لم تقتصر الآثار السلبية لتحطم المكوك الأميركي "كولومبيا" على برامج الفضاء في الولاياتالمتحدة وحدها، إذ أثار الحادث مخاوف القائمين على الصناعات الفضائية في عدد من الدول بينها روسيا. وأصيب خبراء الفضاء الروس بخيبة أمل عميقة ولم يتردد بعضهم في وصف احتراق "كولومبيا" بأنه ضربة قاسية تهدد بشل البرامج الفضائية الروسية التي تعاني أصلاً مصاعب سببها نقص الموارد اللازمة لتمويل مشاريعها، وسيكون عليها أن تتحمل أعباء اضافية في مهمات رعاية المحطة الفضائية الدولية بعد تجميد رحلات المكاكيك الأميركية. لكن آخرين لم يستبعدوا ان تسهم هذه النكسة في رد الاعتبار الى البرامج الروسية التي ما برحت تحتضن خبرات رفيعة وامكانات تقنية عالية المستوى. ودعا هؤلاء صراحة الى تعزيز التعاون في هذه المجالات مع القارة الأوروبية التي رأوا انها ستولي منذ الآن اهتماماً أكبر لصناعات الفضاء الروسية، اضافة الى الصين التي زاد حجم تعاونها الفضائي مع روسيا خلال الآونة الأخيرة. ومن الواضح ان صناعات الفضاء في روسيا لم تتعرض للانهيار كما حدث للقطاعات العلمية والاقتصادية، على رغم أنها عانت من نقصاً حاداً في الموارد الحالية. لكن الانقسام الذي شهدته، بين مؤيد بقوة للتقارب مع الولاياتالمتحدة ومعارض لهذا التوجه، ساهم في الحد من قدرات روسيا على تجاوز أزمتها في مجال أبحاث الفضاء. ويتهم الخبراء الروس النخبة السياسية الحاكمة بإهمال صناعة الفضاء. ويقول عضو اكاديمية رواد الفضاء فالنتين بيلوكون ان الخبرات الروسية المتراكمة والعدد الكبير من المشاريع الفضائية التي كانت قيد الانجاز لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي، قادرة على المنافسة بل والتفوق على القدرات الأميركية في هذا المجال، في حال توافر لوكالة الفضاء الروسية ثلث الموازنة التي تحصل عليها نظيرتها في الولاياتالمتحدة. والمثير ان موازنة مؤسسة "روس افياكوسموس" المسؤولة عن صناعات الفضاء لا تتعدى 47 مليون دولار في مقابل ما يزيد عن 14 بليون دولار هي موازنة وكالة "ناسا" الأميركية. والمفارقة ان روسيا التي قدمت للبشرية أبحاثاً خلاقة في هذا المجال، وأرسلت أول انسان الى الفضاء، تنفق على أبحاثها الفضائية راهناً أقل بمرتين من الهند مثلاً التي دخلت عصر الفضاء في وقت متأخر نسبياً. والأكيد ان عجز الحكومة الروسية عن تأمين الموارد اللازمة لأبحاث الفضاء دفع الى اللجوء الى اجراءات وصفها الخبراء الروس بأنها كارثية، من بينها قرار اغراق محطة "مير" الفضائية بعد أن أمضت 15 عاماً في الفضاء وحققت أبحاثاً ودراسات جمّة. وما زالت تجربة "مير" مصدر فوائد عدة للتجارب الكونية في مختلف دول العالم، بما في ذلك المحطة الدولية الفضائية. كما أدى نقص الموارد الى تجميد العمل في الكثير من المشاريع الفضائية الكبرى وبينها المكوك السوفياتي "بوران" الذي صمم لينافس المركبات الفضائية الأميركية مثل تشالنجر وكولومبيا. وعلى رغم ان بناءه أنجز قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، إلا أن هذا المكوك لم ير الفضاء وظل مخزناً في احد المجمعات الفضائية يعلوه الغبار، قبل أن يتحول مطعماً لبيع الوجبات السريعة في احدى حدائق العاصمة موسكو. لكن مصير "بوران" لم يشغل بال كثيرين، بل سارع بعض الخبراء بعد حادث "كولومبيا" الى شكر "الحظ" الذي جنّب روسيا اختبارات المكاكيك الفضائية. فأسوأ حادثين في تاريخ الأبحاث الفضائية تعرض لهما مكوكان فضائيان أميركيان مماثلان لطراز "بوران" هما "تشالنجر" عام 1986 و"كولومبيا". ولذا يتساءل بعض الخبراء الروس مجدداً عن أهداف ارسال الإنسان الى الفضاء الخارجي وجدواه. وشدد رائد الفضاء السوفياتي البروفسور قسطنطين خيو كتيستوف على أن العلماء لم يتمكنوا حتى الآن من صوغ مهمات محددة للإنسان في الفضاء الخارجي. وأشار الى ان الفوائد التي تحققت منذ أن غزت البشرية الفضاء تمت غالبيتها بفضل الأجهزة والمعدات الآلية. وفي الاطار نفسه يقول رائد الفضاء السابق الكسندر فينويكتوف ان احتراق "كولومبيا" سيجبر القائمين على برامج الفضاء على اعادة النظر في أبحاثهم، ليس فقط في الولاياتالمتحدة وإنما في روسيا أيضاً. لكن هذه النظرة المتشائمة لا تعكس الحقيقة كلها. فالواقع ان نقص الموارد المالية لم يمنع أبحاث الفضاء في روسيا من التأقلم مع الأوضاع الجديدة والبحث عن سبل أخرى من أجل مواصلة العمل على المشاريع الفضائية. واستفادت وكالة الفضاء الروسية في هذا المجال من الخبرات المتراكمة لديها، فلجأت الى ابتكار وسائل جديدة للتمويل، من بينها اطلاق الأقمار الاصطناعية الأجنبية التي استفادت منها دول عدة، منها المملكة العربية السعودية والجزائر والهند وغيرها. كما فتحت روسيا للمرة الأولى الفضاء أمام الراغبين من السياح في ما اعتبر نقلة نوعية في التجارب الفضائية ساعدت في رفد المشاريع الروسية بموارد اضافية بلغت في العام الماضي وحده 45 مليون دولار، أي ما يعادل مجموع موازنة الوكالة الروسية. وألمح بعض المسؤولين عن أبحاث الفضاء الى ان النكسة التي منيت بها البرامج الأميركية يمكن ان تعود بنفع على المشاريع الروسية. واقترح مدير مؤسسة "روس افياكوسموس" يوري كوبتيوف زيادة دور روسيا في المشروع الفضائي الدولي، وأكد انه يمكنها وحدها ان تتولى مهمات صيانة المحطة الدولية "إذا وجدت من يدفع". وسبق لبعض الخبراء الروس ان ابدوا تذمرهم من "الظلم" الذي يمارس ضد روسيا في المحطة الفضائية. فعلى رغم ان رواد الفضاء الروس يقومون بدور أساس فيها، إلا أن نصيب بلادهم من أبحاث المحطة الدولية لا يتجاوز 12.5 في المئة! وأكثر من ذلك فقد هدد الناطق باسم "روس افياكوسموس" سيرغي غوربوتوف بالانسحاب من المشروع الدولي.والمفارقة ان هذه المحطة غدت "حبل النجاة" الذي تتعلق به صناعة الفضاء الروسية، إذ ان الغياب الموقت للولايات المتحدة سيخلي الساحة أمام استعراض قدرات المركبات الروسية، التي أثبتت حتى الآن انها أكثر أمناً، كما أن تكاليف بنائها وإطلاقها تقل بكثير عن مثيلاتها في الولاياتالمتحدة. قد يكون هذا الأمر وراء اصرار الوكالة الروسية على اطلاق المركبة "بروغريس" التي حملت في اليوم التالي مباشرة لتحطم المكوك الأميركي معدّات وأغذية الى المحطة الدولية. وأكد المسؤولون الروس عدم نيتهم ادخال تعديلات على برامجهم الفضائية بسبب احتراق "كولومبيا". ولفتت مسارعة المؤسسات الفضائية الروسية الى تأكيد قدرتها على تعويض الغياب الأميركي عن الفضاء، وأعلن مجمع بناء صواريخ "بروغريس" في مدينة سامارا استعداده لزيادة طاقته الانتاجية، كما ضاعف مصنع محركات الصواريخ الحاملة في مدينة فاردينج انتاجه. وذكر ناطق باسم "روس افياكوسموس" ان موسكو قررت تسريع عمليات بناء مركبات "سيوز"، في حين ناقشت المؤسسة التشريعية زيادة الانفاق على أبحاث الفضاء. والجدير ذكره ان مدير معهد صناعات الفضاء نيكولاي بانيتشكين كشف عن ان موسكو كانت عرضت على الوكالة الفضائية الأوروبية قبل أيام قليلة من حادث تحطم "كولومبيا" بناء مركبة أوروبية - روسية بغرض خدمة المحطة الدولية. ولا تبدو الدول الأوروبية وحدها مرشحة لتعزيز تعاونها مع روسيا في مجالات الفضاء. فالصين التي عملت سنوات على تطوير قدراتها الفضائية في شكل حثيث زادت من حجم تعاونها مع روسيا خلال السنوات الأخيرة. ومعلوم ان الاتحاد السوفياتي كان سينظر بريبة الى المشاريع الفضائية الصينية ويعتبرها أحد أخطر المنافسين في مجال الفضاء. وحلت نبرة التعاون محل نظرة الريبة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وارتقى التنسيق الى مستوى مرموق. وأرسلت بكين رائدي فضاء لتلقي تدريبات خاصة في مدرسة روسية. ويرى الخبير الروسي سيرغي موروتوف أن التعاون بين البلدين من شأنه أن يطلق مرحلة جديدة في أبحاث الفضاء. والحال ان الصين خصصت موازنة اضافية لتطوير قدراتها خلال السنوات الخمس المقبلة بهدف نشر أقمار اصطناعية وبناء محطة فضائية. وقبل فترة وجيزة، نجحت الصين في اطلاق مركبة "شينجو 3" واعادتها بسلام. واعتبرت الأمر تمهيداً لتنفيذ مشروع ارسال انسان آلي الى الفضاء. وقلل موروتوف من المخاوف المتعلقة بخطط الصين لإرسال مركبتها الجديدة المأهولة "شينجو 5" في تشرين الأول أكتوبر المقبل. وكانت هذه الخطط أثارت مخاوف في روسيا كون الصين ستصبح ثالث دولة تنظم رحلات مأهولة الى الفضاء الخارجي بعد روسياوالولاياتالمتحدة.