تدبّ فيه الحركة باكراً, ويأتيه المارة متأخرون بعض الشيء. أولى الحركات تكون للمشرفين والعاملين في العمارات الضخمة التي تحوي مكاتب شركات ومؤسسات عامة وخاصة. ديدوش مراد هو شارع من الشوارع الرئيسة في الجزائر، وهو في نظر الكثيرين الواجهة الوحيدة المتبقية المتميزة عن كل الشوارع الأخرى، التي فقدت هويتها وسحرها الخاص. يتململ الشارع صباحاً بهدوء بين الجزئيات التي تكونّه: مقاهي، مكاتب عمل، مطاعم، مدارس, مراكز تدريب، ومحلات تجارية. وتبقى بعض الحانات نصف مفتوحة بعد أن أتمّت مهمة استقبالها لزوارها الليليين الذين انسحبوا مع ملامح الفجر الأولى. ترتفع الأصوات أكثر بعد أن كانت مجرد همسات وكلام خافت، احتراماً ل"حرمة"الليل الذي يكون انطوى لتوه. قبل أن نصل إلى هذا الشارع الواقع في قلب العاصمة, نلتقي في طريقنا بمبنى البريد المركزي العثماني الكبير الذي يتخذّه الجزائريون وغيرهم من الضيوف الأجانب معلماً لهم في مواعيد لقاءاتهم. الجميع يعرفه والجميع يستطيع أن يدلّك عليه سريعاً، إذا ما تاهت بك قدماك. اسأل فقط عن La grande poste وستجد نفسك مأخوذاً إليه مباشرة. هذا إذا لم تكن قد وجدت معلمك بمفردك. فهو قائم هناك قبل قرون يكشف عن ذاته، معلناً عن حضوره الكبير، بكل تميز وتوهج. "خريطة الطريق"في شارع ديدوش مراد تبدأ من مبنى البريد المركزي، مروراً بمبنى الجامعة المركزية"يوسف بن خدّة"فساحة"أودّان"Audin التي سميت باسم موريس أودان وهو عسكري فرنسي هرب من الجيش الفرنسي بشاحنة معبأة بالأسلحة وتركها لصالح المجاهدين الجزائريين. أنت الآن تقف في أهمّ الشوارع الجزائرية، التي تحمل اسم الشهيد مراد ديدوش الذي قاوم قوات الاحتلال الفرنسية قبل عقود خلت. ترتفع وتيرة الحركة في هذا الشارع بصورة مفاجئة، وفي حدود الساعة الثامنة والنصف تكون أرصفته قد اكتظت بالناس تماماً كما صارت طريقه المعبدة تعجّ بالسيارات التي تمر بسرعة خاطفة. تتزايد لاحقاً حركة البشر فيه إلى أن تبلغ ذروتها مع منتصف النهار إذ تكون المكاتب فتحت أبوابها والزبائن استقروا في المطاعم والمقاهي المنتشرة على طول الشارع، والتي تضم في قائمة طعامها مختلف الأنواع والأصناف كالأكل الصيني والهندي واللبناني والتركي. لا يقتصر حضور العابرين لهذا الشارع على فئة معينة ولا على طبقة دون أخرى. الجميع هنا بلا استثناء. يأتون من أجل مصالح مختلفة. رجال أعمال يُبرمون صفقات في أحد الأركان الراقية, مديرات ومسؤولات وعمال وعاملات عاديون, وطبعاً المتشردون والمتسولون الذين يختارون ركناً في زوايا الشارع منتظرين صدقات وهبات العابرين. يجمع الشارع الرسميين ببزاتهم الأنيقة والكلاسيكية، إلى الشباب وصرعاتهم الجديدة. لكن الحاضر الأبرز الفتيات في تنافسهن على الأناقة والشياكة وهن متوجهات نحو الجامعة المركزية أو ثانوية عروج، أو نحو مكاتبهن في الشركات الأجنبية أو وكالات السفر، ومراكز التجميل. هناك طبعا المحجبات اللواتي رفضن سياسة"التنافس الشكلي"، وارتدين الحجاب بنوعيه سواء ما اصطلح على تسميته بالحجاب"الشرعي"، أو ذاك الذي يسمح بارتداء كل شيء! وغالباً ما يؤم الشباب هذا الشارع من أجل السفارات التي يضمها لحجز تأشيرة سفر إلى الخارج. المتسكعون أيضاً هؤلاء الذين يمشون من دون مقصد واضح أو وجهة محددة، يعبرون الشارع من أجل التفرج وتمضية وقت الفراغ القاتل، فيوهمون الآخرين أن وراءهم مشاغل كثيرة تنتظرهم. ولا يستثني الشارع"الحيطيست"أو"البطالين"الذين يتكئون على الحائط بلا عمل وهم معروفون بسبب بقائهم طيلة الوقت في مكان واحد من دون مغادرته يعاكسون الفتيات المارات ويحادثون بعضهم بعضاً. "ابن خلدون"هي المكتبة الوحيدة التي بقيت تصارع محلات البيتزا والألبسة. واقفة هناك بزوارها وكتبها وغالبيتها باللغة الفرنسية. قبلها كانت مكتبة"الغزالي"، أشهر المكتبات في العاصمة، ركناً نادراً ومميزاً بالإصدارات الجديدة وضيوفه المثقفين من كل الجنسيات، وكانت تنظم أمسيات أدبية وحفلات توقيع هادئة. لكن هذه المكتبة اندثرت نهائيا الآن وبقي المكان ينتظر افتتاح أبوابه من جديد، لكن لمتجر يبيع الأحذية هذه المرة! ومع نهاية الشارع يفاجأ المارة بعدد الصور الفظيعة المعلقة لضحايا حرب الصحراء الغربية، والمكان هو مركز للدفاع عن حقوق الإنسان وضحايا جبهة ال"بوليساريو". قبل ذلك تكون قد خلّفت قبلك مبنى اتحاد الكتاب الجزائريين الذي يشهد في كل مرة ترميماً جديداً ويبقى خالياً من الكتّاب والمثقفين الذين اقتنعوا بعدم جدوى مثل هذه المراكز وانصرفوا إلى تجمعاتهم الخاصة. كثير من المباني والمحلات والمقاهي خضع للترميم في الشارع العتيق. وخاف كثيرون من أن يتشوه وجه الشارع نهائياً ليأخذ شكلاً آخر هجيناً، لا يمت بصلة إلى الزخرفات والأشكال السابقة. ومع انقراض الشهود على عراقة الحيّ وتميّزه ستغدو ساحته تضج بالزوار والشباب لكن من دون محام يدافع عن الذاكرة.