هناك في عالمنا العربي مناضلون، وهناك مفكّرون، والمناضلات والمفكّرات أقلّ. كانت ميّ غصوب التي رحلت عنّا فجأة من نوع نادر، فقد جمعت بين مناضلة ومفكّرة، وحاربت مع الفلسطينيين في لبنان وأصيبت، ثم كانت لها صولة في دنيا الفكر. لا أتصوّر لندن من دون الصديقة العزيزة ميّ، فقد كانت جزءاً من عالمي الشخصي والمهني قرابة 25 سنة، من العلاقة العائليّة معها ومع زوجها الأخ والزميل حازم صاغية، إلى المهمّات المهنيّة الصعبة. دور النشر الغربية صناعة هدفها الربح، ولكن نشر الكتب في العالم العربي عمل محبّة، وميّ غصوب في"دار الساقي"عملت أولاً لنشر الكتب، وثانياً لعدم الخسارة. أما إذا تحقّق ربح يوماً فذلك مفاجأة سارّة. كم ساعدتنا ميّ في إصدار كتاب الأمير خالد بن سلطان"مقاتل من الصحراء"عن دوره في تحرير الكويت قائداً للقوّات المشتركة ومسرح العمليّات. كم صبرت معنا وعلينا حتى جاء الكتاب خِلواً من أي أخطاء في حِلَّة قشيبة من المهنية الراقية. كانت ميّ غصوب متعدّدة المواهب شُهرتها نشر الكتب، إلا أنها كانت أيضاً مؤلفة ونحّاتة، وتعرض منحوتاتها. وكنت أهاذرها بالقول إنّها"مقلعجيّة بتكسّر حجار"كما نقول في لبنان، إلاّ أنّها في الواقع كانت ذات موهبة نادرة مع جَلَد ومثابرة هما من شروط النجاح. كانت تحبّ أم كلثوم والموسيقى الكلاسيكيّة في آن، وإن تحدّثنا عن المسرح فأنا أحدّثها عمّا حضرت من مشهور أو شعبي مألوف، وهي تحدّثني عن المسرح التجريبي، ومسرحيّات تحتاج إلى احتراف لفهمها. ليس الأمر أنّ ميّ غصوب فجعتنا بالرحيل فجأة، واذكروا حسنات موتاكم. هي ما أقول وأكثر، ونقطة الالتقاء الأولى بيني وبينها بعد الصداقة الشخصيّة هي الكتب. كنت إذا نسيت شيئاً في كتاب أتّصل بها، فهي لا تنشر الكتب وتبيعها فقط، وإنما تكتبها وتقرأها. وكنّا نتساوى في القراءة، بالعربيّة والانكليزيّة ثم تزيد عليّ بما تقرأ بالفرنسيّة، وكانت دائماً ذاكرتي الثانية. في أوائل 2001 فاز ارييل شارون بالانتخابات الإسرائيليّة وأصبح رئيساً للوزراء. وتذكّرت أنّ هناك سيرتين عن ذلك السفّاح، واحدة صدرت بالتعاون معه امتلأت كذباً، وأخرى كتبها الصحافي اوزي بنزمان بعنوان"شارون: قيصر إسرائيلي"، مزّقت الحجب المحيطة بمجرم الحرب العائد. طلبت الكتاب بكل طريقة ممكنة ولم أجده. وطلبت من أختي في واشنطن أن تذهب إلى مكتبة الكونغرس وتنسخه لي، وعادت لتقول إنّ الكتاب اختفى من أكبر مكتبة عامّة في العالم. وأخيراً استنجدت بميّ، وهي جاءتني بالكتاب بعد يومين، فقد عثرت عليه عند"فأر مكتبات"مثلها. ولعلّ من القرّاء مَنْ يذكر حلقاتي عن شارون المنقولة عن كتاب بنزمان في حينه، فهو دانه في جرائم هائلة ضدّ المدنيين، مثل قِبْية، ثم فضح فشله العسكري، ففي كل معركة قادها كانت الخسائر من الجنود الإسرائيليين هي الأعلى بين كل القادة. وقد سقط مع جنوده في كمين للقوّات المصريّة في ممرّ مِتلا سنة 1956، ثمّ عَبَرَ القناة ليكسب دعاية لنفسه وجعل القوّات المصريّة تبطش بجيش إسرائيل إلى الشمال وبدرجة أقلّ إلى الجنوب لأنه ترك رفاقه من دون حماية. قبل أيام عدت إلى العزيزة ميّ بطلب مماثل، فقد عجزتُ عن العثور على نسخة من كتاب"الجاسوس العاري"الذي كتبه يفغيني ايفانوف بمساعدة غينادي سوكولوف عن دوره في فضيحة كريستين كيلر التي أطاحت الوزير جون بروفيومو. تذكّرت صفحة في الكتاب عن مقابلة ايفانوف ونستون تشرتشل، وكلاماً لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق الراحل وجدته ينطبق على العرب أكثر منه على الاتحاد السوفياتي والروس السلافيين. تذاكرت مع ميّ ما قال تشرتشل، إلاّ أنّه كان واضحاً انّني بحاجة إلى النصّ منعاً للخطأ، وعادت ميّ بعد يومين بالكتاب الذي وجدَته عند أحد الأصدقاء. مقالي عن ايفانوف وتشرتشل والمقارنة العربيّة سيُنشَر بعد أيام قليلة. كان آخر اتصال لي مع ميّ قبل يوم من سفري إلى الدوحة للمشاركة في مؤتمر نظّمته مؤسسة بروكنغز الأميركية المشهورة. وقلت لها إنّني وزوجتي ندعوها وزوجها إلى عشاء في نيسان ابريل المقبل مع الروائي البرازيلي المشهور باولو كويلو مؤلِّف بعض أكثر الروايات انتشاراً في السنوات الأخيرة، فقد التقينا في دافوس كالعادة وبلّغني أنّه قادم إلى لندن للإشراف على نشر كتابه"ساحرة نوتنغ هل"، واتفقنا على أن أجمعه مع أصدقائي على عشاء. كتب كويلو صدرت بعشرات اللغات وحوالى 50 مليون نسخة، وكنت أعرف أنّ ميّ غصوب من قرّائه مع زوجتي وابنتي. ووقفت مع الأخت الشيخة لبنى القاسمي، وزيرة الاقتصاد في الامارات، وهي تحدّثه السنة الماضية في دافوس عن آخر رواياته، فهي أيضاً من قرّائه. ميّ رحّبت بمقابلة كويلو، وسألتها كعادتي وهي نكتة خاصة بيننا هل حقّق كتابي"المحافظون الجدد والمسيحيّون الصهيونيّون"الذي صدر عن"دار الساقي"ما يكفي من الربح لنتقاعد. وهي قالت ضاحكة: جداً. كانت ميّ تريد أن توقِّع معي عقداً عن الكتاب، إلاّ أنني قلت لها أن تأخذه من دون عقد, وإذا حقق ربحاً، وهذا صعب في دنيا النشر بالعربية، فهي تستطيع أن تتبرّع به لأي جمعيّة أطفال عربيّة. لم يكن يربطني بميّ غصوب سوى المحبّة والكتب. رحمها الله وألهم أسرتها وزوجها الصبر.