لم تقتصر العودة الروسية القوية إلى الساحة الدولية على المجالات السياسية وحدها، بل طاولت صُعُداً مختلفة، وضمنها الفضاء الكوني وبحوثه. ويربط خبراء روس استعادة روسيا السريعة نسبياً عافيتها على المسرح السياسي الدولي بمعدلات النمو والاستقرار الاقتصادي والسياسي الداخلي. وكذلك يرون إن استيقاظ"الدب الروسي"من سباته الذي لم يدم أكثر من 15 سنة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، طاولت اثاره قطاعات عدة كانت لموسكو الريادة فيها سابقاً مثل البحوث العلمية والصناعات النووية وبرامج الفضاء الخارجي. وقد شهدت هذه القطاعات قفزات مهمة في السنتين الأخيرتين. نهضة علوم الفضاء... الحق ان البرامج الفضائية الروسية لم تُصب بالشلل طوال السنوات الماضية، على رغم الهزّات القوية التي ارتدّت عليها بفعل شحّ الموارد المالية، ولجوء السلطات الجديدة إلى اغلاق الكثير من المؤسسات العلمية المعنية بشؤون دراسة الفضاء"توفيراً للنفقات"، وكذلك ظاهرة"هجرة العقول"التي تسببت في خسائر كبرى للبرامج العلمية والبحثية وغيرها. وعلى رغم ذلك، يُعَدّ الفضاء وعلومه أحد القطاعات النادرة، إلى جانب البرامج النووية والعسكرية، التي لم تتعرض لضربة قاتلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق. والمعلوم أن تفكّك تلك الدولة العظمى وجه ضربة قاصمة للصناعات الثقيلة في روسيا، إذ انهارت بأثره غالبية المجمعات الصناعية الكبرى. ليس خافياً ان طريق المحافظة على انجازات الروس في المجال الفضائي كان صعباً ومليئاً بالمشاكل والمنزلقات وحتى التنازلات في كثير من الاحيان. ويُستدل على ذلك من تجربة العمل في"المحطة الفضائية الدولية" International Space Station، التي برهنت على تقدم علم الفضاء روسياً، عبر التعاون بين مؤسسة"روس كوسموس"المسؤولة عن صناعات الفضاء في روسيا والوكالة الاميركية للفضاء ناسا. وفي المقلب الآخر من الصورة، اضطرت موسكو أحياناً للقبول بدور"الشريك الاصغر"في ذلك المشروع العلمي المتقدم، على رغم قيام الخبراء الروس بقسط وافر من العمل فيه. وفي مثال محسوس، نالت روسيا حصة متواضعة من التجارب العلمية التي اجريت على متن"المحطة الفضائية الدولية"خلال المرحلة الاولى، لم تزد عن 12 في المئة، على رغم ان القسم الاكبر من العمل في مجال بناء المحطة وقع على كاهل الخبراء الروس. ويرجع ذلك التناقض، ببساطة، الى نهوض الولاياتالمتحدة وشريكيها الياباني والأوروبي بالقسط الأكبر من تمويل المحطة. ربما شكّلت التسويات"غير المُنصفة"التي خالطت المُشاركة الروسية في مشروع"محطة الفضاء الدولية"، أحد دوافع السعي الروسي الى البحث عن مصادر تمويل اخرى لبرامج الفضاء بانتظار استعادة الاقتصاد الروسي عافيته. ولم تلبث ان ظهرت"السياحة الفضائية"كابتكار مهم، على رغم أن كثيرين لم يتوقعوا في البداية ان يحقق هذا القطاع ما أنجزه من نجاح وإقبال. وفي صورة النجاح الفضائي خلال المرحلة الماضية، نشطت برامج اطلاق الأقمار الاصطناعية الأجنبية من القاعدة الفضائية الروسية"بايكونور"التي تقع داخل اراضي كازاخستان حالياً، لكنها تخضع لإدارة روسية بموجب اتفاق طويل الامد بين الدولتين. ولربما بدا ضرورياً البدء بهذا الاستعراض السريع لواقع برامج الفضاء الروسية خلال السنوات الماضية، كمقدمة لفهم حجم القفزة النوعية التي حققتها موسكو خلال السنة المنصرمة في هذا المجال. فقد بلغت نسبة الزيادة في المنتجات الفضائية في العام الماضي 14,7 في المئة في مقابل 10,7 في المئة عام 2005 الذي شهد بداية استعادة دور روسيا في هذا المجال. ويعكس تحسن اوضاع العاملين في مجال صناعات الفضاء في روسيا ملمحاً آخر من الانجاز الفضائي، بحسب ما تشير اليه الأرقام الصادرة من مجموعة من مؤسسات البحوث الروسية. كما زادت الأجور الفعلية للعاملين في قطاع الفضاء بنسبة 20 في المئة. البنية التحتية للبحوث شهد عام 2006 اعادة بناء قسم مهم من البنى التحتية في علوم الفضاء التي كانت تحتاج لترميم واصلاح كبيرين. وحلّ"مركز خرونيتشيف"، أحد أهم مراكز صناعة الفضاء الروسية"على رأس لائحة المؤسسات الناجحة في تلك الصناعة. إذ تمكن خلال العام 2006 من زيادة حجم مبيعاته بنسبة 40 في المئة. واعلنت هذه المؤسسة أخيراً عن"برنامج استراتيجي"يشمل بنوداً عدّة بينها إنشاء مجمع جديد لإطلاق مركبات الفضاء، واستخدام صواريخ مطوّرة من طراز"أنغارا"، واستكمال برامج تصنيع الصواريخ الثقيلة من طراز"بروتون"، التي تُلاقي إقبالاً أجنبياً متزايداً لاستعمالها في وضع معدات وتجهيزات في الفضاء الكوني. ولفت رئيس مؤسسة"روس كوسموس"اناتولي بيرمينوف إلى ما يصفه ب"النتائج الاساسية"للسنة الماضية على صعيد صناعة الفضاء في روسيا. ومن أهمها، الشروع في تنفيذ البرنامج الفيدرالي الفضائي الروسي الذي حدّد، وللمرة الاولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، أهداف برامج الفضاء على المستويين القصير والمتوسط. ويشمل البرنامج إرسال جيل جديد من المركبات الى الفضاء، بعد ادخال تحسينات نوعية عليها"وتحديث البنى التحتية لمؤسسات صناعة الفضاء. ويسجل خبراء كثيرون في روسيا ان العام 2006 شهد وقف عملية التدهور التي اصابت القدرات الصناعية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وكذلك أطلق آلية مُعاكسة في صناعة تطوير سفن الفضاء الروسية وتحديث امكاناتها، علماً بأن روسيا تمتلك حالياً اسطولاً فضائياً متطوراً قوامه أكثر من مئة مركبة فضاء. وقد امكن تحقيق هذه النقلة التي يصفها المختصون بأنها نوعية، بفضل زيادة الموارد المالية لصناعات الفضاء، وكذلك بفعل التحسن الاقتصادي في بلاد الكرملين بحيث زادت الموازنة المخصصة للنشاط الصناعي والبحثي في الفضاء في شكل ملموس. وبحسب هؤلاء الخبراء أيضاً، فإن برامج الفضاء استعادت حصتها من التمويل الحكومي في شكل ساهم في تعزيز أوضاعها بصورة كبيرة. وتجلى الجو الإيجابي عينه في تحوّل صناعة الفضاء الروسية إلى"مشروع وطني شامل"، بحسب تعبير مسؤول في مؤسسة"روس كوسموس"، كشف عن توقيع اتفاقات تعاون مع 38 من الحكام في مختلف الاقاليم الروسية من اجل تعزيز اوضاع البرامج الفضائية فيها، ما منح المؤسسة دفعاً قوياً جداً. وذكر المسؤول عينه، في احدى مقابلاته مع الإعلام المحلي، ان غالبية حكام الاقاليم"يدركون اهمية التعاون وتعزيز النشاط الفضائي، لأنه من دون هذا التعاون لا يمكن تطوير الاقاليم... فالصناعات وخطوط المواصلات والزراعة وصناعات الاخشاب المعتمدة على الغابات، ترتكز في شكل كبير على برامج الفضاء". وللتدليل على اهمية كلمات المسؤول الروسي، تكفي الاشارة إلى ان انظمة المراقبة والرصد الفضائية ساعدت السنة الماضية على توفير عشرات البلايين من الروبلات كانت ستهدر في قطاع صناعات الاخشاب والغابات بسبب الحرائق الكبرى. ولم يخل العام 2006 من نجاحات مهمة في"المحطة الفضائية الدولية"أيضاً، اذ عمل الخبراء الروس على بناء انظمة التزود بالطاقة على متن المحطة ما سمح بتوسيع برامج استقبال سفن الفضاء المختلفة. ووفقاً لهذا التطور فإن المحطة ستستقبل خلال السنتين المقبلتين سفينة يابانية واخرى اوروبية. إجمالاً، يبدو العام 2006 وكأنه المنعطف الذي أدارت روسيا عنده ظهرها لمرحلة التراجع او التدهور وبدأت انطلاقتها الجديدة. ولذا، يعتقد كثيرون من المسؤولين عن برامج الفضاء بأن العام 2007 سيشهد تعزيز اوضاع هذا القطاع من الصناعات وتحقيق قفزات مهمة. وكذلك فقد يفتح المجال على"مرحلة جديدة طموحة جداً"تأمل روسيا من خلالها في ان تستعيد ريادتها الكاملة فضائياً، خلال بضع سنوات. وجاءت أولى بشائر اطلاق المرحلة الجديدة بإعلان إيغور بانارين السكرتير الصحافي ل"وكالة الفضاء الفدرالية الروسية"عن أن قطاع الفضاء"سيتم تمويله في السنة الحالية بصورة تامة من الموازنة الفيدرالية"وذلك للمرة الاولى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. وعلى رغم ان المسؤولين في الوكالة لا يكشفون أرقاماً حول حجم موازنتهم، لكن هذا التطور يتيح مجالاً لدفع البحوث والبرامج إلى الأمام، بعد أن اعتمدت على تمويل نفسها ذاتياً من خلال البرامج التجارية، في الفترة الماضية. التعاون مع الجار الأوروبي ومن المتوقع أن تشهد السنة الحالية اطلاق برنامج ضخم روسي اوروبي مشترك يعلق الروس عليه آمالاً كبيرة. إذ يشمل مشاريع كبرى تمتد مرحلتها الاولى بحسب الخطة الموضوعة حتى العامين 2012و2013 . وخلال هذه الفترة، سيطوّر الطرفان مراكب"سيوز"الفضائية، الموروثة من زمن الاتحاد السوفياتي، ويدخلان تعديلات واسعة عليها لتحسين ادائها. وكذلك تتضمن المرحلة الاولى من المشروع المشترك برنامجاً لتطوير سفينة الفضاء"بروغريس"التي تسمى"الشاحنة"وهي سفينة ضخمة تقوم بنقل مستلزمات العمل والمؤن إلى المحطة الفضائية الدولية. ويذكر أن احدث رحلة انجزتها"الشاحنة"أخيراً، تمثّلت برحلة الى"محطة الفضاء الدولية"، نقلت خلالها شحنات ومواد للاستخدام اليومي وأجهزة علمية ووقوداً ومواد غذائية ومياهاً لطاقم المحطة المُكوّن من 14 شخصاً. اما المرحلة الثانية من برنامج التعاون الروسي - الاوروبي فسوف تبدأ في العام 2013، وتتضمن بناء سفينة فضائية جديدة من طراز"كليبر"يعوّل عليها الروس والأوربيون كثيراً لتحلّ مكان السفن الناقلة المستخدمة حالياً. ومن ضمن برامج الفضاء الروسية لهذه السنة، كشف مسؤولون في الوكالة الفيدرالية عن خطط لإنهاء العمل الجاري على تحديث الصاروخ الحامل للأقمار الاصطناعية من طراز"سيوز 2". وبحسب مصادر في الوكالة، سيطلق صاروخان من هذا الطراز خلال العام 2007، اضافة إلى رحلات عدّة للشاحنة الفضائية"بروغريس". وقد اطلقت روسيا السنة الماضية عدداً من صواريخ"سيوز"المُعدلة بنجاح من قاعدتها الجوية في"بايكونور". وذكرت مصادر مطلعة ل"الحياة"ان هذه السنة ستشهد اطلاق عشرين مركبة فضائية روسية بينها بعض المراكب المجهزة للاستخدامات العلمية. وينظر الخبراء بتوثب الى عملية اطلاق المركبة"ستريخ"، باعتبارها من أهم الانجازات المتوقعة في سياق هذا البرنامج. والمركبة"ستريخ"سفينة فضائية تحوي انظمة معقدة وبالغة التطور في مجال عمليات البحث والانقاذ. وفي سياق متصل، فإن غالبية مشاريع الاطلاق هذه السنة تجري لمصلحة وزراة الدفاع. اذ تطلق الوكالة الروسية سفناً واقماراً عدة مخصصة لأغراض عسكرية. وفي السياق العسكري عينه، يذكر أن السنة الماضية شهدت نقل ادارة كثير من المنشآت في قاعدة"بايكونور"من وزارة الدفاع إلى الوكالة الفضائية الفيدرالية علماً بأن وزارة الدفاع كانت تحتفظ في القاعدة الجوية بمنشآت عدة. وقد بدأ العمل أخيراً على نقل صلاحياتها إلى الوكالة ضمن خطط تطوير عمل"روس كوسموس". كما اعلن مسؤولون في هذه المؤسسة أن السنة الحالية ستشهد استكمال تسليم المواقع الباقية كلها لتكون تحت اشراف البرامج الفضائية الروسية في شكل كامل. وتجدر الاشارة إلى ان موسكو سعت أيضاً إلى تعزيز نشاطها العسكري في الفضاء. وبحسب وزير الدفاع سيرغي ايفانوف، فإن روسيا التي بدأت منذ السنة الماضية العمل باستراتيجية"الدفاع الجوي الفضائي"، تعمل على مواصلة استخدام الفضاء لأغراض عسكرية، لكن من دون نشر اسلحة في الفضاء الخارجي. واعرب ايفانوف أخيراً خلال افتتاحه محطة انذار مبكر روسية تعمل بتوجيه من الفضاء عبر الاقمار الاصطناعية، عن رفض بلاده المطلق لخطط اميركية بنشر اسلحة في الفضاء. كما اعتبر ان ذلك يمكن ان يشكل"تطوراً خطيراً بالنسبة الى البشرية كلها". ولذا، يتوقع أن تشهد السنة الجارية بلورة"العقيدة الفضائية الروسية"او الاستراتيجية البعيدة المدى والتي تشتمل على برامج لتطوير قطاع الفضاء بوصفه احد المجالات الأساسية لروسيا، وعلى قدم المساواة مع قطاع الصناعات النووية مثلاً. واتضحت أخيراً بعض ملامح الخطط الجديدة. وتبيّن أنها تتضمن برامج تستمر حتى العام 2040. ويأمل الروس في انجاز بناء منظومة ملاحة فضائية كاملة ووضع مشروع الرصد عبر الأقمار الاصطناعية"غلوناس"، ثم تشغيله في المستقبل القريب. وتشمل خطط تطوير قطاع الفضاء اطلاق أوسع برنامج لتطوير"روس كوسموس"وتعزيز امكاناتها. اذ تشهد هذه السنة البدء في برنامج لدمج 112 مؤسسة روسية تعمل حالياً في مختلف قطاعات صناعات الفضاء وتقوم ببناء الصواريخ الفضائية والمعدات التقنيات المختلفة في ثلاث او اربع مؤسسات مع حلول العام 2015. ويقول مسؤولون في برامج الفضاء ان تنفيذ هذه الخطة سيؤدي إلى تعزيز عمل برامج الفضاء على نحو غير مسبوق، كما يجمع طاقات جبارة ويوحدها. وينتظر كثيرون من الروس ان تسفر الخطة عن"ثورة"في مجال صناعات الفضاء الروسية كونها تؤدي إلى بروز"عملاق صناعي فضائي"لا مثيل لإمكاناته عالمياً. وفي المقابل، يُبدي بعضهم تحفظاً قوياً. وقد قوبلت خطة تطوير مشاريع الفضاء باعتراضات لأنها قد تُسفر عن تقليص في عديد الجيش الهائل لموظفي وقطاع الفضاء الروسي الذي يبلغ تعداده راهناً قرابة 240 الف شخص. وأوضح رئيس"روس كوسموس"اناتولي بيرمينوف ان نسبة التخفيض ستصل إلى نحو 40 في المئة من العاملين في هذا المجال، لكنه شدد على ان النتائج المنتظرة تبرر هذه التضحية.