نعرف في تاريخ حركة التحليل النفسي عند بدايات القرن التاسع عشر، أن فرويد، المؤسس الرسمي لتلك الحركة وأباها الشرعي، تعرض لهجومات عدة، ليس فقط من جانب اعدائه الذين لم يجدوا في انجازاته علماً ولا قدراً من الجدية، بل بخاصة من جانب رفاقه وتلامذته. ومن هنا يكاد يكون جزء أساسي من تاريخ الحركة، تاريخاً لانشقاقات اهلها عن استاذهم. ولعل ابرز هذه الانشقاقات ما قام به تباعاً، وفي اتجاهات مختلفة ألفريد آدلر وغوستاف يونغ. طبعاً اذا تحرينا صفحات التاريخ وما كتبه المعنيون بالأمر انفسهم عما حدث وعما كان وراء كل انشقاق من الانشقاقات سنجد ان في الامر، دائماً، خلافات جوهرية على مسائل علمية وعلى شروحات وتفسيرات، تبدو في ظاهرها واضحة وتبرر التفرقة بين أهل الفكر الواحد اذ راحت افكارهم تتشعب، على ضوء الواقع والظروف والتطورات التي راح كل واحد منهم يفسرها بحسب نظرته. ولكن اذا نظر المرء الى ما حدث حقاً سيجد ان عمق الخلافات الفكرية، لا يمكنه ابداً، وفي واقع الامر، ان يبرر كل ذلك العداء الذي بدا في العلاقة اللاحقة بين فرويد وأمثال آدلر ويونغ. ومن هنا، يقول المرء في نفسه، لا بد ان في الخلفية الحقيقية ابعاداً أخرى، لا تقتصر على الجانب العلمي. - هذه الفرضية كان العالم الألماني إريك فروم، أحد كبار مؤسسي مدرسة فرانكفورت للعلوم الاجتماعية، واحداً من الذين حاولوا تحليلها ودراستها بعمق. فإريك فروم، الذي اشتغل دائماً على الربط بين التحليل النفسي والدراسات الاجتماعية متوقفاً كثيراً عند دراسات السلوك، انطلق من فكرة انه لا يمكن ان يكون الخلاف العلمي وحده الدافع الى كل ذلك العداء الذي كان فرويد أول المشتكين منه دائماً في كل مرة تحدث فيها عن تلامذته وخيبة أمله فيهم. وهكذا، اذ راح فروم يدرس ما حدث، في تفاصيله، توصل الى جملة استنتاجات بسيطة ضمنها كتاباً له عن حياة فرويد نشره في عنوان"مهمة سيغمون فرويد، تحليل لشخصيته وتأثيره"... وكان هذا الكتاب واحداً من اول الكتب الكبرى التي وضعت عن رائد التحليل النفسي وصارت معتمدة لاحقاً في شكل واسع. قبل كتاب إريك فروم، كان متداولاً، حديث متشعب ومؤكد عن ان فرويد كان - بالأحرى - ذا نزعة تسلطية صارمة. كان تلامذته المعادون وغير المعادين يجمعون على انه"لم يطق أبداً آراء الآخرين او مجرد محاولتهم تنقيح آرائه، او ايراد أي تعليق سلبي عليها. وهكذا انطلق فروم من هذا التأكيد وراح يدرسه. وهو في الحقيقة توصل الى استنتاجات تدعم هذا القول... لكن المهم هو انه توصل الى هذه الاستنتاجات ليس فقط اعتماداً على ما كتبه خصوم فرويد، او حتى كل اولئك الذين كانوا يقفون مواقف محايدة تجاهه، بل بخاصة على الذين ظلوا اوفياء له حتى النهاية: جمع فروم أوراقهم وحكاياتهم وتأكيداتهم، وراح يدرسها. بل انه توقف مطولاً عند تحليلات ارنست جونز الذي كان شديد الاخلاص لفرويد فائق التبجيل له، على اعتبار ان جونز كان من أبرز الذين حاولوا نزع التهمة عن العلم. وحتى اذا كان جونز، كما يقول لنا فروم، قد بدا مقنعاً الى حد ما في بعض الاحيان في دفاعه عن معلمه، فإن"اللغة كانت تخونه بين الحين والآخر فيؤكد مواربة، ما كان يود نفيه"، بحسب فروم. ومن المهم هنا ان نقرأ الطريقة التي بها يدحض اريك فروم تأكيدات جونز حيث، بعد ان يعرض رأيه يكتب:"ان جونز ساذج من الناحية النفسية في هذه التأكيدات التي لا تتلاءم مطلقاً مع عمل المحلل النفسي. انه، وبكل بساطة، يصرف النظر عن ان فرويد كان غير متسامح مع كل اولئك الذين قد يطرحون عليه اسئلة، فكيف بالذين ينتقدونه صراحة؟ مهما يكن فإن فرويد، كان متسامحاً مع الذين يبجلونه حد العبادة. كان شديد اللطف والأبوة للذين يوافقونه على كل ما يقول. كان اباً محباً للأبناء الخاضعين... لكنه كان أباً شديد التسلط والقمع لكل اولئك الذين يجرؤون على مخالفته". بالنسبة الى اريك فروم، حالة ارنست جونز حالة استثنائية في اذعانه وتبريراته أمام فرويد، ومن هنا نراه - أي فروم - يتناول حالاً اخرى بدت له اكثر دلالة: حال فرنزي، الذي كان وظل لسنوات طويلة، أكبر تلميذ مخلص لفرويد، تؤكد ذلك المراسلات العديدة بينهما. وينقل اريك فروم عن فرنزي فقرات لعلها تكفي فصاحتها لقول كل ما هو مطلوب قوله في هذا المجال. ولنقرأ هنا ما يكتبه فرنزي في مذكراته ذات يوم:"عندما زرت الاستاذ اطلعته على آخر افكاري الفتية وهي افكار تعتمد على التجربة القائمة على العمل المباشر مع مرضاي. لقد حاولت ان اكتشف من التاريخ الخاص الذي يقصّه المرضى علي، عن انفسهم، ومن تداعي افكارهم ومن الطريقة التي يتصرفون بها - حتى في المجالات التفصيلية، وبخاصة نحوي - ومن الإحباطات التي تثير غضبهم واكتئابهم، وبخاصة من المحتوى - الشعوري واللاشعوري لرغباتهم وتطلعاتهم، حاولت ان استكشف الطريقة التي يعانون فيها النبذ من أمهاتهم او والديهم، ومن يحلون محلهما. ولقد سعيت ايضاً من خلال التعاطف معهم، ان أتخيل أي نوع من الرعاية الحانية حتى في التفاصيل الخاصة من السلوك، يحتاج اليه المريض حقاً في تلك المرحلة المبكرة - الرعاية الحانية والتنشئة الحانية اللتين كانتا ستسمحان له بالثقة في نفسه والاستمتاع بها مما يمكنه من النمو ككل. لقد عرضت يومها على استاذي ما كنت توصلت اليه من ان كل مريض يحتاج الى تجربة مختلفة من الرعاية الرقيقة الحانية، وقلت له اكتشفت ان ليس من السهل التغاضي عن هذا... الى آخره. خلال حديثي هذا كان الاستاذ يصغي الي، من دون اي ردود فعل اول الامر. ثم بالتدريج ومن دون ان ألاحظ ذلك راح نفاد صبره يزداد. وأخيراً، من دون ان يجد نفسه مضطراً الى أي شرح او تفسير حذرني من انني هنا أطأ ارضاً خطرة وانني بدأت ابتعد في شكل مجازف عن الاعراف والتقاليد والتقنيات المرتبطة بالتحليل النفسي. وقال ان أي استسلام لتوقعات المريض ورغباته، بصرف النظر عن مدى اصابتها، ستزيد من اعتماده على المحلل قائلاً ان مثل هذه التبعية لا يمكن الا ان تنهار بالانسحاب العاطفي من جانب المحلل، وأضاف الاستاذ هناً منهجي في أيدي المحللين غير المهرة قد يفضي بسهولة الى الانغماس في الجنس في شكل يجعله أكثر من مجرد تعبير عن الرعاية الأبوية، واللافت ان فرنزي اذ يروي هذا يختم كلامه قائلاً، ومن دون أي تعليق من جانبه ان"الاستاذ اذ اصدر الي هذا التحذير الأخير، انهى المحادثة بيننا من دون ان يعطيني أي فرصة للرد عليه او للدفاع عن افكاري. انهى المحادثة في شكل من يسأل محدثه الرحيل. اما أنا فمددت يدي اليه لأصافحه مودعاً، فاذا به لا يستجيب الى المصافحة بل يلتفت الي بنظرة سريعة ويدير ظهره ويخرج". يروي إريك فروم هذه الحكاية نقلاً عن فرنزي ليقول لنا بالطبع انه اذا كان هذا شأن فرويد مع واحد من اقرب تلامذته الى نفسه، فكيف كان شأنه مع الآخرين. ويخلص من الحكاية ليقول لنا ان الاستاذ المؤسس لم يكن في نهاية الامر ذلك الاب العطوف الذي قد تظهره صوره وكتاباته عن نفسه هو الذي، ودائماً كما يقول لنا فروم في كتابه عنه"لم يتقبل اطلاقاً اي اقتراحات مهمة لإحداث أي تبديل في جهده النظري، فإما ان يكون الإنسان مغرماً كلياً بنظرياته - وهذا يعني ان يكون مقرباً منه هو شخصياً - أو أن يكون ضده. وللمزيد من التأكيد يورد إريك فروم هنا مقطعاً مما كتبه ساكس، وهو تلميذ مخلص آخر من تلامذة فرويد، في السيرة التي كتبها عن الاستاذ:"لقد أدركت منذ البداية انه كان من الصعب جداً على الاستاذ ان يتمثل آراء الآخرين او يقبلها بعد ان استخلص آراءه الخاصة من خلال عملية شاقة وطويلة قام بها بنفسه وأوصلته الى استنتاجاته". ولافت هنا ما يختتم به ساكس، هذا الكلام حيث يقول"اذا كان رأيي معارضاً لرأيه، كان يعطيني دائماً متسعاً من الوقت لأعرض رأيي. كان ينصت الى كل ما أقوله، لكنه عندما انتهي، لم يكن لينبس بأي جواب، بل يصمت ويبدو عليه واضحاً بأنه بالكاد تأثر بكلمة واحدة مما قلت". من الواضح هنا ان هذه الصورة السلبية، علمياً، التي يرسمها إريك فروم لسيغموند فرويد، تتناقض مع صور كثيرة اخرى رسمت له. ولكن المرء، اذ يغوص في كتابات علماء عايشوا سيغموند فرويد 1856-1939 وكتبوا عنه، لا سيما في مجال تبرير سجالاتهم الحادة معه، لا يمكنه الا ان يصل الى النتيجة نفسها: لم يكن فرويد متسامحاً بل كان شديد التسلط، ما يدفع الى التساؤل حول فصول عديدة تدعو الى غير ذلك في الكتب الرئيسة التي ألفها فرويد في حياته، وفي محاضرات طالما جعلت من التسلط الأبوي سبباً في خصاء الأبناء.