لا تقل عن 15 في المئة من اجمالي الناتج المحلي العربي أي نحو 110 بلايين دولار سنة 2003 . وبديهي أن يتفاوت التأثير من دولة عربية الى اخرى، ليتأرجح بين 2 في المئة للمغرب 700 مليون دولار و25 في المئة 20 بليون دولار في حال العراق، فيما يقدر بنحو 68 بليون دولار لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الست، أي بما يكفي لابتلاع أي عائدات نفطية قد تنتج عن ارتفاع سعر النفط، حتى في حال ارتفاع متوسط سعر سلة "أوبك" بمعدل 10 دولارات سنة 2003. وفي حال أن هذه التقديرات بنيت على افتراضات إجمالية غير أن تقدير كلفة الحرب على الاقتصادات العربية يعني تتبع العناصر التالية: إنفاق الحكومات العربية بسبب الحرب الأميركية على العراق، بما في ذلك: الإنفاق العسكري والأمني، والإنفاق على المهجرين والنازحين، والأضرار في البنية التحتية، وقيمة التعطيل أو التباطؤ في المنشآت الإنتاجية والسياحة. ولا يمكن إهمال الكلفة الإنسانية لأي حرب بما في ذلك مخاطر القتل والإصابة والتشريد وتقطع أوصال النسيج الاجتماعي والاقتصادي والخوف من انعدام الأمن والضغط على الحقوق المدنية وانتشار ثقافة العنف. المنظور الأميركي يبدو أن التكاليف المتواضعة مقارنة بالمكاسب الاستراتيجية الواضحة، تحفز الإدارة الأميركية الحالية معاودة الكَرّة ثانية، فقد قدر نصيب الولاياتالمتحدة من تكاليف حرب تحرير الكويت نحو 61 بليون دولار ونحو 760 إصابة بينهم 493 قتيلاً. وفي الكرة الثانية، فإن المكاسب الأميركية ذات طبيعة عالمية، تتعلق بالتحكم بنحو ثلثي احتياط العالم من النفط بما يمكن البيت الأبيض من امتلاك ورقة قوية ضاغطة على الصينواليابان وأوروبا، ولعل الأهم من ذلك هو الضغط على العالم العربي - الإسلامي عبر "احتجاز العراق واعتباره رهينة مقابل ما تبقى في جعبة الإدارة الأميركية في ما تسميه حرباً ضد الإرهاب". ولا يمكن في هذا السياق أن الولاياتالمتحدة تراهن أن التكاليف المباشرة للحرب سيدفع الجزء الأكبر منها عبر تحالف دولي من نوع أو آخر. وداخلياً، استنفدت الإدارة أدوات السياسة المالية، ولم يبق من وسيلة سوى اللجوء لحفز الاقتصاد بزيادة الإنفاق العام عبر الاستدانة، وليس من مبرر مقنع لدافعي الضرائب سوى اختلاق تهديد خارجي بما يستوجب الدخول في حرب تطلق يد الرئيس في تحميل الخزانة الأميركية عجزاً، يوفر المزيد من المال للآلة المنتجة التي تعاني من "الفراغ" وقلة الأعمال! النظام الدولي الجديد في خطبته الشهيرة عن النظام الدولي الجديد في آذار مارس 1991، تحدث الرئيس بوش الأب عن أهمية تعزيز دور الأممالمتحدة، المنعتقة للتو من جمود الحرب الباردة، لتحقق طموح مؤسسيها في العدل والإنصاف وحماية الضعيف من القوي. لكن يبدو أن معاناة المؤسسة الدولية تجددت بعد الحرب الباردة. وفي مقالة نشرتها مستشارة الامن الاميركية كوندوليزا رايس في الأسبوع الأخير من كانون الثاني يناير، قالت: "هناك كثير من الأسئلة حول برامج وترسانات العراق الذرية والكيماوية والحيوية ومسؤولية العراق الإجابة". ومن منطق العدل والإنصاف وحماية الضعيف من القوي، التي تحدث عنها الرئيس الأميركي الأسبق، هناك الكثير من الأسئلة التي على الإدارة الاميركية الحالية الإجابة عليها: هل الضغوط الأميركية المتعاظمة تعني حرباً ثالثة في الخليج العربي؟ وفي حال وقوعها، هل ستكون حرباً في مقدور الولاياتالمتحدة تحمل تبعاتها؟ وما تبعات وقوع حرب أو حتى عدم وقوعها على العالم إجمالاً، وعلى عالمنا العربي تحديداً، وعلى منطقة الخليج العربي على الأخص؟ ضغوط ديبلوماسية لا تجيب الولاياتالمتحدة، بل يبدو أن الإدارة تتكتم لتحقيق بنود أجندتها مرحلياً، باعتبار أن لكل مرحلة أهدافاً تكتيكية، وأن الشأن الدولي جزء من الشأن الأميركي وليس العكس، بما يعني أن مهمة الولاياتالمتحدة طرح الأسئلة ومهمة الآخرين الاستجابة، حتى عندما يتعلق الأمر بالشأن العالمي. ولن يبذل أي جهد هنا لتخمين الأجندة الاميركية، فقد يكفي القول انها أجندة مترابطة البنود، إذ يمكن استبيان أن إسقاط نظام قائم منذ أكثر من ثلاثة عقود لمجرد أن يحل محله نظام بديل، أمر لا يبرر بحد ذاته تحمل دافع الضريبة الأميركي التكاليف المالية الأكيدة والمخاطرة بالتضحية بمواطنيه، إن لم يكُن ثمة مكاسب أميركية مباشرة وواضحة ناتجة عن ذلك السقوط. وعلى أي حال تبقى الخسائر البشرية هي الأثقل في أي حرب، وهي التي تجعل المخاطرة السياسية للإدارة الأميركية حقيقية وكارثية ولو بعد حين. فمثلاً لم يتخيل الرئيس العراقي أن تبعة استخدامه سلاحاً كيماوياً ضد مواطنيه في حلبجة ستلاحقه بعد أكثر من عقدين من الصمت والتجاهل. وأن ذات الصمت والتجاهل قد جلب لأطراف عدة، منها الولاياتالمتحدة، مخاطر كارثية لاحقاً. ومن دون المساس بانحياز الإدارات الأميركية المتعاقبة الاستراتيجي لصالح إسرائيل قدمت الحكومة الأميركية "لإسرائيل" نحو 1.6 تريليون دولار وفقاً لتقديرات أعدها توماس ستافر أحد المتخصصين في الشأن الإسرائيلي في واشنطن، ونقلتها صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" اخيراً. لكن هناك ما يبرر القول ان الحرب الراهنة، المتكاملة الأدوات، هي حرب أميركية الأهداف والسمة والكلفة. وارتكزت توجهات الإدارة الأميركية السابقة إدارة الرئيس كلينتون على توظيف سطوتها لرتق شتات اقتصادات العالم في سياق واحد يزدان بالخطوط والنجوم. ويبدو أن توجه الإدارة القائمة الذي اتسم في البداية بالإحجام عن الإمساك بملف الصراع في الشرق الأوسط باعتباره مخاطرة سياسية قد تختطف فترة الرئاسة برمتها يسعى لتأكيد السمة الأميركية للحقبة الراهنة. ويمكن الجدل أن ليس في نهج الإدارة الحالية تناقض استراتيجي مع سابقتها بل الفارق هو مجرد استدعاء أدوات إضافية وإعادة لترتيب أولويات فرضتها تداعيات 11 ايلول سبتمبر، بحيث يسلط الضوء على القوة العسكرية الضاربة ويؤكد الدور القيادي للولايات المتحدة في خوض صراعات مسلحة للحفاظ على المصالح الحيوية الأميركية في العالم، مضحية في سبيل ذلك في المدى القصير بتهتك بوادر اندماج الاقتصاد الدولي، بل ان الإدارة الحالية أرسلت رسائل بالجملة تبدي عدم اكتراثها بتهميش حركة العولمة الاقتصادية، عندما خرجت على اتفاق كيوتو للبيئة، وعندما محور ممثلها التجاري كلمته أمام مؤتمر منظمة التجارة الدولية في الدوحة حول الإرهاب وليس تحرير تجارة الخدمات، وعندما فرضت حكومته رسوماً جمركية حمائية ضد الواردات من الصلب، على سبيل المثال لا الحصر. ولا يجب فهم ذلك على أنه طي للملف الاقتصادي، بل مجرد تعليق مؤقت لإطلاقه مطوراً من جديد، إذ لا يستقيم إهمال أن الشركات المتعددة الجنسية تولد ما يزيد على 3.5 تريليون دولار من القيمة المضافة، ومبيعات تتجاوز 18 بليون دولار في العام، وأن تعداد تلك الشركات يتجاوز 60 ألفاً تتحالف معها نحو 800 ألف شركة محلية، بقي معرفة أن من بين 100 اكبر شركة متعددة الجنسية ما يزيد على 90 مقرها الولاياتالمتحدة. بل هناك وجهة نظر تقول ان الحرب ضد العراق ستصب مباشرة في مصلحة آلة الإنتاج الأميركية، وأن إدارة الحرب الأميركية لن تتوانى عن توزيع بعض عقود التزويد المحلي في المنطقة العربية لتوزيع منافع "اقتصاد الحرب". المسار الاستراتيجي في المحصلة، هناك ما يبرر القول ان الإدارة الأميركية الحالية، على رغم استخدامها أدوات غير تقليدية وعالية الخطورة، تتحرك في مسار لا يتناقض استراتيجياً مع النسق التتابعي الذي انتهجته الإدارات الحكومية المتلاحقة: من إنهاك الإتحاد السوفيتي ومنظومته، ثم إسقاطه، ثم إعادة تأهيل جمهوريات الفلك الشيوعي المنهار، واختتام جولة أوروغواي وإعلان منظمة التجارة الدولية، والدخول بهمة في جهد سياسي دؤوب لإنهاء النزاعات المسلحة في العالم، بما يجعل التجارة العالمية سالكة في جميع الاتجاهات فتبيع الشركات الأميركية وتستثمر وتحقق أرباحاً لها ومزيداً من التمكين لسطوة بلادها في أرجاء العالم. والمهمة الراهنة لا تخرج عن ذات السياق بتشكيل نظام عالمي جديد الذي بشر به الرئيس بوش الأب، وعمل من أجله الرئيس كلينتون بجد واجتهاد، ويسعى الرئيس الحالي لتأكيد سمته الأميركية مستخدماً أدوات مثيرة للجدل. وعلى نقيض ما قد يتبادر الى الذهن، تحرص الإدارة الحالية للحفاظ على النظام العالمي لكن رغبتها تلك يتملكها إصرار لتلوينه بظلال أميركية ثقيلة... فمثلاً كان ردها على معارضة فرنسا وألمانيا أن حشدت تأييد أووربا الجديدة، وحرص أميركا على تمرير أجندتها يجعل من حشودها في الخليج العربي مصدر قلق لعدد من الدول، إذ تعتمد اليابان على نفط الخليج لسد نحو 80 في المئة من احتياجاتها و40 في المئة في حالة الصين. ومصدر القلق لا يقتصر على احتمال انقطاع الإمدادات كلياً أو جزئياً نتيجة لاحتدام الصراع المسلح بل كذلك لاحتمال توظيف أميركا للورقة الجديدة سياسياً. وعلى رغم أن الإدارة الأميركية الحالية تبدو واثقة من أنها تتابع رؤية استراتيجية واضحة، غير أن العنصر المفقود في رؤيتها أحاديتها وإصرارها أن "خبز الكيك وأكله" كما يقول المثل الغربي. فحرص الرئاسة الأميركية على الإطاحة بنظام الرئيس العراقي بغض النظر عن مصالح أو مضار أي دولة أخرى صغرت أو كبرت، نهج ينطوي على قدر غير معقول من المخاطرة. وبمجرد ارتفاع درجة التوتر في الخليج أصبحت روسيا مزاراً لمن يرغب الاطمئنان على استقرار وارداته من النفط، ومن أبرز الأمثلة التنافس القائم بين الصينواليابان لمد خط أنابيب بطول 4 آلاف كلم وبكلفة 5 بلايين دولار لنقل نحو مليون برميل من نفط روسيا في شرق سيبريا إلى ميناء ناخودكا الياباني على المحيط الهادي، فيما تطمح الصين أن تجلب نفط سيبريا ذاته إلى أراضيها. أهداف متعارضة بناء على ما تقدم، هل ما تمارسه الإدارة الأميركية: انقلاب على أجندة "الأمريكانا الاقتصادية" ليحل محلها منطق القوة وديبلوماسية التلويح بها؟ أم أنه مجرد جهد لطمأنة الذات وتبديد الغضب المتراكم منذ 11 ايلول واستعادة زمام المبادرة في الحرب الأميركية ضد الإرهاب؟ أم أنه مرحلة ضمن النسق التتابعي لوضع العالم داخل الصندوق الأميركي؟ أم أنه حرب من أجل السيطرة على النفط، وبعد ذلك منع القوة المتعاظمة للصين من أن تصبح اتحاداً سوفياتياً جديداً، وضمان وصول الشركات الأميركية قبل منافسيها الى ينابيع النفط العراقي؟ أم انه حجة لدخول المنطقة العربية وإعادة تأهيلها أميركياً؟ أم أن ما يشاهد هو مجرد صراع ديكة لاقتسام الرغيف العراقي الساخن والاطمئنان على مصير التزامات عراقية للخارج يقدرها البعض بنحو 380 بليون دولار، منها نحو 200 بليون من تبعات حرب تحرير الكويت، وديون تُقدر بنحو 130 بليون دولار. وحالياً، يبدو أن الأميركيين منهمكون في احتساب الكلفة "الدولارية" لشن حرب على العراق، فتقديرات الحكومة تساهم في حفز فريق الرئيس بوش للإقدام لتدني الكلفة مقابل المكاسب الاستراتيجية المفترضة. ويمكن الجدل أن التقديرات الأميركية الرسمية لكلفة الحرب العسكرية مفرطة في التفاؤل، فالأقرب أن تداعيات الحملة على العراق ستُغرق الولاياتالمتحدة الأميركية في وحل اقتصادي قد ينهك اقتصادها الضخم ليضعه في حال انكماش نتيجة لما ستشيعه تلك الحرب من توتر في أنحاء العالم دونما استثناء وما ستمتصه من موارد أميركية من دون عائد. إذ من المستبعد أن تتحول تلك الحرب إلى حرب عالمية، لتنشغل الاقتصادات جميعاً وتوظف من أجلها الأنفس والموارد الأخرى، وفي نهايتها ينتج دمار شامل ويستأثر من يربح بكل المكاسب. حرب محدودة يبدو أن ما تسوقه الإدارة الأميركية ليس حرباً عالمية ولا حتى معركة إقليمية بل جهد عسكري محدد لإسقاط حكم النظام العراقي الحالي، وتسعى لتغطية ذلك بالقرار الدولي 1441. وعليه فما يتصوره بعض المحللين من أنه جهد يسعى لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط لا يتجاوز كونه بهلوانيات ذهنية تعاني من سهال في التخيل. وعليه، فمستبعد في حال وقوع الصراع أن يتجاوز العراق، وبذلك يمكن التذكير أن الكلفة الأكبر تكمن في تداعيات الأعمال العسكرية في بلد شاسع. كما أن التدخل الأميركي في العراق غير مطمئن لما للعراق من أهمية جيوسياسية تكاد لا تنافس. فسيطرة الولاياتالمتحدة عسكرياً على العراق لن تكون محل ترحيب ليس من قبل فرنسا وألمانيا إضافة للدول المنتجة للنفط وخصوصاً روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، بل كذلك من اليابانوالصين وبقية الدول المستهلكة للنفط. وليس أدل على ذلك من أن اليابان أخذت تعد للسيناريو الأكثر سوءاً ودخلت في مفاوضات مع روسيا لتزويدها بالنفط كما سبقت الإشارة. عناصر مهملة لعل أبرز تداعيات الهجوم الإرهابي على الولاياتالمتحدة هو تسمية الرئيس الأميركي للعراق كأحد محاور الشر. وبعيداً عن التأثيرات السياسية والعسكرية المزعزعة، سبب استهداف الولاياتالمتحدة للعراق متاعب اجتماعية واقتصادية للفرد العراقي. وإذا أدركنا أن نصيب العراقي من الناتج يقل عن ألف دولار سنوياً، وان الاقتصاد دخل في حلقة انكماش مزمن منذ بداية الثمانينات، وقد يتعرض لانهيار السنة الجارية 2003 مع توقف صادراته النفطية في حال نشوب حرب على أراضيه، وأن معدل التضخم يزيد على 50 في المئة سنوياً... نجد أن الشعب العراقي محاط بفكي كماشة: معاناته المزمنة مع نظام صدام حسين من جهة وهواجس احتلال الرئيس الأميركي بوش للعراق من جهة أخرى. وهذه ليست دعوة لذرف الدموع على النظام العراقي، لكن ما كلفة الوضع المتأزم على العراقيين اولاً، وعلى الدوائر ذات الصلة بعد ذلك. الكلفة ما الكلفة الاقتصادية للحرب التي تشنها الولاياتالمتحدة الأميركية ضد العراق؟ سؤال يتردد مغلفاً بمغالطات حول الصيغة الزمنية، فمن يعتقد أن الحرب على العراق لم تشن، عليه أن يفكر ملياً، وإلا ما معنى الحشد السياسي والديبلوماسي الأميركي؟ وهو حشد رأس حربته تصريحات ضاغطة من الرئيس الأميركي ومن كبار مساعديه. ولعل من المقبول القول ان أعمال الحرب لا تقتصر على تجييش الجيوش النظامية، فعلى رغم أن الولاياتالمتحدة تجيشها من دون هوادة، فأذرعها السياسية والإعلامية تعمل لخدمة الغرض الاستراتيجي الأساس. ومع ذلك، فهناك من يريد أن يلتزم بالتعريف التقليدي عند تناول الحرب الأميركية ضد العراق، أي أن جيشين سيتقابلان لتبدأ الحرب، إذ يمكن الجزم أن المقابلة الإستراتيجية حدثت منذ أن قرر نظام الرئيس صدام حسين تجاوز الخط الأحمر وارتكاب عمله الشائن باغتصاب شقيقته الصغرى الكويت. لقد وقع الاغتصاب بمبادرة النظام العراقي حينما حرك قواته جنوباً بعد سابق إصرار وتصور ليرتكب خطيئة ستسجل في الفصل الأسود من أيام العرب وغزواتهم. وما تعايشه المنطقة العربية يأتي بمبادرة أميركية وبعد سابق إصرار وتصور، ويبدو أن الرئيس بوش لن ينجح في إقناع العالم أن العراق يمثل تهديداً مباشراً على الولاياتالمتحدة... والدلائل واضحة في فرنسا وألمانيا وروسياوالصين والتظاهرات الحاشدة في واشنطن وسان فرانسيسكو حينما تجردت نساء من ملابسهن احتجاجاً على العداء المجرد للعراق، وحينما زعق المتظاهرون في واشنطن "لا دم من أجل النفط"! وعلى رغم ما يردده أقطاب الإدارة الأميركية، يبدو أن كثرة من الدول والأفراد على قناعة أن الحرب هي من أجل النفط وأن نزع أسلحة الدمار الشامل مجرد غطاء ليس أكثر... فقد بين استقصاء للرأي أجرته مجلة "نيوزويك" الأميركية الواسعة الانتشار ان 60 في المئة صوتوا لإعطاء المفتشين مزيداً من الوقت. وفي استقصاء آخر لمجلة "تايم" بالتعاون مع محطة "سي إن إن" رأى 44 في المئة من أفراد العينة أن أداء الرئيس في الأزمة سيئ. حرب "عدم التيقن" بوسع الرئيس الأميركي تسويق الحرب ضد العراق على أنها حرب ضد الإرهاب، كما يفعل في الوقت الراهن، لكن تصريحاته الملتهبة فعالة في رفع سعر برميل النفط أكثر من فعاليتها في إحكام القبضة على الإرهاب، إذ يمكن ربط نحو 70 في المئة من الزيادة في أسعار النفط منذ بداية الربع الاخير من عام 2002 حتى الآن إلى تصريحات الرئيس الأميركي التي تثير الارتباك في سوق النفط! وذلك لا يخرجها عن كونها حرباً لتحقيق أهداف أخرى ضمن سياق زمني محدد، خصوصاً عندما يحرص الرئيس بوش بعناد على تطبيق استراتيجية: الحفاظ على الضغط الهائل، ليس فقط على نظام صدام حسين بل كذلك على الأممالمتحدة، والمفتشين، وشركاء أميركا في الحلف الاطلسي، والدول العربية. وقد يُقال ان تفجيرات 11 ايلول المشينة وغير المبررة جعلت الولاياتالمتحدة فزعة، وأنها لا تريد لمثل تلك الهجمات أن تتكرر على أراضيها... وهذا طرح مقبول ومقبول كذلك لتهدئة الفزع والتعامل مع أعراضه تأسيس وزارة للأمن الداخلي بموازنة سنوية تقدر بنحو 40 بليون دولار، وأن تمر الحكومة الأميركية بأكبر عملية إعادة هيكلة منذ نحو نصف قرن. أما الأمر غير المقبول فهو أن لا تحرص الولاياتالمتحدة على عقد شراكة دولية عميقة لمحاربة الإرهاب من الجذور، فنجد أن جملة من المحللين والسياسيين الأميركيين يكيلون الهجوم تلو الهجوم لمن يخالفهم في الرأي، وحالهم مع فرنسا خير دليل. فمحاربة الإرهاب تتطلب تعاوناً قائماً على تفاهم دولي متعدد الأطراف وليس ما يقارب الإذعان لانفراد الحكومة الأميركية بالمبادرة. وما نراه الآن من رفض عواصم الدول المؤثرة في العالم، بما في ذلك "أوروبا القديمة"، استخدام التوقيت الأميركي للتعامل مع نزع أسلحة العراق يمثل ملامح فشل للتوجه المتفرد... إذ تدرك عواصم عدة أن البحث يجب أن يكون عن أسلحة الدمار الشامل وليس عن ذرائع لاحتلال العراق. وليس محل شك، أن إدارة الرئيس بوش تمارس سياسة الضغط من دون هوادة غير عابئة، في ما يبدو، بالتأثيرات السلبية على المناخ الدولي سياسياً واقتصادياً. فمناخ انعدام الثقة وضبابية الرؤية المستقبلية يعززان ظاهرة عامة من عدم التيقن ولجوء الأعمال إلى الترقب وإيثار الدخول في حال بيات خارت معها قوى السوق ورغبة صانعيها في الاستثمار. "أوبك" فمثلاً، هناك من قد يعتقد أن بوسع منظمة "أوبك" التأثير حالياً في أسعار النفط، لكن متابعة سلوك سوق النفط في الشهور الأخيرة تكشف عن أنها دخلت في حلقة مفرغة: فالمنظمة تعلن عن زيادة في الإنتاج، فينخفض السعر، ثم لا يلبث أن يصعد متأثراً بالتصريحات الملتهبة للرئيس بوش أو أحد أقطاب إدارته! بما يبين أن الحالة السياسية اختطفت سوق النفط، وهمشت تأثير قوى العرض والطلب فيه. ويمكن تعميم ذات الفهم على عدد من الأنشطة الاقتصادية. إذاً، فالضغط الأميركي معني بالحصول على معاضدة غير مشروطة من العالم بأسره لأجندة مجهولة... وعدم الاطمئنان لتلك الأجندة وتداعيات تنفيذ بنودها على الاستقرار الدولي أمر تثبته ظواهر عدة منها تقلص النشاط الاستثماري بما يؤثر في مجمل النشاط الاقتصادي وفي معدلات النمو. وعلينا إدراك أن الأجندة الأميركية الخفية هي التي تنفر قوى مهمة في العالم من مساندتها... فما تراه الرئاسة الأميركية علاجاً للوضع في العراق يراه آخرون سماً زعافاً. حرب من أجل النفط قد يجهد أفراد في الإدارة الأميركية أنفسهم للربط بين الحرب ضد الإرهاب والإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين... لكن الاتهام الطافي على السطح أن الحرب التي تشنها الولاياتالمتحدة هي حرب من أجل النفط، وأنها في سباق لأخذ زمام المبادرة في منافسة الشركات التي وعدها النظام بمنحها امتيازات في حال رفع الحصار... ويبدو أن الولاياتالمتحدة تسعى لرفع الحصار بأسرع وقت شريطة تواصل دورها المحوري في إنفاق العوائد أو التحكم في الإنفاق وتسلمها دوراً قيادياً للإطاحة بالنظام العراقي، فيكون لها القول الفصل في توظيف الاحتياط النفطي العراقي خارجياً، وفي توزيع امتيازاته عالمياً، وفي إعادة تأهيل العراق وعلاقاته الإقليمية والدولية. حرب ضد العراق لقد استأثر أمر احتلال العراق بجانب من التصور الأميركي، حيث صدرت تقديرات عن الكلفة النقدية للعمليات العسكرية في العراق: فمثلاً قدر مكتب الموازنة التابع للكونغرس الكلفة بنحو 9 بلايين دولار لتجهيز ونقل وحشد القوات، و6 بلايين كلفة الإنفاق الشهرية، وما بين 1-4 بلايين دولار كلفة الاحتلال شهرياً، و5 بلايين دولار لإعادة القوات الأميركية. أما السيناتور بايدن فيقدر الكلفة بنحو 100 بليون دولار، فيما تبين تقديرات حديثة لإدارة بوش أن كلفة الحرب ستراوح بين 50 و60 بليون دولار طبقاً لتقديرات صدرت عن مكتب الإدارة والموازنة، وهذه التقديرات أقل كثيراً عن تقديرات كبير المستشارين الاقتصاديين السابق لورنس ليدزلي التي كانت بين 100 و200 بليون دولار. أما إعادة بناء العراق طبقاً للمواصفات الأميركية فقد تكلف أي تكاليف ما بعد الاحتلال ما بين 50 و150 بليون دولار طبقاً لتقديرات سام بيرغر، المسؤول السابق في إدارة الرئيس كلينتون. وفي الإدارة والكونغرس من أخذ يصدر اقتراحات حول استخدام النفط العراقي لتمويل الحرب العسكرية على العراق، إدراكاً من أن التحالف الواسع في حرب تحرير الكويت غطت "أوبك" قرابة 90 في المئة من الكلفة. أما في حال شن حرب عسكرية على العراق حالياً فيبدو أن على دافع الضريبة الأميركي دفع الجزء الأكبر من الفاتورة، انطلاقاً من أن المتحمسين الرئيسيين للحرب هما الرئيس بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وبالتأكيد يجب ألا تتوقع الإدارة الأميركية من أطراف معارضة بشدة للحرب مثل فرنسا وألمانيا والسعودية أن تساهم. ولم يقتصر نشر التقديرات على مؤسسات الحكومة الأميركية ورجالاتها، بل ان "مراكز الفكر" الأميركية أصدرت تقديرات منها تقديرات مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، التي وقعت بين 55 و120 بليون دولار، وتقديرات البروفسور نرهوس من جامعة ييل المرموقة التي تراوح بين 120 بليون دولار و1.6 تريليون دولار. ويمكن الجدل أن تقديرات الأخير هي الأقرب للصحة، لاعتبارات لا يتسع المجال لإدراجها بل يمكن إجمالها في أن الإدارة الأميركية مشغولة في إحصاء مكاسب وصولها إلى "التفاحة" لكنها لا تبدي أي اهتمام، في ما يبدو، بالمضار التي قد تتولد نتيجة قضمها والتلبكات التي قد تحول دون هضمها وتأثير ذلك على المنطقة المجاورة والمشهد العالمي برمته. كما أنها استبعدت أن "التفاحة" المفترضة هي فاكهة موهومة قد تتكشف حقيقتها عن قنبلة محشوة بالمسامير المدببة... ستتناثر في كل مكان، لتجهض الشظايا كل مكسب وتدمي الأجساد من دون تمييز، فيخسر العالم بأسره. * متخصص في المعلوماتية والإنتاج.