تمدّد الملف النووي الإيراني على مساحة عام 2007 واتخذ أبعاداً متعددة ما جعله مثالاً معاصراً للتداخل بين العلم والسياسة والطاقة والاقتصاد"وساهم في توليد الانطباع بأن التعامل مع موضوع الطاقة النووية دخل في منعطف تاريخي فعلياً. لنتأمل الأمر مجدداً، لقد سار ذلك الملف مترافقاً مع الارتفاع المذهل لأسعار النفط، واستمرار التصاعد الصاروخي في استهلاك الطاقة، واهتزاز النظام المالي العالمي بضربات قوية من"الدولار الضعيف"وكذلك من أزمة الرهن العقاري وغيرها. وفي سياق هذه الأزمة المركبة، تواترت أخبار عن تغيير قوي في الموقف من الطاقة الذرية، مثل تخلي البرازيل والارجنتين عن سياسة التحفّظ النووي وتجديدهما برنامجيهما النوويين بعد توقف دام أكثر من عقدين، وتوقيع عقود بين دول صناعية كبرى وعدد من بلدان العالم الثالث بصدد الطاقة النووية شملت عقوداً أميركية مع مصر والهند واليمن، وفرنسية مع الجزائر وليبيا وغيرها. وكمثال على منطق تلك العقود، التي شملت دولاً منتجة للبترول، فإن دولة مثل الجزائر تحتاج الى كميات هائلة من المياه العذبة التي لا تجد مندوحة من استخراجها عبر تحلية مياه البحر، ما يتطلب كميات هائلة من الطاقة. وإذا اعتمدت الجزائر على النفط كمصدر لتلك الطاقة، فإن ذلك سيفاقم التلوث والاحتباس الحراري، لذا يرى البعض في الأمر مبرراً لاعتماد الجزائر على الطاقة الذرية السلمية كمصدر بديل. وهناك بعد آخر في هذه المسألة يتمثل في النقاش الحاد في قرب نضوب مصادر الطاقة، أو على الأقل اقترابها من نقطة لا يعود فيها النفط السهل المنال، الذي يندفع من الرمال بمجرد حفر أمتار قليلة، متوافراً كما كان الحال خلال العقود السبعة الماضية. وفي شكل عام، فإن الحاجة الهائلة للطاقة مع ارتفاع اسعارها وارتفاع الأصوات عن قرب نضوبها وثبوت الدليل علمياً على العلاقة بين انبعاث عوادم الوقود الاحفوري المصدر الرئيس للطاقة راهناً والاحتباس الحراري، تشكل المبرّر الأقوى لتغيير في الموقف من الطاقة النووية، بمعنى التساهل في انتشار استعمالها لأغراض الاستخراج السلمي للطاقة. وربما فسّر ذلك جزئياً التردّد الهائل حيال الملف النووي الإيراني، الذي تحفزه عوامل أخرى في السياسة والاقتصاد، ولكن يصعب التغاضي عن أثر تحوّل الطاقة الى معضلة متشابكة الأبعاد في الزمن الراهن. وكنموذج عن ذلك التشابك، يكفي القول إن إيران تتكل على الصين في التصدي للضغوط الأميركية. وفي المقابل، فإن الجمهورية الاسلامية هي المصدر الثالث للبترول لبلاد"العم ماو". وتقف روسيا موقفاً مدافعاً عن إيران النووية، وقد تعاونت معها في إنشاء منظمة تتولى أمر نفط دول بحر قزوين وغازه. وتتقاطع إيران مع تركيا في غير مساحة سياسية، ووقّعت معها اتفاقات عن امداد الدولة الأناضولية بالبترول والغاز، إضافة الى تعاونهما في نطاق دول بحر قزوين التي تملك صلات قوية مع الدولة الاناضولية. وتعطي الأمثلة السابقة مثالاً صغيراً عن التشابك الهائل في مسألة الطاقة وشؤونها راهناً. ويرى البعض أن الانسانية ربما دخلت في فصل وداع الطاقة الاحفورية. ويتفاءل البعض بأن الاتجاه نحو الطاقة البديلة لم يعد أمراً جانبياً، بل بات في صلب سياسات الطاقة عالمياً. ويتحفظ البعض عن الكثير من أشكال الطاقة البديلة، وخصوصاً الذرية منها. الكلفة الاقتصادية للطاقة الذرية ربما تشكل مصادر الطاقة الصديقة للبيئة حلاً على مستوى الأفراد أو البيوت السكنية، إذا رافقها وعي بشري مناسب، وإذا انعكس هذا الوعي سلوكاً في اتجاه الاقتصاد وعدم هدر الطاقة. ولكن حذار من التسرع في الاستنتاجات. إن الطاقة الشمسية غير قادرة على تشغيل الطائرات والمصانع والمصاعد وغيرها في شكل آمن ودائم. كما أن توزيع الشمس على سطح الأرض يشكو من اختلافات كبيرة بين المناطق والقارات، ومن تقلبات حادة بين الفصول. وليس بوسع طاقة الرياح مساعدة البواخر الحديثة في السفر. وتنحصر أهمية طاقة مساقط المياه في مسار الأنهار الكبيرة. ومازال الكثير من أشكال الطاقة البديلة قيد الاختبار، مثل تلك التي تتأتى من المصارد الجوفية-الحرارية التي تنتج من فرق الحرارة بين الطبقات الجوفية وسطح الأرض، والأمواج، وتخمير النفايات العضوية"بيوماس""ويصعب التعويل عليها فعلياً في الزمن الراهن. وعملياً، تكمن المصادر العملاقة للطاقة في الذرّة وأنويتها. لكنها تحمل الكثير من المشاكل التي تتضمن كلفة إنتاجها، مسألة أمانها، إشكالية السلاح النووي سلاح الدمار الشامل الذي يحتمل تصنيعه أثناء إنتاج الطاقة وغيرها. المشكلة إذاً في الأثمان الاقتصادية والبيئية والاستراتيجية والسياسية التي تواجه المجتمعات الدولية إزاء الطاقة النووية، كما يظهر في الملف النووي الإيراني. وتصر إيران على أنها تمارس حقها المنصوص عليه في اتفاق منع الانتشار النووي بتطوير"تكنولوجيا نووية لأغراض سلمية""فيما تثير بعض الدول الغربية وخصوصاً الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة شكوكاً في النيات السلمية لإيران. ولا يتردد بعض الإيرانيين في الإشارة الى الاحتكار الذي تمارسه الدول الكبرى على الطاقة النووية، ويلحون على أن تلك الدول تملك ترسانات من الأسلحة الذرية التي لا تقبل التخلص منها. إن كلفة إنشاء محطة طاقة نووية وجدواها الاقتصادية تختلف كثيراً بين دولة وأخرى، وفقاً لليد العاملة والخبرات العلمية والفنية والجغرافيا وتوافر خامات اليورانيوم وغيرها من العوامل. وفي شكل عام، إن كلفة تشييد المحطة النووية وتجهيز مفاعلها تفوق بكثير كلفة إنشاء محطة تعمل بالفيول النفطي أو الفحم الحجري. لكن الميزة الاقتصادية الرئيسة لمحطات القدرة النووية هي عدا عن الفارق الكمي الكبير في مقدار الطاقة المنتجة هي في انخفاض كلفة تشغيلها بعد إنشائها، من حيث ثمن الوقود الذي يوضع في المفاعل مرة كل عام أو عامين، ما يؤدي إلى كهرباء رخيصة وغزيرة تتيح أن تستعيد المحطة كلفة تشييدها خلال بضع سنين. ففي ذروة إنتاج الولاياتالمتحدة مثلاً، من الطاقة الكهربائية بالمفاعلات النووية، خلال أواخر التسعينات من القرن الماضي، انخفضت كلفة إنتاج الكيلو واط ساعة في أميركا إلى أقل من 2 سنت، بفارق كبير عن كلفة إنتاجه من محطات الوقود الأحفوري الأخرى. وفي فرنسا أيضاً، ونتيجة لنجاحها المميز في مجال إنتاج الطاقة الكهربائية نووياً، واعتمادها عليها بات لدى فرنسا تخمة في الطاقة الكهربائية، ما دفع بالحكومات الفرنسية المتعاقبة إلى التخطيط لتصدير الكهرباء إلى بقية الأقطار الأوروبية باعتبارها سلعة تجارية رابحة. غير أن ثمة مشكلة رئيسة أخرى تضاف أحياناً إلى مشكلة الكلفة العالية لتشييد المحطة النووية وتقلل بالتالي من ميزتها الاقتصادية، هي الإخفاق المحتمل للمعدات والأجهزة. فكثير من المحطات النووية تتوقف عن عملها عدة أشهر في كل مرة تتعطل أجهزتها، وتضاف مثل هذه الخسارة الناجمة عن توقف العمل إلى كلفة إنتاج الكهرباء النووية. ويقدر معدل الكلفة لإنشاء محطة نووية للطاقة بنحو 1.5 بليون دولار لإنتاج 1000 ميغاواط من الكهرباء، أي نحو 1.5 مليون دولار للميغاواط. إلا أن هذه الكلفة ترتفع في الولاياتالمتحدة الأميركية إلى نحو 3 مليون دولار للميغاواط. وإذا أضيفت أكلاف التشغيل والصيانة فإن الكلفة الفعلية تصل إلى أكثر من 3.2 مليون دولار للميغاواط. ولا تنحصر أكلاف الطاقة المنتجة نووياً بالجوانب المذكورة سابقاً، بل تتعداها إلى أكلاف باهظة جداً لمعالجة النفايات المشعة أو للتخلص من المفاعلات القديمة، وإلى أكلاف باهظة أخرى يمكن أن تترتب على أي تسرب للإشعاعات، كما حصل مثلاً في"ثري مايل آيلاند"في الولاياتالمتحدة عام 1979، أو في"تشرنوبيل"الاتحاد السوفياتي سابقاً عام 1986. وبالنظر إلى موضوعات السلامة من أخطار الإشعاعات النووية ومشاكل التخلص من النفايات وبقايا التحولات النووية، والتي لم تزل دون حلٍّ مرضٍ ونهائي، فإن هذا الموضوع ينعكس على كلفة تشييد المحطات النووية، ما يجعلها أكثر بكثير من التصورات الأولية لمهندسيها ومخططيها. وفي شكل عام، إن المشاريع النووية في البلدان النامية هي في حدودها الدنيا إذا ما قورنت بالنمو السريع والفعال في الأقطار الأوروبية. وإذ ينتقل العالم نووياً نحو انتشار الجيل النووي الثالث في المفاعلات التي باتت تُعتبر ذات جدوى اقتصادية أكبر ودرجة أمان أعلى وأثر بيئي أكثر ملاءمة، فقد ازدادت ثقة عامة الناس باطراد في تشغيل المحطات النووية ودورها، بخاصة إزاء الحاجة المتصاعدة لإنتاج الكهرباء. وهناك اليوم 442 مفاعلاً نووياً تعطي أكثر من 16 في المئة من حاجة العالم للطاقة. وتختلف هذه النسبة من بلد الى آخر. اذ تغطي الطاقة النووية 77 في المئة من إنتاج فرنسا للطاقة، ولكنها تشكّل 30 في المئة في اليابان، و20 في المئة في الولاياتالمتحدة، و 2.3 في المئة في الصين، وأقل من 6 في المئة في بلدان العالم الثالث مجتمعة. مشكلة النفايات القاتلة وتحتاج المحطات النووية إلى تبديل مجمعات الوقود مرة كل سنة أو سنتين. وكذلك تنتج بقايا ونفايات نوعية مشعة، تعتبر من أخطر ما تسبب به التطور العلمي على الجنس البشري ومستقبله الجيني، وأكثر الملوثات ترسباً وبقاءً في البيئة. وليست هناك تقنية لمعالجة هذه النفايات أوجعلها آمنة. وحتى إذا لم تقع حوادث تؤدي إلى تلوث بيئي هائل ومزمن، فإن العمليات الروتينية الخاصة بالتخلص من النفايات هذه تتسبب بتلويث الأرض والبحار والجو. ويُعطي انشطار"اليورانيوم 235"مجموعة من النظائر المشعة مثل"سترونتيوم 90"، و"سيزيوم 137"و"باريوم 140"وغيرها. وتظل هذه النفايات مشعة وخطرة حتى نحو 600 سنة. وتبقى نفايات البلوتونيوم وبعض العناصر الأخرى مشعة لآلاف السنين. ويمثل التخلص من هذه النفايات على نحو آمن إحدى مشكلات إنتاج الطاقة النووية. وإثر تلوث الهواء والماء والغذاء، تنتقل النظائر المشعة القاتلة من النبات إلى الحشرات والطيور والحيوانات، وأخيراً تصل إلى الإنسان. وتتركز في أماكن مختلفة من جسمه. فمثلا الكالسيوم والسترونتيوم يتركزان في العظام، واليود في الغدة الدرقية، بينما تتركز نظائر النحاس والزرنيخ في مخ الإنسان. ولما كانت مجمّعات الوقود المُستهلكة التي يُراد تبديلها تخرج من قلب المفاعل مع حرارة شديدة، وكون النفايات المشعة نفسها تصدر حرارة بفعل نشاطها الذاتي، فقد وجب تبريدها قبل نقلها الى مثواها الأخير وبعده. ويتم تبريد هذا الوقود المستعمل بتخزينه تحت الماء في أحواض تخزين مصممة تصميماً خاصاً. والنتيجة أنه حتى وإن نجحت عملية عزل المواد المشعة وخطرها عن البيئة الطبيعية المحيطة فهي باقية داخل خرساناتها الباطونية المسلحة تمارس التلوث الحراري -على الأقل- للماء مما يؤثر تأثيراً ضاراً في البيئة المائية وكائناتها. وللتخلص من نفاياتها النووية، تعمل بعض الدول على بناء محطات لمعالجة الوقود بعد استنفاده. لكن هذه الطريقة ليست قليلة الكلفة أو كاملة الأمان، فهي تترك نظائر مشعة في المحاليل الكيماوية المستعملة في محطة إعادة المعالجة، ولذا يجب تحويلها إلى شكل صلب كي يتم تخزينها ، لمنع أي تسرب طارئ من السوائل. وتحاول بعض الدول الصناعية دفن النفايات المشعة في بعض أراضي الصحاري النائية، لكن مثل هذه العمليات تهدد بتلويث خزانات المياه الجوفية وتعريض مستقبل البيئة الصحراوية والسكان لمخاطر الإشعاع النووي. بعد أكثر من ثلاثة عقود على آخر حادث نووي وقع في تشيرنوبيل، تشهد الطاقة النووية اليوم إعادة إحياء لدورها وتبييض لسمعتها وترويج لإنتاج جيلٍ جديد آمن منها. ولم تنجح مفاعلات الجيل الثالث، على رغم أمانها المشهود له حتى اليوم، في حل إشكالات كثيرة لا تزال ترافق عملية إنتاج الطاقة. فالكلفة لا تزال أعلى بكثير مما تصوّره علماء الذّرة الأوائل، ورواسب الإنشطار النووي شديدة الإشعاعية بات التخلّص منها مشكلة كونية إضافية. ولعل الإشكال الأهم أن بعض مخلفات اليورانيوم البلوتونيوم على وجه الخصوص يمكن استعادته بعد استنفاد دورة الوقود واستغلاله في صنع أسلحة نووية، ما يتنافى مع الأهداف المرجوّة من تعميم الطاقة ويتعارض مع سياسة"الوكالة الدولية للطاقة الذرية". وبانتظار نجاح تدجين الإندماج النووي، أو على الأقل ولادة الجيل النووي الرابع الذي ينتظر منه حل مشاكل الأمان والاقتصاد والنفايات النووية وتجنب التسلّح، في شكل حاسم، فإن الدول الفقيرة والغنية تتطلع وتخطط للاستفادة من العملاق النووي الذي بات بمثابة شرّ لا بد منه. * استاذ جامعي لبناني