لا أحاول إخفاء مدى شغفي بمعرفة ما يحمله لنا هذا العام من تطورات حتى أقلقني الفضول وتصورت أن وراء القلق جزع، فالمقدمات منذ العام الماضي تنذر بأننا قد نشهد تطورات غير سارة إن لم تكن أليمة. يغمرني إحساس بخطر يهدد بانفراط كيانات عربية غير تلك التي انفرطت، مختلط بهاجس زيادة الاستعداد لتمرير مشروع تصفية فلسطين شعباً وأرضاً وقضايا. والإحساسان معاً يشتركان في تشكيل صورة أرى فيها ألوفاً من الناس، بل عشرات الألوف أو مئاتها. تمشي في مسيرات تهيمن عليها روح المقاومة وشعاراتها، وإن لم أتعرف في هذه الصورة على ملامح تكشف عن هوية هذا الهدف الذي ستقاومه. هذا عن الإحساس والتخيلات أو الخيالات، أما عن الفضول، فمبرراته على أرض الواقع كثيرة. لقد رأينا بكل الوضوح خلال الشهور الأخيرة مؤشرات تشير إلى أن العالم اقترب من المواجهة الفاصلة التي أتوقع أن تقرر نتيجتها نهاية المرحلة الانتقالية التي دخلها النظام الدولي عندما سقطت الشيوعية وانهار الاتحاد السوفياتي، هنا نلمس أربع علامات رئيسية هي: أولاً: الإمبراطورية تتخبط وتحبط بتخبطها آمال النخبة الإمبريالية في واشنطن وتثير في أعضائها غرائز وانفعالات شتى. أذكر الآن قدر الفخر والاعتزاز الذي ساد واشنطن في بداية عقد التسعينات، عندما كانت المقارنة بامبراطورية روما الحديث المفضل في دوائر اليمين الجديد. أذكر كتابات شارل كراوثهامر ومنها وصفه الهيمنة الأميركية بأنها"أشد اتساعاً من هيمنة أي قوة عالمية أخرى منذ عصر روما وأميركا في موقع يسمح لها بإعادة تشكيل منظومات الأخلاق وتغيير التوقعات وخلق واقع جديد". كيف؟"بأعمال عتيدة وأعمال لا تعتذر عنها تعبر عن إرادتها في الهيمنة". وأذكر أن فريد زكريا كتب عن"أحادية قطبية لم يعرف مثلها أحد منذ هيمنت روما على العالم"، وكتب ماكس بوت، المحافظ الأشد تطرفاً بين أقرانه، تحت عنوان الإمبريالية الأميركية قائلاً"لا حاجة بنا للهرب من هذا الشعار"، فقد كانت هذه الإمبريالية"القوة الأعظم لنشر الخير في العالم خلال القرن الماضي". ولا يفوتنا أن بعض الليبراليين الأميركيين انضم إلى الموكب الإمبريالي ومنهم الكاتب مايكل إيغناتييف حين دعا الأميركيين إلى"عدم احتضان الإمبريالية ولكن إلى أن يتحملوا عبء إمبراطورية خفيفة"، أي منخفضة السعر الحراري. وفجأة وقع الإحباط، فالإمبراطورية، في الرمز كما في الواقع، يتهاوى بعض أركانها أمام أعين الأميركيين والعالم كله. لا شيء، لا شيء بالمرة، يستطيع إقناع الرأي العام الأميركي الآن بأن قوات الإمبراطورية منتصرة في العراق أو في أفغانستان، أو أن الحرب ضد الإرهاب حققت أهدافها المعلنة، أو أن واشنطن الإمبراطورية تتمتع بما تمتعت به روما في إحدى مراحل الإمبراطورية من احترام الشعوب الخاضعة لها وهيبتها وربما محبتها، أو أنها تتمتع بالسيطرة الكاملة على أراضيها وشعوبها كافة. لقد صارت واشنطن تبدو في الحقيقة أقرب شبهاً إلى روما في آخر أيامها. ففي كل مكان تزداد المقاومة ضد أميركا وحلفائها دولاً أو حكاماً، وهنا لا أتحدث عن مقاومة إسلامية فقط، فالمقاومة ضد الإمبراطورية تأخذ أشكالاً كثيرة ومتباينة، هناك مقاومة"ديموقراطية وسلمية"في أميركا اللاتينية أسقطت حليفاً لأميركا بعد الآخر وإن لم تقم بالضرورة عدواً محله، ومقاومة في أوروبا ضد محاولات الهيمنة الاقتصادية وضد غطرسة أميركا السياسية التي تسببت حسب رأي مفكرين أوروبيين في"تمريغ منظومة قيم الغرب وحضارته في الوحل". وفي مواقع كثيرة تتصاعد الشكوك في جوانب من العقيدة التي تبشر بها الإمبراطورية، وبخاصة حرية السوق وحرية التجارة وتزداد الانتقادات ضد تجاهل الفقر والفقراء بعد أن اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء مهددة بابتلاع ما تبقى من مظاهر استقرار سياسي وأمني في كثير من الدول. ولا شك أنه يدخل تحت باب التمرد الأوروبي الناعم ما لاحظناه حين تجاوز حلف الأطلسي في اجتماعه الأخير حد المعارضة والتردد إلى حد التمرد ضد فكرة إقامة"أطلسيات"إقليمية متعددة تخضع للأطلسي الأعظم في بروكسيل، وتمسكه بعدم زيادة قواته والتزاماته في أفغانستان وغيرها من دول آسيا وأفريقيا زيادة كبيرة، محتجاً بأن موارده وقواته تستنزفها طموحات واشنطن الإمبريالية. ثانياً: أعلنت الصين استئناف سباق حرب النجوم. لقد كان إطلاق الصاروخ الذي نسف قمراً اصطناعياً بلاغاً من الصين إلى أميركا أنها احتلت موقعاً في مشروع دولي يؤهل دولاً بعينها لتولي مواقع قيادة النظام الدولي في المستقبل. كنا على مدى سنوات نتحدث عن النمو المذهل للاقتصاد الصيني الذي أهلها لتقف بقدم ثابتة في الصف الأول للدول الصاعدة وبقدم ثابتة أخرى في صف من صفوف الدول الصناعية المتقدمة. كنا نتحدث عن عقدين أو ثلاثة تتأهل فيها الصين للشراكة في القيادة العالمية. كنا نراقب بإعجاب، ولا أقول بحسد، الزحف الديبلوماسي والسياسي المتسارع، حتى أصبحت الصين الدولة الكبرى التي تنفرد بشبكة تحالفات"سلمية"يتجاوز اتساعها بالتأكيد اتساع شبكة التحالفات الأميركية أو الأوروبية أو الروسية. الصين الآن تتمتع بهيبة واحترام وإعجاب العدد الأكبر من دول العالم على عكس الولاياتالمتحدة التي فقدت كل هذه المتع، واستطاعت في أقل من عشرين عاماً، أي منذ بدأت الزحف، أن ترسم خريطة تتناسق فيها مصالحها الاقتصادية مع تطلعات الدول الأخرى ومصالحها وبخاصة الدول الإفريقية ودول أميركا اللاتينية وتنفذها، ولم تستثن أحداً. ففي العالم العربي، وبخاصة في الخليج، حققت الولاياتالمتحدة، رغم كل ممارسات التمنع الإقليمي المعتاد والعقبات الأميركية، إنجازات ملموسة. ونلمح الآن دولاً عربية وقد بدأت تستدير بوجوهها، ولو للحظات أو صفقات، ناحية شمس تشرق ولكن قوية ومبهرة. وكنا نتحدث عن إنفاق عسكري صيني متزايد نبه إليه دونالد رامسفيلد وديك تشيني. وكان العارف بظواهر الأمور وبواطنها في السياسة الصينية يدرك الاهتمام الزائد في مراكز الحكم والبحث في الصين بصنع منظومة أمن قومي جديد آخذة في الاعتبار الجهد المكثف الأميركي لبناء سور يحاصر الصين تحت غطاء الحرب العالمية ضد الإرهاب. هذه الحرب، يقال إنها تستدعي وجوداً أميركياً وشبكة تحالفات في آسيا والمحيط الهادي. وتقول الشواهد إن الصين لديها الآن رؤية لدورها في الأمن الآسيوي ولدورها في أمن العالم، وليس صعباً إطلاقاً معرفة الخطوط العريضة لهذه الرؤية. يفيد جداً في هذا الشأن أن نتأمل في تفاصيل الحركة الصينية إقليمياً من خلال العلاقات مع الهند واليابان والكوريتين من ناحية، والعلاقات مع باكستان وإيران وإندونيسيا من ناحية أخرى ومع أستراليا ونيوزيلندا من ناحية ثالثة، والعلاقة الفريدة والحساسة مع فيتنام وغيرها من دول جنوب شرق آسيا التي كانت دائماً تجري في فلك الإمبراطورية الصينية من ناحية رابعة. إن نظره سريعة على ما حققته الصين على صعيد علاقاتها بهذه الدول يؤكد حقيقة ليست غائبة عن واشنطن أو عواصم أوروبا، وهي أن جوار الصين القريب سيكون في السنوات المقبلة أشد أهمية للصين من الجوار القريب في الأميركتين للولايات المتحدة ومن الجوار القريب في شرق أوروبا ووسط آسيا للاتحاد الروسي. أعرف، كما يعرف كل من اقترب من الصين أو عمل فيها، أن حكماء الصين في الزمن القديم كانوا ينصحون حكامها بأن يبدأوا عهودهم بحملة"تصحيح الكلمات والمفاهيم"، حتى يتناسب ويتناسق ما يقوله الحكام وتردده النخبة السياسية والبيروقراطية مع ما يفعلون أو يريدون فعله. وأظن أن العهد الجديد في الصين التزم النصيحة، فما أسمعه وأقرأه صادراً عن المسؤولين الصينيين صادق وأمين ويعبر تعبيراً دقيقاً عن سياسات الدولة الداخلية والخارجية. ثالثاً: اتفقت روسياوالهند على إقامة شراكة استراتيجية تغطي بين ما تغطي مجال إنتاج السلاح والتكنولوجيا النووية، وأظن أن أهمية هذا الاتفاق تتجاوز حدود العلاقات الديبلوماسية والسياسية الوثيقة أو الودية، فالهند التي حصلت في السنوات الأخيرة على موقع استثنائي في السياسة الخارجية الأميركية لم تحظ به إلا إسرائيل وبريطانيا، نراها تقيم، وبكل جسارة وتحدٍ، علاقة مع روسيا الخصم الصاعد من جديد للولايات المتحدة، ليست أقل مستوى من العلاقة التي أقامتها مع الولاياتالمتحدة. تفسيري لهذا التطور المذهل في منظومة العلاقات الخارجية الهندية ليس بعيداً عن اعتقادي أن"التراتيب الآسيوية"صارت تحتل مكانة متقدمة جداً في أولويات الدول الآسيوية الصاعدة كالصينوالهند، وفي أولويات الدول المستأنفة الصعود، كالاتحاد الروسي، وأولويات الدول الحالمة بدور متميز في المستقبل كإيران. أين يلتقي، بالصدام أو الاختلاف أو الحوار، الزحفان؟ زحف الصاعدين من آسيا مع زحف المهيمنين من الغرب؟ أستبعد شخصياً أن يقع اختيار هذه القوى وتلك على المحيط الهادئ كساحة التقاء في الأجل القريب أو المتوسط. أستبعد كذلك أن يستمر التجاذب في آسيا الوسطى طويلاً، فقضيته تكاد تكون محسومة لصالح هذه القوى الآسيوية ولقواعد التوازن بينها في المستقبل. يبقى الشرق الأوسط، هنا توجد مؤشرات تشير إلى احتمالات مختلفة، ففي الشرق الأوسط تتجمع حالياً سحب تنذر بالتقاء قريب بين قوى المستقبل الآسيوية وقوى الماضي القريب أو تبشر به، أعرف أن هناك من يعتقد أن الأمر في الشرق الأوسط محسوم لصالح قوة أو مجموعة قوى، وأظن أن هذا النفر مخطئ، يخطئ أيضاً من يعتقد أن الإقليم من داخله فاقد تماماً الإحساس بالخطر أو أنه يعيش في غيبوبة لن يفيق منها. وفي هذا الشأن يشير هوا ليمينغ Huo Liming من المعهد الصيني للدراسات الدولية في بكين في خطاب له منذ أيام إلى التشابه بين سباق الصينوالولاياتالمتحدة وسباقات الفيلة في آسيا وما يمكن أن تتسبب عنه هذه السباقات من خسائر للآخرين، وبخاصة لمنطقة الخليج، ويحذر من العواقب الكارثية لآسيا والخليج خصوصاً في حال تدهور سباق الفيلة إلى اقتتال. يقال إن أمامنا في المنطقة العربية أصعب الأيام وأشدها قسوة، أمامنا احتمالات فوضى وصدامات رهيبة، ليست كلها من صنعنا أو نتحمل مسؤوليتها. أمامنا زحف آسيوي ناعم... حتى الآن على الأقل، يتأهب للتصدي له تمركز أو"تموقع"غربي عنيف وشرس، ولكن أمامنا أيضاً وفي أعماقنا، نحن أهل المنطقة، طاقة مختزنة منذ زمن تقاوم بطرق شتى وترفض ما يحدث لنا وما نحدثه لأنفسنا وترفض أن تعود كامنة. في ظل هذه البيئة الدولية ستنعقد إحدى أهم قمم العرب. أتمنى أن تأخذ هذه القمة بنصيحة حكماء الصين فتصدر عنها هذه المرة، ولأول مرة، كلمات جديدة تعبر بصدق عن النيات والمواقف بالنسبة لقضايا راسخة وقضايا استجدت وقضايا يحاول آخرون فرضها فرضاً. * كاتب مصري