لم يكن المخرج التونسي توفيق الجبالي يعلم وهو يشارك في المسرح المدرسي انه سيصبح يوماً من أهم رواد المسرح في بلاده، وانه سيشعر بالرهبة ذاتها كلما صعد إلى خشبة المسرح. الجبالي وأبناء جيله، مثل محمد ادريسي ورجب فرحات وفاضل الجزيري ومحمود المسعدي وحبيب مسعوقي وعبدالرؤوف الباسطي، لم يكونوا خريجين أكاديميين، بل كوَّنوا تجاربهم الخاصة من الواقع. وأثناء وجوده في فرنسا لأكثر من 12 سنة مارس خلالها العمل الاذاعي والصحافي عمل هو وأصدقاؤه في المسرح كهواة، ليشكلوا لاحقاً"مجموعة العمل الثقافي في فرنسا"التي كان نتاجها مسرحية"القاسم عزاز". وكان الرجوع إلى تونس جماعياً بعدما أصدرت وزارة الثقافة قراراً بإعادة صوغ حركة الفن المسرحي التونسي، فولد"المسرح الجديد". وفي عام 1965، كان"بيان الأحد عشر"لمجموعة من المسرحيين المتأثرين بالمسرح الطليعي والتعليمي والتبشيري، للنظر في أمور المسرح، علماً ان الفكرة كانت أكبر من الواقع لأن الخطابات آنذاك كانت"كلمة غير مفهومة". مسرح"التياترو"كان المحطة الأبرز والأهم في حياة الجبالي. ففي الوقت الذي"تخلت فيه الدولة عن دورها في إنشاء المسارح، كان لا بد من البحث عن فضاءات تحميه من التسكع والتشرد". ومن دون أي مساعدة أو رأس مال، بل من طريق القروض المصرفية تكوّن هذا الفضاء عام 1987 مختبراً للهواجس والتجريب. بدأت مسرحية"كلام الليل"تجربة مسرحية هامشية عام 1989، عندما أحب الجبالي أن يتطرق الى بنية مسرحية جديدة."فالمسرح الميت هو المسرح الذي يُتداول في شكل من الأشكال، وللأسف فإن المسرح العربي عموماً هو مسرح ميت أخذ قالباً ومات فيه، فجاءت مسرحية"كلام الليل"تجربة حرة في شكل حر"، خصوصاً لجهة التعامل مع مسائل النص والسينوغرافيا والموسيقى. وعندما قدمت هذه التجربة، اتهم الجبالي بالهذيان والتخريف. وجاء الإقبال الجماهيري على مراحل،"فالتلفزيون التونسي كان يذيع أجزاء من العمل، لأن عرض العمل استمر من عام 1989 الى عام 1995، وقدمنا عشرة أعمال من هذه السلسلة مستقلة عن بعضها بعضاً بالمعنى والشكل"، بحسب تعبير الجبالي الذي يرى أن المسرح العربي يفتقر الى مسرحيين ذوي كفاءة"ليفهموا لغة العصر ولغة التخاطب القادرة على تبليغ القيم والمفاهيم الصحيحة. وعلى رغم ذلك، هناك حال دفاع عن النفس من جانب مسارحنا ضد مجتمعاتنا التقليدية والأصولية". ولا يزال الجبالي يتذكر الشعار الذي رفعه أحد المسارح الباريسية، وهو:"فن أن تكون متفرجاً". ولهذا يطالب الجبالي جمهوره بأن يكون له دوره الفني قبل دوره الاجتماعي أو الاستهلاكي،"فنحن نفتقد الحالة المدنية ليكون لدينا جمهور مدني ومن ثم جمهور مسرحي، وأنا شخصياً ما زلت انتظر أكبر الفرص لأثير دهشة الجمهور". لا يبحث الجبالي عن إرضاء المتفرج، لأنه يفسد صدق العمل. ولهذا فقط، لم يكن غريباً أن يلغي هذا المخرج التونسي الجريء عرضاً مسرحياً في"التياترو"ذات مرة"لعدم وجود جمهور جيد".