خلال مشاهدتي "سَلَطة بلدي"، كنت استرجع في ذاكرتي ما قرأته لأمين معلوف في "هويات قاتلة". فبالرغم من العنوان المخادع للفيلم الا انه يستحق تصنيفا له بامتياز هو"الهوية القاتلة". فالفيلم يحدد منذ البداية خروجه عن السياق العام الآمن والمألوف لأفلام تتعرض لهويات دينية في منطقة الشرق الأوسط"حيث تتعامل مع موضوع الأديان باعتبار أن الشرق الوسط مهبط الرسالات وان اهله اكثر الشعوب تسامحاً!. وتحاول هذه الأفلام أن تتجاهل الحساسية الخاصة لهذا الموضوع. فهو يستنفر كراهيات كامنة ومترسبة مخفية تحت رمال واهية سرعان ما تكشف عن هشاشتها في حالات كهذه، خاصة اذا ما دار النقاش حول الدين اليهودي وارتباطه بدولة إسرائيل... مثلاً! من هنا جاء اختلاف هذا الفيلم مع افلام سبقته. وهو اختلاف جارح لأنه لا يناقش الموضوع من فراغ افتراضي، بل من واقع حيّ لأسرة مصرية مثقفة لها تاريخ سياسي في النضال الوطني. كنت استرجع ايضا معظم ما كُتب عن الفيلم حتى بشكل ايجابي خجول وتبريري من أنه فيلم عن التسامح الذي اشتهرت به مصر! بين الأديان وكأن ما يحدث الآن من عدم تسامح أمر مفاجئ له علاقة بمؤامرات عالمية، أو أنه عن اليهود. اما ما كُتب عنه باعتباره ينادي بالتطبيع مع اسرائيل وما ترتب على ذلك من تجميد عضوية المخرجة نادية كامل في نقابة السينمائيين المصريين حتى يتم التحقيق معها، فأمر يؤكد سوء نية مرتبطا بجهل سياسي وتاريخي للمنادين بهذا. فالجهل سياسي هنا من حيث الإعلان أن التطبيع موضوع الفيلم . والجهل تاريخي من حيث هو تجاهل للجذور العرقية المرتبطة بجزء من المصريين وباليهود كعرق. أما اتهام الفيلم بالتطبيع، فلا اعتبره تهمة لأنه هنا رغبة مرتبطة بفعل انساني صادق وشخصيّ هو أيضا بالغ الخصوصية. فلا يمكن تجاهل رغبة السيدة الأم العجوز في أن تقيم مرة اخرى علاقات"طبيعية"مع بقية افراد اسرتها الذين هاجروا من مصر الى اسرائيل. وهي علاقات تجمدت في ثلاجة أو أتون العلاقات العربية الاسرائيلية منذ منتصف الأربعينات. "سلطة بلدي"فيلم مصري بامتياز. يتضمن عناصر مصر الكوزموبوليتية منذ أن شيد الإسكندر مدينة الإسكندرية، مدينة كفافيس وداريل: امكنة تتضوع بمزيج متآلف من اعراق مختلفة قوقازية وشيشانية وأوروبية غربية مسيحية وإسلامية ويهودية تتجمع في خليط متمازج احيانا، ومتنافر في احيان اخرى، نجده هنا داخل اسرة مصرية واحدة تجمع، كما قالت المخرجة في تقديمها لفيلمها، بين الاشتراكية الماركسية والأصولية الدينية المسلمة واليهودية، بالإضافة إلى الفاشية والحركة النسوية! فالفيلم بداية، ليس عن اليهود او عمن تبقى منهم في مصر كما قال البعض ولا علاقة له بالتطبيع اللهم إلا اذا كانت زيارة سيدة عجوز لأقربائها اليهود في اسرائيل - فلسطين ولأصدقائها الفلسطينيين وغير الفلسطينيين المقيمين في رام الله، تطبيعاً! ومع الإخلاف بين الزيارتين، زيارة عجوز دورينمات التي رجعت مرة اخرى الى بلدتها لتنتقم، وعجوز الفيلم التي تزور اقرباءها لتصالحهم وتتصالح مع نفسها، يبدأ الفيلم بمشهد عام لصلاة العيد في العراء في القاهرة. طفل اسمه نبيل، لا يتعدى العاشرة يقف بين المصلين، يصلي. ثم بعد انتهاء الصلاة نسمع من المايكروفونات أصوات الخطباء وهم ينادون بالويل والثبور أعداء الإسلام من اليهود والنصارى الذين ينصبون له المكائد العالمية. في طريق العودة الى البيت تعلن المخرجة خالة الطفل قرارها بنفض التراب عن كاميرتها لتنقل للطفل تاريخ الأسرة الممتد عبر قرن من الهجرات والتحولات الدينية وزيجات مختلطة مصرية وفلسطينية وإيطالية ولبنانية. ترغب أن تقدم لهذا الجيل من اطفال الأسرة تاريخا سياسيا عائليا بعيدا عن العداوات المؤطرة، تاريخا حقيقيا ومأسويا ايضا، للشرق الأوسط كله. فنحن نجد أنفسنا بمواجهة جيل ورث عداوات لا يعرف مصادر نشأتها. عداوات بين ابناء وطن واحد يدينون بدينين. عداوات بين"ابناء عمومة"يهود وفلسطينيين ? عرب ساميين يتهمهم العالم بمعادة السامية وهم يبحثون عن عدل ضائع وعن رغبة في عيش مشترك بعيدا عن تطرف ديني من الناحيتين. الجدة، نايلة كامل، صحافية ماركسية قضت سبع سنوات في السجون المصرية. الجد سعد كامل"كاتب وصحافي ماركسي مصري قضى سنوات ايضا في السجون والمعتقلات. نسب العائلة من الناحية الفلسطينية يتداخل مع عائلة نبيل شعث السياسي والمفكر الفلسطيني. فأخت المخرجة متزوجة من أحد أفراد هذه العائلة وأنجبت ابنها الطفل نبيل، ورندا شعث المصورة المعروفة عمته! حكاية العائلة وجذورها المتشابكة هي محور الفيلم. الطفل نبيل هو"سبب وجود الفيلم"reason d"etre فمعظم الابداعات الفنية من المحتم أن يكون لها"سبب للوجود"حيث قررت المخرجة اعطاءه جرعة مكثفة عن تاريخ العائلة عبر حكايات الأم وعبر رحلاتهما الميدانية للسفر للقاء من تبقى منهم. وهو لم يسافر الى اسرائيل-فلسطين لأن الأم التزمت بالموقف السياسي السائد وهو"المقاطعة"لكل ما له علاقة بإسرائيل حتى لو كانت الأراضي الفلسطينية! تبدأ الجدة حكاياتها بسيرة والدها وزواجه من امها. والد الجدة يهودي ايطالي هاجر الى مصر في بداية القرن الماضي. تزوج من الفتاة المسيحية الإيطالية التي التقى بها في مصر. انجبا جدة الطفل نبيل- ثمرة هذا الزواج . هكذا اخفت الجدة نايلة كامل ديانتها الحقيقة عمن حولها وأعلنت انها مسيحية. من هنا كانت صدمة افراد عائلة الأب - الآن - والأصدقاء المسلمين المصريين حينما تم اعلامهم بالحقيقة. وتعبير صدمة هو الذي استخدمته سيدة مصرية مسلمة ومحجبة صديقة للأم، تقول عن الأم انها ساهمت في تكوينها وتنشئتها وأنها مدينة لها بالكثير. قالت انها"صُدمت"حينما أخبرتها الأم بأنها يهودية. تسالها المخرجة"لماذا؟"فتجيب أن ولاء الأم لمصر... لكنها الآن ستسافر الى اسرائيل لتزور اهلها. تضيف:"كنت اعتقد اننا نحن اهلها هنا في مصر وبقية اهلها في ايطاليا". الجزء الآيطالي يعلن في الفيلم انه لم يكن يرغب في الرجوع الى ايطاليا لولا المضايقات التي تعرضوا لها في مصر عقب تولي عبد الناصر الحكم. الفرع اليهودي في اسرائيل يحتفظ بصور العائلة المقيمة في مصر ويتحدثون عن ذكرياتهم مع اصدقائهم المصريين وعن خوفهم من الاقامة في مصر بعد تدوال حكايات عن ترهيب اليهود المقيمين هناك. ولهذا رحلوا إلى اسرائيل. في لحظة تنوير- في القاهرة - وأسرة المخرجة تناقش فكرة السفر الى اسرائيل وصعوباتها والنتائج السياسية المترتبة على ذلك على كل من الأب والأم، تعلن الأم أمام الكاميرا، وأمام الاصدقاء وأفراد العائلة، انها اخفت هويتها اليهودية طوال اكثر من نصف قرن، وقطعت علاقاتها بمن هاجر من اسرتها الى اسرائيل وأنها الآن تريد أن تستعيد حياتها. هكذا تظهر فكرة السفر إلى إسرائيل للقاء افراد العائلة. يعلن الأب انه يريد أن يأخذ وقتا للتفكير"لأن الأمر ليس سهلاً، خاصة أن زيارة اسرائيل تتطلب موافقة خاصة من"أجهزة الأمن". هو يفكر في النتائج المترتبة التي سيواجهها من قبل معظم معسكر اليسار وكل المعسكر الديني الإسلامي والناصريين ايضا! حياة بأكملها عاشتها الأم يوميا بشكل ناقص ومبتسر. فتقرر بعد أن تقدم بها العمر أن تستجمع شجاعتها وان تعلن هويتها. ونعرف خلال النقاش بين افراد الأسرة في القاهرة أن الأب والأم يتفقان في موقفيهما من اسرائيل-الشعب وليس الحكومة. يعلن الأب انه مثل بقية الشعوب فيه ما في الشعوب الأخرى من طيبة ورفق وقسوة وغلظة. هذا هو وقت المواجهة. مواجهة ليست مع السُلطة لكن مع معسكر اليسار اساساً- معسكر الأب والأم! يقرر الأب السفر مع الأم لأنه مقتنع بحق المواطن أن يناقش وان يقرر وان يختار ما يريد من قرارات حتى لو اصطدمت بموقف مضاد جماعي. في لقطة جميلة في ايطاليا - نشاهد الطفل نبيل يقرأ الفاتحة وهو واقف على قبر اسلافه اليهود في ايطاليا. في لقطة في بيت العائلة اليهودية في اسرائيل نشاهد غرفة رب العائلة. يقول انه يسمع يوميا من راديو اسرائيل في ساعة محددة اغاني ام كلثوم ويفتح الراديو لنسمع ام كلثوم تغني"الاطلال"ويعلن ضاحكا وهو يشير الى الغرفة الصغيرة الضيقة"هنا الوطن العربي"، وعلى الجدار في الغرفة نرى صورة لمجندين اسرائيليين يقول"انهما اولاد اختي". بعض افراد الاسرة من الذكور يضعون على رؤوسهم الطاقية الصغيرة الخاصة باليهود المتدينين. عديد من افراد الأسرة من المقيمين في اسرائيل يتحدثون العربية ببعض الصعوبة لكنهم ما يزالون يتحدثون بها. تذهب الأم الى رام الله والى القدس وتقول في نهاية الفيلم"اني كنت كمن يحلم... والآن انا في الواقع الصعب الذي لا يبدو أن حلا قريبا له في الأفق"، تقصد بذلك واقع الفلسطينيين المقيمين في فلسطين حيث تتابع مع الكاميرا نقاط التفتيش الاسرائيلية والحائط السيء السمعة. صديقة فلسطينية للأم شجعتها على السفر بقولها"إن المقاطعة لم تفد القضية الفلسطينية بل اضرتها لأنها زادت من عزلة الفلسطينيين في الداخل". في الاسئلة التي وجهها الجمهور في امستردم للمخرجة، كان هذا السؤال:"هل جرت مناقشات سياسية بين افراد الاسرة الكبرى؟"، اجابت المخرجة بالنفي، مبررة ذلك بحساسية الموضوع وبأن لقاء الأم بعد اكثر من خمسين سنة من الفراق كان هدفه الأساسي الحنين. تفسر المخرجة خلال اجاباتها لماذا صنعت هذا الفيلم بقولها"إن رسالة الفيلم فتح باب النقاش في القضايا المتعلقة بالخطوط الحمراء". هي لا تنفي انه فيلم سياسي وتقول إن السياسة جزء منه. وتضيف: لكن هناك ايضا أجزاء اخرى في الفيلم لا علاقة لها بالسياسة... الأجزاء الأخرى، هي علاقة الجدة الأم مع نفسها. أي اخفاء هويتها، حتى لا تجد نفسها في موقف تضطر فيه أن تشتبك في جدل مع جماعتها السياسية المصرية ومع انسبائها المصريين وأصدقائها. وهي ايضا متواجدة في"ثقافة الإنكار"حيث نجد دهشة حقيقية، رافضة ايضا لموقف الأم"الجديد"الحقيقي ورغبة طفولية من الكثيرين في التمسك بموقف الأم الزائف السابق لأنه مريح للجميع! في رواية ماركيز"الحب في زمن الكوليرا"، استطاع العاشقان بعد سنوات طويلة من الحرمان أن يلتقيا اخيرا على سطح باخرة صغيرة تمخر مياه بلادهما. عجوزان تحطم جسداهما بفعل الزمن. الباخرة محكوم عليها بعدم اللجوء الى الشاطئ لانتشار الكوليرا، فتمخر العباب بشكل دائري. هناك يلتقي العاشقان. لا يبحثان عن الجسد لكنهما يبحثان عن ماضيهما الذي حرمهما منه اهلهما. وهناك ايضا سيجدانه. حينئذ ? كما تقول الحكاية - تختفي التجاعيد من الجسدين الهرمين ويستمتعان ببعضهما! لكننا ما نزال في عزلتنا داخل بواخرنا تبحر دائرياً، محكومة بعدم اللجوء الى مرافئ الأمان والحب والحنان! * كاتب وروائي مصري.