نشر صلاح عبدالصبور قصيدة"أغنية من فيينا"في جريدة "الأهرام" القاهرية 5/7/1963 حين كان يعمل محرراً أدبياً فيها، وأعاد نشر القصيدة في ديوانه الثالث"أحلام الفارس القديم"الذي نشرته دار"الآداب"البيروتية في نيسان إبريل 1964، أي بعد نشر يوسف إدريس قصته"السيدة فيينا"بحوالى ثلاث سنوات وأول ما يلفت الانتباه وضع القصيدة في الديوان، تحت عنوان"أغنيات تائهة"التي تضمها الكراسة الثانية من الديوان الذي يضم أربع كراسات والقصائد السبع التي تضمها الكراسة الثانية تضم، بدورها، قصائد تخرج عن دائرة الواقع العربي، فتجمع بين شخصية المسيح ولوركا الشاعر الإسباني وبودلير الشاعر الفرنسي الذي يختم الكراسة التي تبدأ بقصيدة"أغنية من فيينا"في سياق يتميز بالحديث عن الآخر الذي يواجه الأنا أو يوازيها أو يغدو صورة لها في عالم موحش، قاس وضنين، كشفت عنه أسمال الأمثال والمجازات، فبدا كالصدق العريان.? والتضاد هو العنصر التكويني الذي تنبني به، أو عليه، بنية القصيدة، وذلك على مستويين رأسي وأفقي، فالقصيدة تنقسم إلى قسمين، ينتسب أولهما إلى الليل، وثانيهما إلى النهار، والتضاد ما بينهما كالتضاد ما بين الحلم والواقع والبداية هي كانت تنام في سريري، والصباح. منسكب كأنه وشاح من رأسها لردفها وقطرة من مطر الخريف ترقد في ظلال جفنها والنفس المستعجل الحفيف يشهق في حَلَمَتِها والبداية دالة على امرأة تختزل متع مدينة، فيينا، أو تتجسد فيها متع هذه المدينة، والزمان هو آخر الليل الذي يذكرّ بما جرى فيه، وما ترك من تأثير لا يزال ماثلاً في وضع الجميلة النائمة التي لم تفتح عينيها على ضوء النهار بعد، فهي لا تزال في سريرها كأنها نموذج للجمال أو الكمال الأنثوي الباذخ والباهر، يسقط عليها ضوء الصبح الحاني، فلا يوقظها، فتظل كأنها"موديل"يتعشقه رسام، أو يسلط عينيه على مواطن الجمال فيه، ابتداء من تماوج الجسد المسترخي، وقطرة مطر الخريف التي لا تزال ترقد في ظلال جفنها، كأنها بقية من قطرات زفرها الجسد في مدى لذته المتقدة في الليل، والنفس المستعجل الحفيف يبدو كأنه بقايا حلم لا يزال ممتداً بعاصفة لذته ويكمل الرسام الشاعر التحديق في"الموديل"العاري الذي كان يتقلب بين يديه طوال ليل العشاق والحالمين والمسافرين على أجنحة الرغبة الصاعدة إلى لحظة الوصل التي تكتسب معنى صوفياً، لا تخطئه العين، حتى في كونه الوجه الآخر من نبض جسد وثني، يتعشق اللذة، أو تجد اللذة فيه ذرى مراحها المنتشي بالحياة والوجود وقوة الصور البصرية وإلحاحها دال على الحال الذي لا يزال حلم المرأة النائمة متعلقاً به، يأبى فراقه، أو انتهاءه هكذا ندخل إلى بقية القسم الأول بصوره البصرية التي تلازمها خصائص لمسية وسمعية وشمية وذوقية، تؤدي دورها في إتمام النعمة أو المتعة في المشهد. وقفت قربها، أحسها، أرقبها، أشمها النبض نبض وثني والروح روح صوفي، سليب البدن أقول يا نفس رآك الله عطشى حين بلَّ غربتك جائعة فقوّتك تائهة فمدَّ خيط نجمة يضيء لك والمقطع يتكون من وصف واستجابة للوصف، فأوله الوقوف، التحديق، امتلاء العين بالمحبوب، وتمثل الحواس كلها جماله، في نوع من عبادة الجسد وانتشاء بحضوره الحسي الطاغي وتأتي الاستجابة إلى الوصف في نوع من النجوى التي ترد النعمة إلى بارئها، والرِّي إلى من تسبب فيه، والألفة إلى من أسكن النفس التائهة، وردّ غربتها، فقلب وحشتها أنساً، واغترابها اتحاداً، ونهمها شبعاً واكتفاء وتصعد بنا نغمة النجوى لتغدو حواراً بين الأنا وذاتها، موضوع الحوار هو جسد الآخر الذي صعد بالأنا إلى ذروة الحضور أو الشهود، فنقرأ: يا جسمها الأبيض قل أأنت صوت؟ فقد تحاورنا كثيراً في المساء يا جسمها الأبيض قل أأنت خضرة منوّرهْ؟ يا كم تجولت سعيداً في حدائقك يا جسمها الأبيض مثل خاطر الملائكة تبارك الله الذي قد أبدعك وأحمد الله الذي ذات مساء على جفوني وضعك ولا تفترق أسئلة التعجب، في مدى أسلوب الإنشاء، عن علامات التعجب، فالجميع ينطق النجوى التي تنقسم بها الأنا إلى ذات سائلة وموضوع مطروح عليه الأسئلة وما بين الطرفين، ندخل إلى مباهج الجسد الذي تتجسد به وفيه مباهج الحواس في الإنسان وفي الطبيعة على السواء، ونتدرج صاعدين من الحسي إلى الروحي، كما لو كان الانتشاء الجسدي الكامل يقود إلى حدائق الأرواح ومراح الملائكة، وذلك في حال يستوجب شكر الباري الذي خلق فأبدع، وشاء فأتاح ما يوجب العرفان الذي ينطوي على المنزع الروحي الذي يتخلل المشهد، ويتوهج مع ذروته في فضاء الليل الذي ينغلق على أحلامه ولا يفتح إلا على مراح خياله الطليق الذي زاده الليل انطلاقاً، ودفعه كالطائر المغرّد في سماوات لا نهاية لها وعندما ينطلق خيالنا نحن القراء إلى مداه في هذه النشوة الروحية الجسدية نفاجأ بما يقطع طريقنا، ويحول بيننا والانطلاق الحر كما لو كنا في مقام وأدرك شهرزاد الصباح، فوقفت عن الكلام المباح، ودخلت إلى منطقة الكلام المسكوت عنه الذي يوازي الصمت الذي يقطع مسار كلام الليل وهنا تتحول قصيدة صلاح عبدالصبور، وتنقلب من النقيض إلى النقيض على كل مستوى والبداية هي: لما رأينا الشمس في مفارق الطرق مدت ذراعيها الجميلتين مدت ذراعيها المخيفتين ونقَّرت أصابع المدينة المدببة على زجاج عشنا، كأنها تدفعنا نذهب، أين؟ وإذا كان ضوء الشمس القاسي قد أذاب كل أحلام الليل الحاني، في مدى جمعه ما بين متعة الحواس وانتشاء الروح، فإن وهج الشمس ينعكس على الجميلة النائمة، فتمد ذراعيها الجميلتين اللتين لا تزالان معلَّقتين بأزهار الليل، وذراعيها المخيفتين اللتين أخذتا تفتحان أبواب الحضور الشمسي للواقع الخشن الذي أخذ يطرق زجاج واحة التوحد، فيفتحها على طرقات المدينة التي تنبئ أصابعها المدببة عنها، في المدى الدلالي للاستعارة المكنية. وتبدأ الرحلة المناقضة للرحلة في الليل، وذلك في مدى المدينة، وتحت شمسها القاسية التي هي نقيض لقمرها الحاني، فيأتي ختام اللقاء عناق شفتين تحملان بقايا ندى الليل، وآثار عطش لاهب إليه لكن سدى، فبقايا الندى تذيبها أشعة شمس المدينة، والاتحاد الليلي تقطعه سرعة الاندفاع على السلالم القديمة التي ما إن يصل إلى نهايتها رفيقا الليل حتى يحل الوجوم محل الابتسام، مع أولى خطوات. الطريق المزدحم بالبشر لما دخلنا في مواكب البشر المسرعين الخطو نحو الخبز والمؤونة، المسرعين الخطو نحو الموت في جبهة الطريق، انفلتت ذراعها في نصفه، تباعدت، فرَّقنا مستعجل يشد طفلته في آخر الطريق تُقْتُ ما استطعت لو رأيت ما لون عينيها وحين شارفنا ذرى الميدان، غمغمت بدون صوت كأنها تسألني من أنت؟ والمقطع النقيض يحمل كل ما يتضاد مع غنائية القسم الأول، في فضائه الليلي، ويجمع كل ما يلازم النهار الشمسي لمدينة مزدحمة، لا محل فيها للحلم أو الخيال، في ازدحام الطرقات التي تبدأ بأن يفرق مستعجل يشد طفلته ما بين عاشقي المساء، فيمضي كلاهما بعيداً من الآخر، إلى آخر الطريق الذي ينسى معه العاشق الليلي، تحت وقدة الشمس، لون عيني الحبيبة التي بدأ قصيدته بتأملهما والتحديق المتأني فيها. وعندما يصل الاثنان إلى ذرى الميدان، تأتي النهاية المباغتة كالصدمة حين تغمغم الحبيبة كأنها تسأل عن هوية الذي كان معها طوال الليل، فقد أنستها إياه زحمة المدينة وشمسها القاسية وبشرها الذين تسقط عليهم المدينة آليتها وهكذا تنتهي القصيدة بسؤال بعد أن بدأت بتقرير واصف، والفارق الكبير ما بين البداية والنهاية هو فارق التضاد ما بين ترابطات الليل بإيحاءاتها الحانية، ومتعها التي يتداخل فيها الحسي بالروحي، وترابطات النهار بشمسه القاسية ولوازمها التي تتصل بالإيقاع السريع، والاندفاع نحو العمل، وتحول البشر إلى آلات وأرقام، وتحول المدينة النهارية نفسها إلى عالم شمسي قاس، لا يعرف الحب في سماته الليلية، ولا اللذة في طرقات المدينة التي تذيب الشمس طبقاتها الإسفلتية التي تدوسها ملايين الأقدام. وعندما نضع النهاية الصادمة لقصيدة أغنية من فيينا في سياقات القصائد المحيطة بها، يتزايد حضور الدلالات الشمسية، فنعرف أن الشمس في"رسالة إلى سيدة طيبة"هي التي تحرق الوردة وقداً وتباريح، كأنها الريح التي تكسر جناحي الطائر بعد أن أغوته بالصعود في أفقها، أو الحبيبة التي تمزق أوتار العاشق فتغدو أغانيه سوداوية بعد أن كانت وردية، فندخل والعاشق في عالم تجلده الشموس في"أحلام الفارس القديم"في كون خلا من الوسامة، أكسب صاحبه التعتيم والجهامة، منذ سقط فوقه في مطلع الصبا، وذلك في عالم المدينة الشمسي الذي يقهر عالمها الليلي، ويذيبه تحت وقدة حرارته، فنعود إلى التضاد الذي تنبني عليه"أغنية من فيينا"وقد رأيناه رأسياً في تضاد قسمها الثاني النهاري، الشمسي مع قسمها الأول الليلي، القمري ويمكن أن نراه أفقياً في"مدّت ذراعيها الجميلتين مدت ذراعيها المخيفتين"كما نراه في مواكب البشر"المسرعين الخطو نحو الخبز والمؤونة المسرعين الخطو نحو الموت. وربما كنت في حاجة إلى القول إن التضاد الذي يحكم بناء"أغنية من فيينا"هو قانون أساسي من قوانين بناء قصائد صلاح عبدالصبور ومسرحياته، حيث العالم، دائماً، منقسم بين نقيضين، الغلبة فيه للنقيض المقترن بتقلص الحب في هذا الزمان وقصر عمره، وانتصار الشر على الخير، والقوة على الحكمة، والفطنة على البراءة، والسلطة المتسلطة القامعة على المحكومين المقموعين ولكن ماذا عن"ليالي الأنس في فيينا"؟ لم تعد موجودة إلا في المدى الليلي، حيث تسري الأحلام مع انطلاقة الخيال، وحيث يتحرر ديونسيوس من كل قيوده، وحيث تمتد المؤانسة بين الأحبة، لكن على امتداد الليل وحده، وقبل أن يأتي الصباح بشمسه القاسية التي تذوب الأحلام تحت وقدتها، فتغدو"فيينا"مثل غيرها من المدائن التي تغترب بالإنسان عن إنسانيته، ويستحيل البشر فيها إلى آلات وأرقام، متسارعة الخطو، منهومة برغبة الصعود والتسلق والترقي، فلا تبقى سوى أخلاق المنفعة وقيمها العملية في عالم البشر المسرعين الخطو نحو الخبز والمؤونة، المسرعين الخطو نحو الموت، فتبدو أغنية أحمد رامي كأسمهان وليالي الحب في فيينا أحلاماً لا وجود لها في عالم المدينة الشمسي الذي يزداد تعقيداً واغتراباً عن أنقى ما في الروح الإنساني وأرقّه. ملاحظة: تنشر هذه الزاوية اليوم الخميس استثناءً.