وفرت مأثرتا الجيش اللبناني: انتشاره الجنوبي، وانتصاره الشمالي، الأرضية الملائمة للبوح بوطنيته التي اختزنها طويلا في ضلوعه وعلى وقع صريف أسنانه، إبّان سنيّ الحرب الأهلية، وعلى امتداد عمر الوصاية غير المأسوف على انصرامه، وأصبح للقبعة العسكرية رمزيتها الحسنة في وجدان اللبنانيين، حتى إنّ الدخول اللطيف للعماد ميشال سليمان إلى مجلس عزاء النائب الشهيد وليد عيدو، وفي خروج عفوي لافت عن التقاليد الإسلامية، قوبل بتصفيق حار، ولم يكن غريبا بعد أن تخطى الجيش اللبناني الخطوط الحمر جنوبا وشمالا، أن يغدو قائده المرشّحَ التوافقيَّ الذي يصعب رفضه لمنصب رئيس الجمهورية. المثير هنا، أنّ قوى المعارضة اللبنانية أوحت بإمكانية ترشيح الرجل، وظهر للجميع أنّها قصدته دون غيره، عندما أطلقت لكوادرها العنان للتغني بسجاياه والتذكير بمناقبيته. لكن الأمر لم يطل حتى تبين أنّه مجرد مناورة، فقوى المعارضة لم ترد من إيماءتها الواهنة تلك في ما كشفته الأحداث المتتابعة - أكثر من مسارعة قوى الرابع عشر من آذار إلى إبداء الرفض، وهو الأمر الذي حدث فعلا، لأنّ الأخيرة تشاءمت من تعديل الدستور، وحسبت أن الأوان قد أزف لقيامة لبنان المدني، وأن ثورتها السيادية معرضة لخطر الوقوع في قبضة العسكر، ففركت الأقلية كفيها سرورا بهذا الرفض، وحسبت أنّها نجحت في الإيقاع بخصومها، وأنّ الدرب بات ممهدا أمام مرشحها الفعليّ العماد ميشال عون للوصول إلى بعبدا، فاستبعدت اسم قائد الجيش من مناقشاتها وحواراتها مع قوى الأكثرية، ولم يتبقّ من إيماءتها بإمكانية تسميته سوى شبح ذكرى أوشك أن يتبدّد تماما عندما خلت لائحة البطريرك من اسمه، إلا أنّ ترشيح الأغلبية الجهوري الصريح له، ووقوفها الموحّد الثابت خلفه، أعاد هذا الشبح لحما ودما ليطوّق بحضوره المباغت والخانق قوى المعارضة اللبنانية جميعا. وبدا لوهلةٍ أنّ الدنيا بأسرها، وليس فريق الثامن من آذار فحسب، أصيبت بصدمة كبرى في سياق لم يرحم أحدا ولم يستثن في صداميته خصما أو حليفا، حتى أولئك الذين تسلحوا بوحدة الأغلبية النيابية، وعملوا مبدئيا وأخلاقيا بوحيها وتحت شعاراتها، أعني الذين تشرّبوا ثورة الأرز بوعي مثالي نبيل لم يستطع فصل السياسي عن المبدئي يوما، أشعرهم ترشيح الأكثرية، ولم يكونوا سوى جزئها الأهم وقلبها الحكيم، أنهم يُطعنون في صلب مبادئهم، وأيقظهم على طبول ذهول امتزج بخذلان مزعج. ألم يتوغّل شيخ الصحافة الجليل غسان تويني بعيدا في الرد على إيحاءات وإيماءات حزب الله بترشيح قائد الجيش في مقالته البليغة:"نعم لك في الحرب، ولا لك في الحكم"، انسجاما مع طهرانية المدنية ومصاعب تسليم الأعنّة للجيوش ومخاطره، وتماهيا مع حلم العصرنة التي تفترض قيادة السياسيين للعسكر، لا العكس، وهو الأمر الذي لم تفتر عزيمة صحوة مدنية عن الاستبسال في طلبه؟ حدث هذا كله، عندما ضربت قوى الرابع عشر من آذار بترشيحها قائد الجيش تكتيكات استنفار المظلومية المسيحية التي لجأ إليها"المظلوم الأول"العماد ميشال عون عندما دعا الجموع المسيحية ليسقيها كؤوس الشفاء من داء التهميش في خيمته المباركة، ويدلها على خصومها الذين يتآمرون على الدور المسيحي المميز في لبنان، وينفرون خفافا وثقالا ليحذفوا "أهل المظلومية الجدد"من المعادلة اللبنانية! بوغت العماد ميشال عون حقا، فأولئك المتهمون بالاستئثار رشحوا العماد ميشال سليمان بأنفسهم، والموصومون بجشع الاستحواذ على صلاحيات منصب الرئيس يستعجلون تسمية قائد الجيش ليمسك بهذه الصلاحيات ويقيلهم! ولكنّ من سار أمام الجنرال عون لسنتين متواصلتين، وادعى للتوّ أنه يسير ناعما خلفه، لم يستسلم، وأنّى له أن يفعل؟ فمعركته ضد قوى الرابع عشر من آذار لا تحتمل أن يتوقف مذهولا للحظة، أو يرتبك أمام موقف، فهو لا يقاتل وحده، ولا يقبل أن يكون لبنانيا عندما يضعف العامل اللبناني السياديّ أمام العالم. لم يهن حزب الله، ولم يضعف أمام خطوة الأكثرية الصعبة، لأنّ الدعوة الأميركية للسوريين للمشاركة في مؤتمر أنابوليس شكّلت ? في ما رآه وتصوّره - فرصةً سانحةً له ولرهطه في لبنان ليميّعَ طروحات الأكثرية تمهيدا لتذويبها، انطلاقا من طمأنينة المدى وصحو الأجواء، و بدا للحزب، ولإيران، وللنظام السوريّ أنّ العالمَ أخذ يُعيد ضبط إيقاع اللعبة على قواعدَ جديدة، قواعد لخَّص الدهاقنة استقبالهم لها بالقول وبالفعل: تصريحاتٌ علنيةٌ أفادت أنّ حلفاء سورية في لبنان في أحسن حالاتهم، وصدى ترجم هذه التصريحات إصراراً على سلّة شروط سياسية تستبق انتخاب العماد سليمان! وتلويحاً متأخراً جاء واهناً قبل تصريحات نائب الرئيس السوري، وانقلبَ فجأة صلباً وحاسما بعدها، قضى بضرورة ألاّ يمرَّ التعديل الدستوري بالسراي الحكوميّ! ولكنّ الحسابات التي بدت مضبوطةً تماما، أسقطت رقما صعبا هذه المرة، رقما لم يعتد حزب الله في السابق أن يقفز في وجهه بغتةً مهددا بقلب الاستنتاجات والخلاصات. فالرئيس لحود عوّده أنّ مقام الرئاسة بلا وزن أو طعم، ولم يكتف الرئيس السابق بربط خياراته وحساباته الشخصية بأجندة الحزب فوق اللبنانية، بل تماهى معها وخال لسنين أنها في صميم قناعاته! فلم يشكّل عبئا أو عائقا، ولم يكن محط شكّ أوجدل، واستحق في نهايات عهده ذلك الشكر المنقوص والمشروط الذي تلقاه من سماحة السيد حسن نصر الله. لكنّ العماد سليمان الذي لم يُبدِ تذمّرا علنيا من تأخير التسوية، وانعقاد الألوية، ونأى بنفسه عن التصريح الجهوري أنّ الأولوية لإمرار الاستحقاق، وترفّع عن الخوض في معاني تفريغ الرئاسة من محتواها الرئاسيّ الذي انعكس في سلّة متطلبات فريق الثامن من آذار السياسية التي يلحّ في طلبها من الأكثرية قبل إنجاز الانتخاب، أعلن بوضوح وصرامة أنّه لن يقبل انتخابا ذا دستورية منقوصة، وأنّه سيرفض المنصب إذا جاءه على مائدة لا يجلس إليها الجميع! أعلن العماد سليمان بوضوح وصرامة أنّه يقبل الرئاسة ذات المعابر الدستورية المتكاملة فحسب، تلك التي لا تستثني أحدا من فرقاء الأزمة وتنعكس قوّةً للرئيس، ومنعة لمقام الرئاسة، وتتبلور ثقةً لبنانيةً شاملة لا تقصي طائفة، ولا تنبذ طرفا سياسيا، الأمر الذي لا يمكن الاطمئنان إلى حضوره الفخم إلا إذا كان الانتخاب دستوريا تماما، حكوميا ونيابيا. تصريحٌ مباغت، لم يكن بمقدوره الانتظار، تدفّق في ماكينات الإعلام، وفي شرايين اللبنانيين، وسمعه أولو الأمر جميعا، لا يدلّ على رئاسة يمكنها أن تقبل التمديد مثلا، ولا يشير إلى رئيس ينصبونه فلا يملك من منصبه إلا التوقيع، تصريحٌ مشدّدٌ واضح صارم لا يبدو من حروفه أنّ الرجل بصدد التنويه أنّ انتشاره جنوبا تمّ بتسهيلات"إلهية"تهوينا على من أخلى المواقع لصالح الجيش، ولا يومئ أنّ مُطلقه يعتزم القول أنّ تحطيمه الخطوط الحمر في مخيم نهر البارد موقف أملته الضرورة، وفرضه الاضطرار وليس خياره الاستقلاليّ الصرف تقليلا من شأن التحدّي وعزاء لمن استبيحت خطوطهم وسدودهم، وليس في وارد الاستدراك بالقول: إنّ سحق الإرهابيين لم يكن عملا اقتضته السيادة الوطنية والمناقبية العسكرية، تخفيفا على من راهن على نجاح الثلة الإرهابية في تمزيق عرى الشمال وبذر الفتنة! جيشٌ صادرَ شاحنات محمّلة بالأسلحة، لم يفرج عن رصاصة واحدة منها ليعيدها إلى الذين لا يتسامحون بطلقة مغصوبة، وفرقٌ عسكريةٌ انتشرت في الجنوب، وجنودٌ انقضوا على قتلة"فتح الإسلام"غير عابئين بالمحاذير والمحظورات، يقول قائدهم بوضوح إنّه يريد معبرا دستوريا صحيحا إلى بعبدا، تعبيرا عن ثقة لبنانية شاملة، ببلاغة لا يظهر من حروفها أنّ الرجل يمكن أن يبحر ببوصلة غريبة، أو يخطو على إيقاعات مايسترو خارجي! تصريحٌ أطلقه العماد ميشال سليمان قبل أن يزور الصرح البطريركي بثمان وأربعين ساعة، وتناقله العالم قبل استشهاد اللواء فرنسوا الحاج بست وتسعين ساعة. * كاتب سوري.