بشر يمزقون الزمن وبشر يلبسونه 1 - "البيت المتنقل" لمنى حاطوم، الفنانة الفلسطينية - اللبنانية حضور فني متميز في العالم، أُتيح لي أن أشاهد معرضها الأخير، في 29 تشرين الأول اكتوبر الماضي، في غاليري"ألكسندر وبونان"في نيويورك. عنوان المعرض:"بيتٌ متنقل"، أو"مترحّل". عندما التقيتها في المعرض، حاولت أن تذكّرني بحياتها المدرسية في"زهرة الإحسان"ببيروت، وبأنني قد أكون علّمت أختيها، قبلها. غير أنني لم أتذكر. المعرض تجهيزي - ترتيبي آنستالاسيون، يمكن لمناسبته أن نذكّر ببعض الخصائص التي ترتبط بهذه الطريقة الفنية، الشائعة اليوم - لكن بتنوعٍ وتفاوتٍ. وأفعلُ ذلك باختصار، وباحترام وتقدير كبيرين لشخص الفنانة ولأعمالها الفنية. والغاية هي الوصول الى مزيد من الفهم: فهم الحركية الابداعية المعاصرة في أحوالها وتقلباتها، أشكالاً ودلالات. 1 - الخاصية الأولى تتعلّق بپ"طبيعة"المادة التي تُستخدم في هذه الطريقة الفنية: الأشياء التي نُصادفها عرضاً، أو نستعملها في شؤون حياتنا اليومية، سواء في البيت أو الشارع، وأوغيرهما. فمن الممكن، مثلاً، أن يدخل في"تجهيز"العمل الفني و"ترتيبه"صحن، خرقة قماش، سلكٌ حديديٌّ أو نحاسي، ملعقة، قطعة خشب، حذاء، سكينٌ، قطعة جلد، حبالٌ، حقيبة سفر، ضوء كهربائي، ... الخ، الخ، في غياب كامل لمادة النحت"القديمة". وهذا مما يؤدي عملياً الى غياب"التشكيل"، فنياً، والى ان يحلّ محله ما يمكن أن نسميه ب"الترتيب". 2 - ترتبط الخاصية الثانية بپ"النقلة"التي يقوم بها فنانو هذه الطريقة من التمركز حول هاجس"الدوام"الى التمركز، على العكس، حول هاجس"الزوال". كان الفن يصدر، إجمالاً، عن رؤية"تخترق"الأشياء والأحداث، وهو هنا يصدر، إجمالاً، عن رؤية"تلتصق"بها. مقابل فن يحاول أن"يقبض"على الزمن، ينشأ، على العكس، فن"يستظل"به. هناك"يُمزّق"الزمن، وهنا"يُلبَس". 3 - الخاصية الثالثة هي أن"العابر"،"الزائل"،"الهش"، ما لا قيمة له يُصبح مادة فنية أثيرة. وفي هذا يبدو العمل الفني كأنه يؤثر"الهيكل"على"الصورة"، وپ"الشاطئ"على"الموج"، وپ"الشارع"على"البيت". هكذا يتخلى عن الشغف ب"القيمة"، ويتبنى الشغف بپ"الحياة - الحياة العادية، اليومية". - 4 ترتبط الخاصية الرابعة بصيرورة العمل الفني"نسخة"عن الأشياء، وبإلغاء المسافة بينه وبينها. أو هو، بتعبير آخر، يُوغل، بوصفه"نسخة"، في التوكيد على عدم الفصل بين ما يُسمى"فناً"وما يُسمى"حياة". كأن الفنان يقول لنا: إن كان هناك فن فهو الحياة نفسها. ومعنى ذلك أنه يُوغل في تدمير فكرة الفن. كما ترسّخت، تاريخياً. - 5 الخاصية الخامسة هي أنه يُفترض بهذه الطريقة الفنية، التجهيزية - الترتيبية، بوصفها مركبة من عناصر أليفة، بسيطة، عادية، قريبة الى الناس في حياتهم اليومية، أن تكون قريبة الى أذواقهم وأفكارهم. غير أن العكس، كما يبدو، هو الصحيح. وتلك هي المفارقة: لا"جمهور"لفن يحاول، جاهداً، ان يتوجه الى الجمهور. والغريب أنها هي"المفارقة"نفسها في الفن السابق. 6 الخاصية السادسة هي أن الأعمال الفنية التجهيزية - الترتيبية، تبدو في الظاهر كأنها مغرقة في"الواقعية"التبسيطية، وأحياناً الابتذالية. غير انها، في الحقيقة، مغرقة في الذهنية، والتجريد. وذلك هو تعقيد البساطة، أو العلو بالبساطة الى مرتبة التعقيد. 2 - تعقيب نعرف جميعاً أن فكرة"التوحيد"بين الحياة والفن قديمة جداً. وقد نظر اليها العرب القدامى، من زاوية خاصة، وعبّروا عنها بطرق خاصة. وأجد هنا من المفيد أن أشير الى أنهم نجحوا، في بعض مراحلهم التاريخية، في أن يحققوا نوعاً من الوحدة بين الحياة التي يعيشونها والفن الذي يتذوقونه. نجحوا في شعرهم، في المرحلة السابقة على الإسلام: كانت القصيدة تُعاش كأنها شكلٌ آخر من الحياة، أو كأنها تنويع عليها، وامتدادٌ لها. ونجحوا في صناعاتهم اليدوية: الارتقاء بالأدوات الخاصة بپ"تسيير"الحياة، الى مستوى الأعمال الفنية. كان الشيء الذي يصنعونه، سواء تمثّل في إناء أو كرسي أو قنديل أو سجادة عملاً فنياً رفيعاً، تقنية وجمالاً. وكانوا يستخدمونه في حياتهم اليومية، تجميلاً للحياة، وافتتاناً بها، واستمتاعاً بلذائذها. وتلك هي متاحف العالم تزخر، مزدهية بما أبدعوه من أدوات - آثار فنية، كانت في الوقت نفسه، متعة البصر والبصيرة، متعة الحياة والفكر. 3 - أغنية الى جلجامش، عائداً الى أوروك جلجامش، ماذا ستفعلُ في أوروك؟ ماذا يفعل حولك هؤلاء الرجال؟ تائهون. يتصببون دماً. سراويلهم رصاصٌ، ووجوههم حُفرٌ. الأرض حولهم مُسوّرةٌ، والأفق أنبوبٌ ذريّ. ماذا ستفعل بهذا الفضاء الذي يتسربلٌ باللهب؟ ماذا ستفعل بعد إنكيدو؟ هل تسمع شهيق الأبواب؟ هل ترتطم وسادتك بمنشار الموت؟ في الظلمة ظلمةٌ ثانية، وما هذه القوة التي لا ترى العالم، لكنها تقبض عليه؟ جلجامش، لك رايةٌ هي الحرية. نُعطي أيدينا لهذه الراية، ولن نستسلم. 4 - شذرات: هي وهو تحية الى صديقة سألتني:"هل تاء التأنيث هي التي تميّز حقاً بين الذكورة والأنوثة؟". 1 - هو يستيقظ، يتحرك، يفكر، يقرأ، يكتب حاملاً ليلها بين ذراعيه. * عيناه ذُوراتٌ تُشرف على سهول أحلامها. * شمسُ حريته ساهرةٌ على حديقة جسدها. * معها، لا يعرف الخيبة ويجهل اليأس. ألهذا يخاف منها؟ * غيمُ كلماتها يُمطر في أحشائه: لا يُمطر إلا أسئلة الحب. * يُعيد ابتكار جسدها لكي يُعيد ابتكار لغته. * لا تراه الجبال، وتراه عشبة في آخر حقل على ضفاف أقصى ينابيعها. * يحتضنها، كأنه يحتضن يومه الأول على الأرض. * بصيرٌ بين أحضانها كأنه الضوء، وأعمى كأنه الليل. * لجرحه شكل رسالة الى حبها، لم يكتبها بعد. * جميلٌ - لا بجسده، بل بجسدها. جسده مُعجمٌ لجسدها، مفتوحٌ على العاصفة. * 2 - هي بين يدي حبيبها، تحوّل بيتها الى كوكبٍ وفراشها الى فضاء. * لا ترى حبها مفرداً إلا إذا رأت جسدها مُثنى. * لا ترى نفسها إلا طفلة، لأنها لا تقدر أن تراها إلا عاشقة. * غموض جسدها هو الذي يوضحه: ألهذا يظلّ بداية دائمة؟ * جسدها ليلٌ آخر لأحلامها. * لا تعرف الخطيئة: معصومةٌ عنها بالحبّ والشغف. * هنا، في هذا المكان، مرّت. هنا، في هذا المكان، لم تضع قدميها: لا مفرّ للعاشق من أن يُحبّ المكانين. * كأنها الطبيعة: مهما انفصلت عنها، فأنت فيها.