عرف المخرج المسرحي التونسي توفيق الجبالي (ولد عام 1944) كيف يوائم تجربته مع ما يستجد من أفكار وتقنيات في الإخراج المسرحي ولم يركن إلى نمط معين ليعرف به، بل جرّب العديد من الأساليب الفنية، لكن من دون أن يُفقد مسرحه ميزته الرصينة والجادة، تجارب عدة قدمها وحظيت بأصداء نقدية لافتة وذلك منذ الثمانينات وصولاً إلى اللحظة الراهنة، لعل ابرزها سلسلة مسرحيات بعنوان «كلام الليل» قدمها في اجزاء عدة، و «مذكرات ديناصور» عن نص «حوار في المنفي» لبرتولد برخت، و «عطيل» لشكسبير، و «المجنون» لجبران خليل جبران، و «فلسطينيون» عن نص «أربع ساعات في شاتيلا» لجان جينيه، ثم «لصوص بغداد»، وهو قدم اخيراً عرضه الجديد «منيفستو السرور» المؤلف من نصوص للكاتب التونسي علي الدوعاجي (1909 - 1949). أسس الجبالي في 1987 مسرح «تياترو» بماله الخاص، واستطاع في وقت قصير ان يجعل منه مختبراً فاعلاً لإنتاج العروض المسرحية والتشكيل والكتابة ومنذ ست سنوات صار «تياترو» يستقبل الهواة لدراسة «التكوين المسرحي». وكان لافتاً اعتماده في تجربته الأخيرة «منيفستو السرور» على 50 ممثلاً من الهواة، وهو ما انتقده البعض لأنه ينطوي على رغبة في الاستغناء عن «المحترفين»، كما يقول الجبالي ذاته في حديثه مع «الحياة»، ويضيف: أتصور أن هؤلاء الهواة هم البديل الجديد، فبإمكاني القول ان مستقبل المسرح المحترف هو «الهواية»، فممارسة الاحتراف مقلقة الآن، لأن الدولة غير قادرة على تغطية تكاليف العرض المسرحي، والمؤسسات المالية لا تكترث للمسرح، والجمهور غير قادر علي الإنفاق في المسرح، ثمة أزمة واضحة في التعامل مع المسرح كحرفة، فنحن نعيش واقعاً اقتصادياً رديئاً، الممثل يجد أن تقديمه حلقة واحدة في التلفزيون عائده المادي أكبر بكثير من عمله لمدة شهر في عرض مسرحي، المسرح لا يؤمن تكلفة المعيشة. ويرى الجبالي ان «معهد المسرح» استنفد طاقته في السنوات الأخيرة، وما عاد قادراً على تقديم ما يطوّر الأداء التمثيلي، وقلة لا تذكر من طلابه هي المتحمسة للمسرح، فالمعهد لا يستقبل الطلاب برغباتهم لكن بدرجاتهم الاكاديمية «الكومبيوتر هو من جاء بغالبية هؤلاء الطلاب للمسرح لذا يتجهون بعد التخرج اما إلى التدريس أو إلى اي مهنة أخرى وليس المسرح». الجبالي لم يدرس المسرح بصفة اكاديمية، وإن كان استفاد من محاضرات عدة حضرها في فرنساوتونس، وهو شأن اسماء عديدة رافقته في رحلة العودة من فرنسا في ستينات القرن الماضي، لتؤسس تجربة «المسرح الجديد» في تونس، وعلى رغم ان عقوداً عدة مرت على ذلك إلا ان تلك الأسماء ما زالت تتقدم في المشهد المسرحي التونسي، وهو ما اتضح في الدورة الاخيرة لمهرجان قرطاج المسرحي، خصوصاً في العروض التي قُدمت ويعلق الجبالي على ذلك قائلاً: كون جيلنا لا يزال «يمثّل» طليعة المسرح التونسي فإن هذه ظاهرة غير ايجابية لأنها تعني ان الاجيال التالية لنا لم تستطع إبراز تجاربها. ويضيف: جيلنا هو جيل عفوي، كما احب ان أسميه، ظهر في الستينات، من المدراس والجامعات ومسارح الهواة... صادفنا مرحلة مهمة، مفعمة بالرغبة في التغيير، كانت بداية نهضة وطنية مثل ما كان الأمر في مصر بل في كل العالم العربي، تكونت نخبة وحلمت، في شكل جماعي، ان بمقدروها عمل شيء ما للنهوض بالمجتمع. كنا موجودين في اللحظة الحاسمة اذاً، النظام ذاته حينها ادرج المسرح في خطته، لكن لأسبابٍ تخصه طبعاً، ونحن أخذنا المبادرة بجدية وواصلنا المشروع». وينفي الجبالي ما يشاع وسط الأجيال الشابة، ومفاده ان جيله وقف عقبة امام التطلعات الشابة بسيطرته علي المؤسسات المسرحية ويقول: هذا غير صحيح، لا صلة لنا بالمؤسسات المسرحية الرسمية نحن جازفنا بما ادخرناه واقترضنا من البنوك وأقمنا فضاءات خاصة وشخصياً استضفت في «التياترو» الشباب وبإمكاني القول ان اهمّ المخرجين الشباب في الساحة الآن هم من تلاميذ «التياترو». لم نقف أمام مشاريع الشباب ولكنا شجعناهم وما يشاع هو كلام العاجزين. ويربط الجبالي جيله بلحظات مفصلية في تاريخ المسرح التونسي ويقول عن إضافاته: كانت مرجعية الفعل المسرحي في تونس اما شرقية أو غربية، جيل المؤسسين - السابق لنا - كان مرتبطاً بالمسرح المصري، فمئوية المسرح التونسي هي بالتأسيس على أول نص مسرحي مصري. ثم جاء علي بن عياد وجعل المؤسسة المسرحية «حديثة»، بحكم أعماله، جاء بمرجعية غربية «اوروبية»، وبقي المسرح التونسي بين هذين الطرفين مثلما هو حال المسرح العربي الآن، وأقول لعل جيلنا اقترح «مسرحاً ثالثاً»... مسرح ينطق بالعامية التونسية. ويشرح: كانت العامية تخص المسرح الشعبي، اما المسرح الراقي فكان يُقدم بالعربية الفصحى أو الفرنسية، جيلنا رأى انه لا يمكن المسرح ان يعيش إلا بلغتنا الحية، لغة الحياة اليومية، سألنا ما هو المسرح وكيف يقدم وما هي آلياته وذلك عبر أول بيان نظري في المسرح التونسي صدر في مطلع الستينات وهو بيان «الاحد عشر» وضم 11 مسرحياً سعوا إلى ايجاد مسرح شعبي معبأ بالقيم الاجتماعية الحديثة كمقابل لمسرح علي بن عياد وكنا نراه بورجوازياً. ويقول انه منذ ذلك الحين لم يعرف المسرح التونسي ما يضاهي هذه التجربة النظرية، وان جيله استمر في نشاطه بعد أن حقق للعرض المسرحي التونسي المعادلة المطلوبة أي «الفكرة الجيدة، الرقي، الشعبوية» ويؤكد ان المسرح صار شعبياً لكن ليس تجارياً رخيصاً، كما انه صار ممارسة متواصلة وليست نخبوية، كما يدعي البعض، لأن «لدينا قاعدة جماهيرية، نحن في «التياترو» نعرض يومياً ولما يزيد عن الشهرين من دون ان نكون تجاريين، ثمة سلوك فني، ثمة تجديد وصرامة في الطرح». لكن لا يبدو الحال بهذه الفعالية مع الفرق الأخرى، أي التي تفتقر المكان، يوضح الجبالي ذلك قائلاً: العديد من الاسماء الاخرى التي لا تجد منابر لأنشطتها هي مشردة واتصالها بالجمهور ظرفي وغير مخطط، وهي تفقد الكثير نتيجة ذلك، لأنها لا تراكم، ولا تعيد تقديم أعمالها، صحيح ان الوزارة وضعت سياسة دعم ايجابية لكن على الورق لأن تأثيرها سلبي على المحيط المسرحي، فهي تشتري العروض من المسرحيين وتوزعها وتتكفل كلَّ شيء فيها وهذا يجعلهم لا يهتمون كثيراً بنتائجها، لا يهمهم في شيء إن جاء الجمهور أو لم يجئ، ففي النهاية فلوسهم تصلهم وهكذا ضعف اهتمامهم بالتجويد، هناك نحو 150 فرقة مسرحية خاصة والدولة تدعم سنوياً 50 منها وكل هذا لغياب البرمجة وضعف التخطيط، منذ ثلاثين سنة هذا هو الحال ولم يثمر أية تجارب مهمة. عموماً لا يبدو الجبالي راضياً عما يحصل في المسرح التونسي ويقول ان سمعته «أكبر من رصيده» والأمر لا يختلف في بلدان المغرب الاخرى، فالجزائر فقدت مسرحها الذهبي بعد الحرب وغالبية مسرحييها اما اغتيلت أو هاجرت إلى أوروبا، اما المسرح المغربي فإنه ما زال جديداً ولم يتبلور «بصورة واضحة» وفي خصوص تجارب المشرق يقول: هناك فرق مسرحية في لبنان وسورية ومصر لكن عجلة الانتاج التلفزيوني ومغرياتها أضعفت علاقتها بالمسرح، جعلتها موسمية أو عرضية، وفي الواقع تبدو هذه السمة غالبة في المشرق، التعاطي مع المسرح يظهر في مهرجانات وليس يومياً خصوصاً في سورية ولبنان، على رغم وجود فرق جيدة التكوين وذات افكار حداثية ومواكبة لكن ثمة تخلف في التجربة، بقيت ناقصة لأنها غير مستمرة لا تعمل يومياً لكنها تنتظر المهرجانات اما المسرح المصري فهو اما «مسرح تجاري رخيص» أو «مسرح ببعض الرواسب الأكاديمية» ولا يوجد مسرح حديث بالمعنى «الحي» للكلمة. ويؤكد الجبالي ان المسرح العربي مثل المجتمع العربي يعيش مأزقاً فكرياً وجمالياً واجتماعياً، ذلك يظهر أكثر في المهرجانات التي تقام في بعض العواصم العربية ويضيف: الحركة المسرحية العربية لا تزال تقليدية، لا تزال تعمل بآليات القرن الماضي، ما زلنا نناقش مشكلة النص والجمهور والتمويل، واسماء لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة هي التي تعمل في الميدان ويمكن اعتبارها مرجعية حديثة للمسرح العربي، وهذا واقع نتج عن سياسات الدول الخاطئة، عن الفقر، فالأموال المرصودة للفن شحيحة كما ان التخطيط غائب. المسرحي الستيني الذي أوقف تقديم عرضه «كلام الليل» بعد ان حقق شعبية عالية لأن «الإجماع الجماهيري على العمل الفني يعني خللاً في بنيته» يؤكد انفتاحه واستفادته من كل ما يستجد في العالم ويقول: نحن نعيش في عالم عبارة عن «قرية كونية»، كما يقال، كل شيء يصلنا ويحيطنا بفضل التكنولوجيا، لذلك لم أعد تونسياً فقط انما مواطناً افتراضياً أيضاً، وعندما أكوّن عرضاً مسرحياً فإنني أعتمد على الخامة التونسية لكن الهندسة قد تختلف، اذاً، لست أميركياً أو ألمانياً في الدوافع التي تجعلني أقدم المسرح لكنني أميركي إن كان ذلك يعني ان تفكيري في مستوى تفكيره، لست مغروراً لأقول انني أفضل منه، ولست ضعيفاً لأقول انه أفضل مني، فأنا مفتوح على كل ما يحصل، أقدم كل النصوص بلا عقدٍ أو مخاوف ولا أعرف التنميط، ولا احب ان يُقال عني انني أقدم المسرح الفلاني أو أُعرف بأسلوب معين، اجرّب كل شيء». ويقر الجبالي، في ختام حديثه، بأن المسرح التونسي لم يقدم إنتاجاً نظرياً لافتاً، كما حصل في مصر وسورية: الانتاج النظري المسرحي في تونس قليل جداً وهذا سلبي، والقليل الموجود لا يفي بالحاجة. لكن في عالمنا العربي ثمة مفارقة: تجد تنظيراً جيداً في بلد ما لكن الفعل رديء والعكس صحيح، فما قدم من ترجمات ونشاط نظري في مصر كان كبيراً لكن أنظر اين يقف المسرح المصري الآن! ما الذي بقي فيه اما رواسب أكاديمية أو عروض شعبوية فكاهية فمسرحية واحدة لعادل أمام أثرت في أجيال من المسرحيين العرب أكثر مما فعل كتاب جيد ليوسف إدريس. ويستطرد: لكن أيضاً ما كُتب عن المسرح العربي في معظمه جاء من أدباء فلم يكن يوسف ادريس مسرحياً ولا سعدالله ونوس ولو أخرج بعض الأعمال فلقد كان يقدم المسرح بخيال الاديب لا المسرحي لكن هذا لا يقلل من أهمية تنظيره بالطبع، وفي تونس ركزنا على الممارسة الفعلية وضعف اهتمامنا بالتنظير، بدءاً من جماعة «المسرح الجديد» التي اهتمت بالممثل والمخرج وقاطعت الأدباء.