مفاجأة سارة حملتها إلينا زيارة الوزير الأول التونسي محمد الغنوشي والوفد الحكومي المرافق له أخيراً إلى ليبيا. ولأنها كانت مفاجأة أثارت بعض التساؤلات واستوجبت بعض الملاحظات. حملت إلينا هذه الزيارة أنباء من شأنها، لو تحققت، أن تغيّر أفق الاقتصاد الوطني. فمن أبرز الإجراءات التي تمخض عنها لقاء طرابلس تحرير تداول العملة بين البلدين وما يمكن أن يحمله هذا الإجراء من تحرير المعاملات بينهما من مُكبلات بيروقراطية الدولة ودفع المبادلات التجارية والاستثمار بين القطرين ونقلهما عملياً إلى مرحلة السوق الموحدة. إلى ذلك تقرر تحرير إجراءات نقل البضائع والأشخاص من طريق تنشيط الخطوط البرية والجوية والبحرية، خصوصاً إعفاء السيارات من إجازات العبور عند الحدود واعتماد رخص السوق التونسية أو الليبية في كلا البلدين. أما في ميدان الاستثمارات الكبيرة فتقرر تنشيط مشروع الطريق الدولي بين تونسوطرابلس وتطوير طاقة إنتاج محطة تكرير النفط في الصخيرة جنوبتونس وربطها بأنبوب ينقل إليها النفط من ليبيا ودفع التعاون في ميدان إنتاج الطاقة الكهربائية وربط شبكاتها بين البلدين وإحداث أنبوب لنقل الغاز من ليبيا إلى أوروبا عبر تونس. وتقرر من جهة أخرى الاستمرار في العمل باتفاقية إنشاء منطقة حرة بين البلدين وإعفاء السلع المنتجة محلياً في كلا البلدين من الضرائب الجمركية. وهذه إجراءات عملاقة من شأنها أن تفتح في وجه القطاع الخاص الوطني مجالات واسعة للنشاط وتشجع الاستثمار الأجنبي على العمل في البلدين مع ما يمكن أن يحمله ذلك من تقنيات وأسواق خارجية تساعد على مواجهة تحديات المنافسة، فضلاً عن أنها تفتح آفاقاً للتشغيل والنمو لم تكن في الحسبان أصلاً. وجدير بالتذكير هنا أن حجم المبادلات بين ليبيا وتونس ارتفع إلى مستوى لا يستهان به، وتعتبر ليبيا رابع مصدّر وخامس زبون لتونس وارتفعت المبادلات بينهما السنة الماضية إلى زهاء 1500 مليون دولار. إلى ذلك تنشط السياحة وينمو الاستثمار المتبادل بينهما، إذ يعبر زهاء مليون ونصف مليون زائر ليبي الحدود التونسية ويتوجه أكثر من مليون تونسي إلى ليبيا فيما يتزايد عدد الشركات الليبية العاملة في تونس والشركات التونسية العاملة في ليبيا، كل ذلك من دون ذكر السوق الموازية المنتعشة عبر الحدود والتي تشكل جزءاً مهماً من الاقتصاد التونسي ويقدر حجمها بحوالى 1.7 مليون دولار سنوياً. هنا يكمن الجانب المُفرح من الانعطاف الذي أبصرته العلاقات. أما التساؤلات التي يُثيرها فتستند الى معطيات إقليمية وأخرى دولية تعود بنا إلى تاريخ العلاقة المضطربة بين البلدين والتي تغذي شعوراً بالشك والقلق لا يمكن المرء أن يخفيه. فقد تزامن الإعلان عن هذه"الإجراءات الثورية"مع إعلان ليبي موازٍ كرس فَرض التأشيرة على جميع الأجانب بمن فيهم مواطنو المغرب الكبير ليُستثنى منهم في وقت لاحق التونسيون دون سواهم. وسبقت هذه الإجراءات الاستثنائية أزمة صغيرة بين البلدين، أمكن تطويقها، حينما أعلنت ليبيا في تموز يوليو الماضي عن إخضاع السلع الأجنبية الواردة عليها إلى ضريبة جمركية قدرت بواحد في المئة وضريبة على الاستهلاك بخمسة في المئة وهو ما اعتبره الجانب التونسي تراجعاً عن اتفاقية التبادل الحر بين البلدين. وقبل ذلك بأشهر كانت ليبيا فرضت على المسافرين التونسيين التصريح عند عبورهم الحدود عما لا يقل عن خمسمئة دولار وهو ما اعتبره التونسيون عرقلة لحركة تنقل الأشخاص بن البلدين. هذا التضارب في القرارات في فترة وجيزة لا يدل على أن خياراً استراتيجياً اتخذ على مستوى القيادات في انتهاج طريق التكامل الاقتصادي بين أقطار المغرب الكبير، وهو ما يعود بنا إلى ما اتسمت به العلاقة التونسية - الليبية طوال تاريخها المعاصر من ارتجال وعدم استقرار. فالكل يذكر المفاجأة الكبرى التي حملها اللقاء التاريخي بين الحبيب بورقيبة ومعمر القذافي في جزيرة جربة سنة 1974 والذي أعلن في أعقابه عن إنشاء وحدة اندماجية بين البلدين لم تعمر أسبوعاً واحداً بسبب تراجع الطرف التونسي عنها تحت ضغط أجنحة داخل الحكم وقوى دولية. ونتج من ذلك الحدث - المفاجأة تأزم في العلاقة بين البلدين بلغ حد طرد أربعة عشر ألف عامل تونسي من ليبيا سنة 1976 ثم تبادل البلدين اتهامات غذت حرباً إعلامية مستعرة توجت بأحداث قفصة سنة 1980 التمرد المسلح ضد الرئيس بورقيبة التي اتهم الطرف الليبي بالمشاركة فيها. وما إن هدأت العلاقة إثر لقاء بورقيبة والقذافي في آب أغسطس 1983 حتى عادت الحرب الإعلامية بينهما من جديد سنة 1985 وبلغت حد قطع العلاقات الديبلوماسية إثر طرد ثلاثين ألف عامل تونسي من ليبيا. واستفحلت الأزمة حتى أن الرئيس الراحل بورقيبة رفض إدانة العدوان الذي شنته الطائرات الأميركية على مدينتي طرابلس وبنغازي في نيسان أبريل 1986 وقمعت التظاهرات التضامنية التي قادتها المعارضة التونسية وانتهت إلى محاكمة رموز منها. ولئن شهد التبادل التجاري بين البلدين نمواً منذ سنة 1987، فإن المرحلة الجديدة لم تخل من"مفاجآت سارة"تركت هي الأخرى شعوراً بالمرارة والإحباط لدى الرأي العام، من ذلك أن الاتفاقات التي أبرمت بين البلدين في أعقاب الحكم الصادر عن المحكمة الدولية في الخلاف على الجرف القاري لم تُتبع بخطوات عملية وظلت حبراً على ورق حتى اليوم. ومن ذلك أيضاً أن الجرافات التي اعتلاها الزعيم الليبي معمر القذافي لهدم الحدود بين البلدين لم تُزِل هي الأخرى أياً من الحواجز السياسية والاقتصادية التي لا تزال تفصل بين الشعبين. ولم تختص العلاقة بين تونس وليبيا وحدها بمثل هذا الاضطراب، فليبيا والمغرب أبرما معاهدة للوحدة بينهما سنة 1984 معاهدة وجدة فتحت بداية للتواصل بين الشعبين قبل أن تنقلب الأمور على أعقابها ويعود عشرات الألوف من العمال المغاربة إلى ديارهم بعدما تبخر حلم الوحدة. هذا التذكير المُحزن بشريط الأحداث خلال العقود الثلاثة الماضية ينتهي بنا إلى ملاحظة أساسية كانت المعارضة عبرت عنها منذ الإعلان عن الوحدة الاندماجية بين ليبيا وتونس في العام 1974 وهي أن قرارات مصيرية كالتي تتخذها القيادات من حين إلى آخر لا يمكن أن يُكتب لها النجاح إن هي لم تستند إلى مؤسسات دستورية تقوم على المشاركة الشعبية، وظلت رهينة إرادة القيادات التي لا تخضع إلى أي نوع من المساءلة أو المحاسبة من شعوبها. وحدة المغرب الكبير حلمٌ مشروع لشعوبه تمليه حقائق التاريخ المشترك ووحدة الجغرافية واللغة والدين والثقافة وتحديات العولمة، وهو اليوم مطلب لشركائنا في العالم المتقدم في أوروبا وأميركا تفرضه عليهم مقتضيات توسيع السوق وإدماجها في الاقتصاد العالمي والحد من مخاطر التخلف والإقصاء التي تتهدد حدودهم الجنوبية. إن إنجازاً عظيماً كهذا لا يمكن أن يخضع إلى إرادة الحكام وإنما يقتضي لتحقيقه واستمراره أن يكون ثمرة لعمل وطني تشترك فيه مؤسسات المجتمع المدني من منظمات أصحاب العمل والعمال والجمعيات المهنية المختلفة وتعبر عنه مؤسسات سياسية منتخبة وممثلة لألوان الطيف السياسي، تصوغ القرارات المصيرية وتسائل الحكام عن مدى انجازها والالتزام بها. ومن دون ذلك ستظل هذه القرارات مرتجلة كما كانت دائماً، وخاضعة لتغيير الأمزجة لدى الحكام ولتأثيرات القوى الأجنبية، مثلما كان الشأن عقب الإعلان عن الوحدة التونسية الليبية سنة 1974 حين تدخل وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر وسفيره تالكوت وليم سيلي لإفشالها وإقالة أحد صُناعها وزير الخارجية التونسي آنذاك محمد المصمودي. هل يعني هذا أننا لا نرضى بغير الكمال؟ لا طبعاً، فلا نملك سوى التعبير عن ابتهاجنا وفرحتنا بمثل هذه القرارات والحلم بأن نراها تساهم في تبديد شبح البطالة وآفة الفقر في انتظار أن نوفر لها شروط البقاء والدوام بالعمل على توسيع حرية التعبير والمشاركة السياسية في أقطارنا المغاربية. * محام وسياسي تونسي