لا يمكن فهم كلمة "ثقافة" وحصر دلالتها في مصطلح مثل مصطلح "الثقافة العربية الخليجية"، إلا بالفهم الانثروبولوجي للكلمة تحديداً. عدا ذلك نحن ندخل في متاهة الإيديولوجيا، وهذا ما حدث بالضبط مع هذه الكلمة تحت هذا المصطلح. فمنذ تأسيس الأحزاب السياسية في الوطن العربي، وانخراط معظم المثقفين اليساريين منهم واليمينيين، وتصاعد أنشطتهم الحزبية، وتولي بعضهم زمام السلطة في بعض الأقطار العربية، بعد انقلابات عسكرية متتالية، كان الإنتاج الثقافي مسيساً بالكامل، مسيجاً بعقيدة النضال السياسي والحزبي. وكانت فكرة الوحدة العربية، على سبيل المثال، تفترض وجود وحدة ثقافية من المحيط إلى الخليج.ولم يكن هذا الافتراض سوى إحدى المسلمات التي نمت وترعرعت ضمن نطاق تلك الفكرة. إذاً كيف برز على سطح المشهد الثقافي العربي مصطلح"الثقافة الخليجية"في إزاء ثقافة العربي الآخر؟ قرن البعض انبعاث هذا المصطلح بوجود الطفرة النفطية التي شهدتها دول المنطقة لا سيما في أول عقد السبعينات، وما تلاها من سنين، في القرن العشرين. البعض الآخر عزاها إلى التباين في طبيعة الحراك السياسي والثقافي والاقتصادي بين دول المنطقة، وسواها من الدول العربية. هذا التباين لم يوجده النفط فقط، كما يرون، بل إن الطبيعة الجغرافية والسكانية لعبت دوراً كبيراً في تأسيس مثل هذا التباين، ناهيك بالعوامل السياسية الاستعمارية التي رسخت مثل هذا التباين، على الأقل على صعيد الوعي السياسي بالنسبة للدول العربية خارج نطاق الخليج. لذلك راجت على أساس هذا التباين مصطلحات من قبيل" الثقافة البترولية"أو" البترو دولار"وسواها من المصطلحات الأخرى التي أسستها النظرة الإيديولوجية للثقافة في شكل عام. إن المحلل الواعي للتحولات التاريخية يدرك تماماً مدى صعوبة تقبل مثل هذه المصطلحات، وأخذها مأخذ التسليم والموافقة، بسبب افتقارها إلى أدنى مكونات التحليل المنطقي والعقلاني. ولكونها أيضاً تحمل في داخلها نظرة ازدرائية ضد الآخر، وتبخيسية باسم الثقافة. لقد أُسيء استخدام كلمة"الثقافة"هذه أسوأ استخدام بإقحامها في سياق إيديولوجي كان الصراع فيه قائما على السلطة تحت مفاهيم ثورية واشتراكية ووحدوية وإسلامية، راديكالية في معظمها، ولم يكن خطابها الثقافي باعتباره ينتج الإبداع والفن والفكر سوى احد تجليات هذا الصراع وتأثيراته في العمق. صحيح أن عواصم عربية مثل القاهرة وبيروت ودمشق كانت مصدر إشعاع ثقافي عربي تنويري مؤثر في الثقافة العربية في شكل متزايد بعد حقب الاستعمار، وخصوصاً في ثقافة أهل المنطقة. وصحيح أيضاً أن معظم دول المنطقة اعتمدت في بناء مؤسساتها التعليمية والتربوية والثقافية والصحية على كوادر وطاقات بشرية من بلدان عربية أخرى، الأمر الذي جعلها تطبع هذه المؤسسات بطابعها الثقافي والنفسي والأخلاقي. كل هذه الأمور والحقائق هي محل تقدير واحترام عند الجميع. لكنها أيضاً ليست هنا محلاً للتحليل والمناقشة. ما نريد أن نركز عليه بالدرجة الأولى هو أن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتقنية الكبرى، التي طاولت العلاقات الدولية، وأثرت بصورة أو بأخرى في ثقافات العالم في شتى البقاع، فعلت فعلها في دول المنطقة وشعوبها أيضاً. فمنذ الثمانينات من القرن المنصرم كان هناك نوع من الحراك الثقافي والسياسي راحت تفرضه الأحداث وتداعياتها على الأذهان والعقول، بداية من الحرب الخليجية الأولى، إلى حرب تحرير الكويت ، وصولاً الى أحداث الحادي عشر من سبتمبر. كل هذه الأحداث فتحت الأفق على كل الأسئلة المحرمة، والتي كانت أصلاً مغيبة بسبب فقدان اتجاه البوصلة جهة الفعل الثقافي الحقيقي، واتجاهها بدلاً من ذلك صوب التوظيف السياسي للثقافة الدينية والحقوقية والفكرية والأدبية التي طاولت الحقب السابقة كما أشرنا سابقاً. ولن يدور الفعل الثقافي الحقيقي إلا حول أسئلة الديمقراطية والحرية وأسئلة حقوق الإنسان وبالذات المرأة، وأسئلة التعليم وتطوره، والاستثمار الإعلامي والميديا في شتى صورها في صناعة الثقافة وتطور مؤسساتها في الخليج. لقد فرض منطق التحولات كل هذا الحراك جاعلاً من سياسات الثقافة الرهان الأهم الذي يحظى باهتمام أصحاب القرار السياسي في دول المنطقة. ولكن لا يمكن من جانب آخر، إهمال ما ينتج من هذا الحراك من فوضى تعكس وتيرة تسارع المدن في الخليج للدخول في الحداثة من أوسع أبوابها. وليست مدينة دبي سوى الدليل الأكبر على ذلك. هذه الفوضى هي بمثابة معوقات، خطورتها تكمن في أنها تخفي بقدر ما تظهر الإصلاح والتطور الكبيرين. إن أهم هذه المعوقات هو تكريس الفشل في وضع الأسس والهياكل على طريق بناء دولة حديثة ذات مؤسسات مدنية فاعلة. ومن دون العمل الجاد على تفعيل أصحاب القرار السياسي هذا البناء، فإن الثقافة في منطقة الخليج سوف تبقى حبيسة مظاهرها العامة، ولن تذهب إلى العمق في تغيير أطر العلاقات الاجتماعية والتاريخية، مهما وجدنا من نهوض متسارع ، سواء على مستوى الإنتاج الإبداعي الروائي، أو الفني، الموسيقي والسينمائي والإعلامي. هذه تبقى بمثابة مقدمات للتغير والإصلاح نحو بناء هذه الدولة. وما يشجع أكثر على مثل هذا القول بالنسبة لدول الخليج هو وضعها الاقتصادي الذي يمكنها، على الأقل في المجال الثقافي، على أن تظل في استقلال تام عن مؤثرات العلاقات الخارجية بين الدول. إن التكامل بين ما هو سياسي، وما هو ثقافي هو الكفيل في أن تصبح مدن الخليج نموذجا للثقافة الحديثة، ما دامت الظروف الدولية مهيأة لذلك. هذه إحدى الفرص التاريخية لدول المنطقة التي نادراً ما يجود بها التاريخ لشعوب. بالتأكيد هناك جملة من المعوقات والتحديات أمام هذه الثقافة في تجسيد معالمها، وانتشارها، بعضها يتصل بقيود اجتماعية، وبعضها الآخر بقيود عقائدية. لكن جميعها تعتبر ثانوية إذا ما قيست بإرادة سياسية تتبناها هذه الدول في تطوير نفسها وشعوبها في المستقبل. * شاعر وناقد سعودي.