قضيتُ نهاية الأسبوع مع كتابين يختلفان شكلاً وموضوعاً ويلتقيان في متعة القراءة، الأول "لعنة القصر" للزميل غسان شربل، والثاني "ذكريات فنية" للطبيب العراقي خالد القصاب الذي توفي في عمان قبل سنتين. كنتُ قرأتُ قبل أشهر كتاب"ذاكرة الاستخبارات"الذي شمل حوارات غسان مع رجال الاستخبارات جميل السيد وجوني عبده وغابي لحود ومحمود مطر، وأقبلت على كتابه الجديد وأنا أدرك انني قرأت الحوارات من قبل، وفوجئت وأنا أقلب الصفحات بأن بعض الحوار أكثر لصوقاً بأحداث اليوم منه يوم سجّل أو نشر قبل سنتين أو ثلاث أو خمس. غسان شربل يحاور الياس الهراوي بعد تركه قصر بعبدا وحديثهما عن الفراغ الرئاسي سنة 1988، لا يختلف عن أي حديث عن الفراغ الرئاسي اليوم. وفي حين ان المبعوث الأميركي في حينه ريتشارد مورفي طرح شعار"مخايل الضاهر أو الفوضى"، فإن القارئ يجد في الحوار اسم بطرس حرب ونسيب لحود وجان عبيد كما في الحوار مع رفيق الحريري. روايتا الهراوي وميشال عون للأحداث تختلفان، ولن أحاول هنا ان أرجح رواية على الأخرى، وإنما أترك للقارئ ان يفاضل بينهما. الهراوي عرض على عون ان يعيّنه وزيراً، ولكن ليس وزير دفاع، ويصر على انه أخذ قرار اخراج عون من قصر بعبدا بنفسه، وقرأه على مجلس الوزراء حيث قال انه يكلف الجيش بقيادة العماد اميل لحود وضع حدّ للتمرد... واذا كان الجيش اللبناني غير جاهز يستعين بالقوات السورية. وهو يقول ان طائرة واحدة ألقت قنبلة قرب الأنطونية، وفرّ عون الى السفارة الفرنسية. عون يقول ان القصر تعرّض لقصف دبابات وطائرات وفي 13/10/1990"أعلنت خسارتي ودعوتهم الى تسلّم كل شيء. ولكنهم لم يقبلوا وتابعوا عمليات القتل". عون يتهم القوات اللبنانية وأميركا وسورية، ويتحدث بمرارة عن تجربته، ما قد يفسّر تطرّف بعض مواقفه الحالية، وهو يريد العودة ليلغي تلك الهزيمة العسكرية والسياسية. رفيق الحريري يصرّح حيناً، ويلمّح حيناً، وهو يتحدث عن علاقة 17 سنة مع الرئيس حافظ الأسد و50 اجتماعاً بينهما، في علاقة لم تستمر مع الرئيس بشار الأسد. وهو يفضل الياس الهراوي كثيراً على اميل لحود، ويقرر مع التمديد للأخير ان يعارض، الا انه يستبعد محاولة اغتياله، كما حدث مع مروان حمادة، بسبب الأبعاد الدولية والعربية الخطرة لمثل هذا العمل. الحوارات مع الحريري أُجريت متقطعة على امتداد سنوات، الا ان صفحتين من أصل 146 صفحة تشرحان السياسة السعودية اليوم، وكما هي قبل 25 سنة، ففي الحرب العراقية ? الإيرانية خرقت طائرات حربية إيرانية الأجواء السعودية، وتصدت لها الدفاعات السعودية فأسقطت طائرتين وأصابت ثالثة، وأمر الملك فهد بن عبدالعزيز بأن يعلن عن إسقاط طائرة واحدة. وعندما سأله رفيق الحريري عن السبب قال الملك إن الاعلان عن إسقاط ثلاث طائرات إهانة للجيش الإيراني، وسيشعر بأن من واجبه الرد"ونحن لا نريد مواجهة مع إيران أو مشكلة معها". هذا مثل ان يدعو الملك عبدالله بن عبدالعزيز اليوم الرئيس محمود أحمدي نجاد الى الحج، ويعمل لبناء علاقات جوار طيبة مع إيران. كتاب غسان شربل من اصدار دار رياض الريس للكتب والنشر، ويقع في 447 صفحة، ويضم مقابلة مع الرئيس نبيه بري"جوكر"السياسة اللبنانية الدائم، وحديثه يتفق تماماً مع دوره اليوم. وجدت في كتاب غسان ما توقعت غير ان المفاجأة كانت في كتاب خالد القصاب، فقد تلقيته هدية، وبدأت أقرأه من منطلق صداقة عائلية، فأعادني الكتاب الى عصر عراقي لا أقول إنه ذهبي، وإنما الى أيام سلام جميلة واعدة وثقة بالمستقبل، وثقافة حياة لا موت. خالد القصاب ولد في بغداد وتخرج في كلية الطب فيها، وتطوع للخدمة في الجيش العراقي لنصرة فلسطين سنة 1948، وأكمل تخصصه جراحاً في بريطانيا حيث أصبح زميلاً في كلية الجراحين الملكية البريطانية، وتخصص بعد ذلك في الولاياتالمتحدة مركزاً على جراحة الأمراض السرطانية. الطب آخر شيء في الكتاب، وكذلك السياسة فهو، كإسمه، ذكريات فنية والمؤلف رسام تكاد هوايته تتقدم على مهنته، وهو يتحدث عن جو لا يعرفه غير الذين عاشوه، ويقدم اسماء رشاد حاتم، اليساري المتطرف والرسام الموهوب، وعبدالقادر الرسام شهرة لا كنية ويعتبره أبا الحركة الفنية المعاصرة في العراق، بعد ان درس الرسم في اسطنبول، وعن اقامة طلاب الطب أول معرض رسم في تاريخ كليات بغداد، وعن تأسيس جماعة الرواد، وجماعة بغداد للفن الحديث، وقبلهما تأسيس حنا بطرس معهد الفنون الجميلة في بغداد سنة 1935، وعن تأثير رسامين بولنديين كانوا ضمن قوات بريطانية مرت عبر العراق في الحركة الفنية العراقية، وعن ارسال جواد سليم الى باريس في زمالة دراسية، ثم الى لندن سنة 1938 ليدرس النحت، وعن معارض حول العالم، وفوزه بجائزة في معرض ضم 106 رسامين بالألوان المائية في كاليفورنيا، وافتتاح الملك فيصل الثاني وعبدالكريم قاسم بعده معارض فنية. هذا العراق لا يعرفه سوى أصحابه، فنحن من جيل لم يسمع من العراق الا أخبار حروب وإنقلابات وقتل وجثث بلا رؤوس. وخالد القصاب يأتي عرضاً على السياسة، ويبدي خوفه من جيشان الشارع ضد الحكم والانقلاب الدموي سنة 1958، وعلاجه عبدالكريم قاسم بعد ان أصيب في محاولة اغتيال سنة 1959 ويتحدث عنه بايجابية كبيرة. الكتاب من تحرير مي مظفّر مع مقدمة من المؤرخ العراقي الباحث نجدة فتحي صفوة تجمع بين المعرفة والظرف الكبير، ورأي خالد القصاب في نجدة انه"ثروة لجيله ومن عاش معه"، وهو رأيي أيضاً. أين ذلك العراق من عراق اليوم؟ نحن نبكي أنفسنا في العراق. تصويب: سقطت الفقرة الأولى من هذه الزاوية أمس وكانت: سمعت عن رجل يعرف ألف طريقة لمطارحة الغرام، إلا انه لا يعرف أي امرأة. وبدأ المقال أمس بالفقرة الثانية المربوطة بالأولى وأولها: الرئيس نيكولاس ساركوزي لا يواجه مثل هذه المشكلة...