منذ أواخر القرن العشرين، تعاني القارة الأوروبية مشكلة متعددة الأبعاد تتمثّل في ارتفاع نسبة المُعمرين فيها. وتحمل هذه المشكلة املاءات منها الرعاية بالصحة العقلية لهؤلاء المسنين. فمن المعلوم أن قدرات الدماغ الفكرية تتآكل تدريجاً مع تقدم العمر.وفي مواجهة ظاهرة الارتفاع المذهل في أعداد"أصحاب الشعر الأبيض"المُهدّدين بتضاؤل قدراتهم الذهنية، أطلقت مجموعة من شركات الألعاب الإلكترونية"حملة إيجابية"ضدّ الشيخوخة، بمعنى السعي لنشد أزر كبار السن ورفع مستوى أدائهم الفكري في خريف العمر، واقترحت عليهم اللجوء الى ألعاب متخصصة يُفترض أنها تقوي"عضلات"المخ، وتشحذ رهافة الدماغ"عبر ممارسة ما يسمّى بپ"الرياضة العقلية". الألعاب وعمل العقل البشري في الآونة الأخيرة، شهدت الأسواق الأوروبية ظهور ألعاب رقمية تسعى للمساعدة في تنشيط الدماغ والتخفيف من الآثار السلبية تقدم في العمر. ومن المنطقي أن يتبادر سريعاً الى الذهن سؤال عن مدى فاعليتها. وتأتي الإجابة متفاوتة. فمثلاً، أثبتت أرقام مبيعات شركة"نينتاندو"صحّة ما تدعيه في هذا الصدد. واستطاعت بيع ألعاب يفترض أنها منشطة للعقل لأكثر من 10 ملايين شخص. وتنافسها في هذه الصناعة شركات مثل"إيم"وپ"مايكرو أبليكاشونز"وپ"أوبي سوفت"وغيرها. وتضم ألعاب الدماغ أنواعاً مخصصة للرياضات العقلية، وأخرى للتمارين التي تنشّط الذاكرة والأعمال اللاإرادية، وثالثة لتمييز الألوان وغيرها. جذبت هذه الفكرة المسنين، إضافة الى بعض الشباب"فاشتروا الألعاب بهدف الحفاظ على جودة العقل. ويتساءل بعضهم كيف يمكنها التأثير في رهافة الذهن؟ وربما كان السؤال الأصح هو: ما الذي يحدث فعلاً داخل العقل عندما نلهو بهذه الألعاب؟ وهل من المعقول أنّها تستطيع التخفيض من نسبة الإصابة باعتلالات الدماغ مثل مرض ألزهايمر؟ من المعلوم أن الدماغ البشري يحتوي على خلايا عصبية تعمل على تخزين المعلومات وتساعد على تحسين نوعية الذاكرة، والذكاء، وخصائص ذهنية مثل الكلام، والكتابة، والمشي المتناسق وغيرها. ويحتوي الدماغ أيضاً على محاور تتقاطع فيها الأعصاب وتلتقي وتتبادل المعلومات عبر تفاعلات كيماوية وكهربائية. ومع تقدّم الإنسان في العمر، وخصوصاً إذا كان مسرفاً في تناول المشروبات الروحية والتدخين وتعاطي المخدرات والعقاقير ويعاني قلّة النوم"تضمر كتلة الأعصاب في الدماغ، وتذوي محاور التقاطعات العصبية، فيبدأ مشوار شيخوخة العقل ووهنه. وعلى رغم ذلك، لا يخسر الإنسان إلا نسبة معينة من هذه الخلايا والمحاور. وظهر كثير من الدراسات العلمية أخيراً ليتحدث عن قدرة المخ على تجديد المحاور العصبية وتفعيلها. وهذه هي الفكرة التي تستعملها شركات الألعاب لترويج منتجاتها، إذ انّ ممارسة بعض التمارين والنشاطات الجديدة تساعد الخلايا العصبية على التلاقي والتواصل. وربما كان مفيداً سرد بعض الحقائق عن عمل الدماغ البشري، على النحو الآتي: في عمر ال40 عاماً، يفيد التدريب للعقل في حال شُخّصت أمراض عقلية وراثية في العائلة، بحسب ما يقول معظم المتخصصين في سيكولوجية الجهاز العصبي. يبلغ عدد الأشخاص الذين أصيبوا بمرض ألزهايمر في فرنسا خلال العام 2007 قرابة 800 ألف شخص. يصل عدد الأشخاص المصابين بمرض ألزهايمر عالمياً الى 26 مليوناً. وتتوقع بعض جمعيات مكافحته، ازدياد هذا الرقم حوالى أربعة أضعاف مع حلول العام 2050. ينصح اختصاصيو سيكولوجية الجهاز العصبي باللهو عبر الألعاب الإلكترونية المقوية لعضلات المخ لمدة 20 دقيقة يومياً. عدد الخلايا في الجهاز العصبي الموجودة عند الولادة قرابة 100 بليون. وبعد بلوغ الثلاثين من العمر، تتلف 100 ألف منها يومياً! يتراوح وزن العقل البشري بين 1300 و1600 غرام، ولا توجد صلة بين وزن المخ ودرجة الذكاء. في المقابل، شككّ بعض المتخصصين في قدرة الألعاب الإلكترونية على تأمين الوقاية من أمراض مثل ألزهايمر بسبب عدم وجود دراسة فعلية تثبت دقّة هذه المعلومة. وأشار بعضهم إلى أنّ هذه الألعاب لا تستطيع تغيير واقع العقل، إذ انّ أمراض الشيخوخة تصيب أجزاء من الدماغ لا تستخدم خلال اللعب. ومثلاً، علّقت أرليت مايريو مديرة"مركز ألزهايمر"في فرنسا على تلك الفكرة بقولها:"أعتقد أن من الغباء القول إنّ ممارسة بعض الألعاب الإلكترونية يمكنها تجنّب الإصابة بمرض ألزهايمر، لأنها ألعاب لا تعلّم إلاّ الأوتوماتيكية. وأود الإشارة إلى أنّ الإنسان يصاب بعوارض هذا المرض ما بين عمر الأربعين والخمسين، ثم تظهر أعراضه جلية بعد عشر سنوات"في حين أنّ هذه الألعاب تتوجّه إلى المسنين، الذين تجاوزوا عمر الخمسين، حيث يكون الإنسان إمّا قد أصيب بالمرض وفي هذه الحال لا جدوى من الحديث عن تجنّبه أو لم يتعرّض له أصلاً. إذاً، أين المنطق في ما يقال؟". إلاّ أنّ آخرين أكّدوا أنّ إنعاش المعرفة والإدارك يساعد بالفعل على تأخير الموت الطبيعي للعقل، ويخفّض بنسبة 35 في المئة الإصابة بوهن الأعصاب. وبيّنت دراسة أجريت في مدينة دي موان الفرنسية دقّة هذه المعلومات إذ ساهمت عملية تنشيط المعرفة والإدراك في تحسين القدرات العقلية لمرضى كانوا في المراحل الأولى من مرض ألزهايمر. ألعاب"تحتال"على العقل يميل كثيرون من اختصاصيي الأعصاب والطب النفسي راهناً الى القول إن العقل قابل للتغيير، وإن إيجاد الحافز لتنشيطه هو العنصر الأهم في هذا الشأن. وهنا يأتي دور الألعاب التي"تحتال"على العقل بهدف تأخير الشيخوخة. وتشير الدراسات إلى أنّ الإنسان يفرز مادة"دوبامين"، التي تُعرف بپ"هورمون المكافأة"، بمعنى أنها تعطي الشعور بالسعادة بعد تحقيق نتيجة جيدة. وتساعد أيضاً على إعادة إنشاء خلايا أعصاب جديدة، وخلق صلات جديدة بينها. خلاصة الأمر، إذا أراد الإنسان تنشيط خلايا عقله وتجديدها وحمايتها من التلف، فإن التمارين هي الحل. من هنا، امتلأت الأسواق بهذه الألعاب مثل"برنامج التدريب العقلي"الذي تصنعه شركة"نينتاندو". ويعمل على تنشيط الذاكرة من خلال تمارين مختلفة توجب استخداماً مكثفاً للتذكّر مثل الحسابات الذهنية ولوائح الأسماء وأشكال مرسومة ونصوص صغيرة وغيرها. وبحسب أجوبة اللاعب، يقدّر البرنامج عمر عقله. وتجدر الإشارة إلى أنّ النتيجة تتحسّن تدريجاً بعد تكرار التمارين. وكذلك أطلقت"نينتاندو"برنامجاً ثانياً تحت اسم"التدريب العقلي المتقدّم". ويتضمّن تمارين أكثر عملانية مثل دفع الأموال واستردادها، والتعرّف الى أصوات الحيوانات، والعمليات الحسابية المركبة، والكلمات المتقاطعة، والتعرّف الى كلمات تُتلى في جوّ صاخب وغيرها. وكذلك تعاونت شركتا"إيم"وپ"ساينتيفيك براين تراينينغ"لإطلاق برنامج أكثر تقدماً تحت إسم"مدرّب العقل""كوتش سيريبرال". وتنمّي بعض تمارينه المعرفة بعلوم الجغرافيا والطبيعة وبأنواع الطيور. يعمل هذا البرنامج على تنشيط الذاكرة وتمرين الفكر. وهناك ألعاب أكثر سهولة تعتمد على السرعة في الإجابة مثل برنامج"80 لعبة لتحريك الخلايا العصبية"الذي يحتوي على مجموعة كبيرة من الأسئلة المتنوعة التي تتعلق بالمعلومات العامة، إضافة الى تمارين لتنشيط الذاكرة والتفكير المنطقي. ولا يؤكد الطب صحة ما تنسبه الألعاب لنفسها من قدرات، ولا ينفيها. هل هذه الألعاب فعلاً تؤخر من بوادر الألزهايمر والجنون وغيرهما، أم أنها مجرّد ألعاب؟ على أي حال لا ضرر من اللعب، فإن لم يحسّن القدرات العقلية، يزيد على الأقل من المعلومات العامة بطريقة مسلية!