كل اختيار هو في نهاية الأمر اختيار شخصي. وحتى حين تكون هناك لجنة تحكيم جماعية يقال عادة انك حين تختار اللجنة تكون قد اخترت الفائزين سلفاً. من هنا لا بد من الإشارة الى أن الأفلام العشرة المذكورة هنا، هي الأفضل في معايير خاصة وليس من الضروري أن تكون الأفضل اطلاقاً. وحتى هنا في هذه المعايير ثمة عناصر عدة ومتنوعة لعبت دوراً في الاختيار. اضافة الى هذا لا بد من الإشارة أيضاً الى ان الترتيب التالي ليس تفاضلياً تماماً. الفيلم الأول الذي يرد على الذهن هنا هو"زودياك"للأميركي دافيد فينشر، عمل له نكهة الحنين الى السبعينات من القرن الماضي، وسمة الأفلام البوليسية ورعب أفلام السفاحين. ومع هذا هو فيلم عن العناد. عن الهوس الذي يدفع صاحبه الى تكريس معظم سنوات حياته للبحث عن أجوبة ربما لم يصل اليها أبداً. وكل هذا من حول حكاية مجرم حقيقي ارتكب في سان فرانسيسكو سلسلة جرائم وكان يلذ له أن يكتب الى صحيفة مفصلاً مآثره متحدياً الشرطة والصحافيين أن يكشفوه. واحد من هؤلاء التقط القضية وراح يجري تحقيقات تواصلت نحو عقدين وأكثر. وفيلم فينشر هو متابعة لعناد هذا الشخص الذي ظل حاضراً بعدما قرر المجرم، من دون مقدمات، التوقف عن ارتكاب جرائمه. "أنا لست هنا"، أكثر حداثة من"زودياك"، لكنه مثله يعتمد موضوعاً مستقى من الحياة، ويمتد زمنياً على مدى طويل. ولكن في مقابل مجرم"زودياك"وصحافيّه، هناك بوب ديلان، أسطورة غناء الروك في الثقافة الشعبية الأميركية. ديلان سبق أن قدمته أفلام كثيرة، كان آخرها قبل"أنا لست هنا"فيلم في 4 ساعات لسكورسيزي. ولكن فيما اختار سكورسيزي أن يقدم عملاً توثيقياً، اختار تود هاينز أن يقدم عملاً روائياً في فقرات عدة، يحكي كل منها مرحلة من مراحل حياة ديلان، وبممثل مختلف. بل حتى بطريقة مبتكرة، حيث نجده يسند الى طفل أسود دور ديلان طفلاً... وحتى الى كيت بلانشيت دور ديلان في مرحلة من مراحل شبابه... خلال الدورة الأخيرة لمهرجان"مراكش"الدولي، لم يلفت فيلم"آل سافدج"لتامارا جنكنز، نظر لجنة التحكيم على عكس ما كان متوقعاً. لكنه على الأرجح سيلفت نظر محكمي الأوسكارات المقبلة الذين سيرون فيه، بالتأكيد، واحداً من أفضل ما حققته السينما شبه المستقلة الأميركية هذا العام، موضوعاً وأداء وإخراجاً. فمن حول حكاية رجل وامرأة شقيقين يواكبان، ملتقيين بعد غياب، أباهما في جنونه وموته آخر أيامه، يقدم لنا الفيلم حكاية جيل وثقافة وخيبة وتفكك عائلي، قد يكون من المؤسف أنه لم يستكملها حتى النهاية التي ارتأى أن تكون سعيدة ومستقيمة على عكس ما كان يوحي به السياق. منذ سنوات نعرف أن السينما الرومانية سينما في ازدهار كبير... بل ان بعض صانعيها - من مخرجين وممثلين - صاروا معروفين في الخارج وتلقى أفلامهم إقبالاً. ومع هذا كانت المفاجأة كبيرة في الربيع حين عرض الفيلم الروماني الجديد"4 أشهر، 3 أسابيع، يومان..."للمخرج الشاب كريستيان مونجيو. صحيح ان الموضوع بسيط: امرأة حامل تريد أن تجهض وصديقتها تساعدها في ذلك. ولكن خلف هذا الموضوع، رأينا عالماً بأسره ومجتمعاً وألماً وإحباطات مرتبطة بما كان يحدث في رومانيا آخر سنوات حكم تشاوشسكو. من هنا صفق الجميع حين أعطيت سعفة"كان"الذهبية لهذا الفيلم الذي دار بعد ذلك في مهرجانات وصالات عرض كثيرة فارضاً على خريطة السينما العالمية بلداً جديداً ومواضيع جديدة ونظرات جديدة الى التاريخ المعاصر. هذا الكلام نفسه يمكن أن يقال، وحرفاً حرفاً، عن الفيلم الألماني"حياة الآخرين"الذي، حتى وإن كان من نتاجات العام السابق 2006، فإنه واصل حضوره وتألقه في هذا العام، هو الذي يحيلنا الى حقبة ليست بعيدة حقاً منا، لكنها تبدو بفعل تراكم أحداث العالم وتسارعها، وكأنها تنتمي الى أزمان ساحقة. نحن هنا في هذا الفيلم المميز، في المانياالشرقية أيام هيمنة أجهزة استخباراتها على الحكم في برلين. وفي وسط حياة مسرحية يتغلغل الفيلم الى ثناياها من خلال حكاية غدر وغرام وتسلط، كشفت عن جانب لم يكن معروفاً كثيراً من ثنايا الحياة تحت ظل نظام شمولي، كما عن جانب من روح الانسان لم يكن واضح الوجود. ولئلا نبتعد كثيراً من أجواء ما يسمى بأوروبا الشرقية، هذه الأوروبا التي بدأت ? بعد سنوات من زوال المعسكر الاشتراكي - تشغل العالم وفنونه طارحة أسئلة تلو الأسئلة، تنتقل الى الكندي دافيد كروننبورغ، الذي أمعن في فيلمه الأجدّ"وعود شرقية"في الابتعاد من مواضيعه الكندية، كما من أعماله السابقة التي كان أهم ما يميزها"جوانيّة"مواضيعها وارتباطها بتشوهات الجسد وأخطاره. في الفيلم الجديد أعاد كروننبورغ الارتباط بما كان قدمه في"تاريخ من العنف"في موضوع يصل لندن بموسكو، وبعض حياة اليوم، العامة والخاصة، بالعنف المنتشر في العالم على يد العصابات الروسية. وبما ان من غير المنطقي الحديث عن العصابات الروسية، من دون التوقف عند العصابات الأميركية، ها هو الانكليزي ردلي سكوت ينتقل مرة واحدة، من العصور الوسطى والحروب الصليبية "مملكة السماء" الى الجنوب الفرنسي "السنة الطيبة"الذي لم يحقق ما كان يرجوه له من نجاح فإلى الولاياتالمتحدة ليحقق فيها ? وعنها ? واحداً من أفضل وأقوى أفلامه خلال العقد الأخير من السنين وهو"رجل العصابة الأميركي"، الذي يحكي لنا فيه، بلغة أخاذة، حكاية رجل العصابات فرانك لوكاس، متابعاً حكاية نجاحه واضعاً تلك الحكاية، وكأنها سيرة أعمال تجارية، تحت مجهر نظرة واعية دقيقة نطل على حكاية ذاك الذي ورث امبراطورية إجرام من رئيسه السابق، تقوم على تجارة المخدرات، جاعلاً منها نموذجاً للعمل الرأسمالي الذي يدار في دقة وإحكام. طبعاً سيرى النقاد في هذا الفيلم"الأوسكاري"كناية عن نظرة سكوت الى الرأسمالية ولن يكونوا أبداً مخطئين في ذلك. كذلك لم يكونوا مخطئين كل أولئك الذين منذ العرض الأول لفيلم نادين لبكي"سكر بنات"كاراميل في الدورة الأخيرة لمهرجان"كان"، أدهشهم الفيلم ببساطته وقوى أدائه وانتمائه الى الحياة. الحياة التي باتت مدينة بيروت، حيث تجري أحداث الفيلم من حول صالون للحلاقة النسائية يعيش يومياته صعوداً وهبوطاً، أملاً وخوفاً، باتت تتوق لعيشها كيفما كان، ومهما كان السبب."سكر بنات"الآتي من لبنان، أي من اللامكان تقريباً - سينمائياً على الأقل - كان بالتأكيد أبرز وأنجح فيلم عربي خلال العام الذي ينتهي... وواضح ان حكاية نجاحه ستمتد خلال العام المقبل. الفيلم العربي الثاني - والأخير - في هذه السلسلة يأتي من المغرب. وهو أمر جيد ومنطقي من سينما بدأت تعرف نهضة كبيرة خلال السنوات الثلاث الأخيرة. هو فيلم"وداعاً... أمهات"لمجد اسماعيل. موضوع الفيلم شائك ومثير للجدل... لأنه يتناول خلفيات هجرة أعداد كبيرة من اليهود المغاربة أول ستينات القرن العشرين الى اسرائيل. بتقنية محكمة وعبر سيناريو شديد التوازن، بل قد يكون مغالياً في توازنه، وبالتوازي مع عناصر موسيقية وأدائية وحوارية مميزة - وغير متوقعة كذلك - يتمكن هذا الفيلم من طرح القضية ولكن من دون أن يسقط في الابتذال الايديولوجي والجمودية الدعائية. بل يتناول موضوعه انطلاقاً من الإنسان واستسلامه أمام الضغط، وانطلاقاً من رغبة عارمة في اعادة النظر في التاريخ المتلقى، لدى هذا الجانب أو ذاك. شيء من هذا القبيل هو الذي يحكم الفيلم الذي حققه كلينت ايستوود مفتتحاً به العام 2007، بعدما كان اختتم العام الذي سبقه بفيلم"رايات آبائنا". فيلم 2007 اسمه"رسائل من ايوجيما"وهو أتى متكاملاً تماماً مع الفيلم السابق كما نعرف. الأول تحدث عن الغزو الأميركي لجزيرة ايوجيما في المحيط الهادئ، حيث تمكن الجنود الأميركيون من التغلب على آلاف المدافعين اليابانيين عن الجزيرة ? ومن دون أن يرينا يابانياً واحداً، مما أثار أسئلة ودهشة -. في الثاني، وفي لعبة سينمائية رائعة، قلب ايستوود كاميراه ليرينا ما لم نره في الأول: اليابانيين المدافعين عن الجزيرة، وذلك من خلال يوميات ورسائل كتبها قائد القوات اليابانية. اذ انطلق ايستوود هنا من الكتاب، فيما كان في"رايات آبائنا"انطلق من صورة فوتوغرافية شهيرة، لجنود أميركيين يرفعون علم بلادهم على أعلى قمة في الجزيرة"كاشفاً الاستغلال الدعائي الأميركي للصورة". وبهذا قدم ايستوود عملاً نزيهاً وقوياً، شرّف مسيرته الفنية وأعطى فن السينما آفاقاً مستقبلية مدهشة.