دقت ساعة الحائط التي كنّا اشتريناها حديثاً، خمس مرات. وقد شرعت الديكة بالصياح منذ وقت. أما البغال فحفرت الصباح بحوافرها، وانطلقت إلى الخارج. وقف أبي مع أمي وراحا يمشيان بحذر في الغرفة الخشب التي غزاها الصباح. كان نسيم الصباح يتجول بهدوء فوق وجهيهما المتغضنين. في هذه الغرفة كانت تنبعث رائحة العنب وكان الهدوء يتهيأ للرحيل. أما الموت فكان يكشف عن ابتسامة سرية ويلمس القلوب لمساً خفيفاً ويختفي. ما زال ذلك الضجيج الصاخب يملأ مسمعي. كانوا يرقصون بأجسادهم التي نحفها الغضب ويرفعون إشارات النصر ويزغردون بأصوات بحّت من كثرة الصياح. نزل أخي من الباص ملتحفاً ببطانية، ومحمولاً على الأكف. ظل لبرهة من الزمن، ينتقل من يد إلى يد، وسط الصياح - كان البكاء معيباً - نظرت إلى أبي وأمي، كانا مثل الحجر. أنا أيضاً كنت كذلك. كان ذلك اللمس الخفيف قد اكتسب معنى الآن، واكتسى مرارة. مصباح كهربائي قذر يضيء باحة الجامع، أنظر ببرود إلى البرميل الأسود المنتصب وسط اللهيب. كانت الشرارات تتطاير هنا وهناك. والوجوه السمر تلتمع بحبات العرق. حين فتحت البطانية رأيت أخي: كان جسده قد تغير وسط الدماء، وبدا كما لو أنه تضاءل، وترك للإهمال. كانت عيناه مغمضتين، وكذلك لحيته ملطخة بدماء جافة، يعلوها الغبار. جاء الإمام وهو يدمدم، ويسعل. وما إن دلق الماء على أخي حتى أبيضّ جسده، وراح الدم المتخثر يخرج من ثقوبه. وعندما أجلس أخي للشروع في الوضوء، لاحظت أن ذراعه اليسرى مفقودة. كان صوت الماء يعلو، وتشكل في ما يشبه جدولاً صغيراً راح يتجمع في باحة الجامع. كان هناك كلب ينبح، وقد فتح عينيه على وسعهما. كان أخي ذاهباً للدراسة ويتهيأ لأخذنا إلى المدينة. كان والدي يمتدح قدرته على قراءة الجرائد وجمع الحسابات. كان يبعث إلينا الرسائل. - راح إذاً... قال والدي. وبقيت أمي تبكي أياماً متتالية. أحرقت البخور وصنعت تعاويذ للاستعجال بعودته. انقضت أربعة أعوام. في تلك الليلة كنا في البستان. وكان البستان ملتحفاً بضوء فضي منير. الأشجار تلتمع مثل قطع من المخمل، ورائحة التين تملأ المكان، وأنوفنا. كانت أغنية خافتة تتردد على لسان والدي. أما والدتي فقد كانت تواصل الضغط على أختي الكبرى من أجل أن تتزوج ابن خالتي. وفي الوقت ذاته، كانت ترتب حبات التين في السلة الخشب."تزوجيه أنت. لن آخذ هذا الأحمق"... كانت أختي لا تنفك تردد بحنق. وسرعان ما كان السجال يتحول إلى شجار وكانت أختي تبتعد من المكان وهي تبكي فتتوجه أمي غاضبة نحو أبي هذه المرة ويروح أبي يضغط على تبغه بأصابعه ويلوذ بالصمت. حين تناهى صوت نباح الكلاب سكتت أمي وأصغينا. صوت خطوات تدق العشب الجاف، ضوء خافت يظهر من بين الأشجار الكثيفة. قال والدي بانفعال: لا شك في أنهم حماة القرى. ذلك أن الجندرمة يتجولون في سيارات الجيب والمصفحات. تيقنت أمي من أنها رأت رجلاً، فأنزلت ثوبها وغطت أطرافها. ألقى والدي سلاماً خجولاً. توجه الرجل بخطوات حذرة نحونا. كان الرجل أخي. حارت أمي بين الضحك والبكاء. أخذت أخي بين يديها وراحت تقبّل جبهته. كان أخي يتحدث كما لو أنه لم يغادرنا قط. ولكن صوته كان يكشف عن غربته عنا. وهو ظهر بسلاحه مثل سر غامض. أهذا هو أخي؟ كنت أردد في سري وحين نظر إليّ خفت وجفلت. هل أنا مثل شبح؟ سأل أخي ثم أنزل حمله عن ظهره وتناول مطرة الماء وشرب وجفف فمه وقال موجهاً كلامها لي: بالتأكيد يجب ان تذهبي إلى المدرسة. وكان في صوته ما يشبه المزاح ثم دنا مني وقبّل عيني وقال اذهبي. لم أكن أرغب في النوم. حين أفقت كان النمل يتجول فوق جسدي وكانت القرية لا تزال نائمة. ومن حركات أمي عرفت أن أخي لم يغادر بعد. كانت أمي تعد كيس الطعام. بحثت بنظراتي عن أخي. كان في الحديقة يأكل التين من الصندوق. لم يكن يريد معانقة أمي لئلا يحزنها فتوجه إلى أبي وتهامسا ومن دون أن ينظر خلفه مضى بخطوات سريعة. كنت خلف التنور ولا أعرف لماذا لم يرني. كان الهواء بارداً في الخارج والمطر بدأ يدق زجاج النافذة. نهض أبي وأطلق سعالاً جافاً. دخلت أمي البيت ولم تكن تعرف ما تفعل. الناس تجمعوا في صحن الجامع وبعضهم ذهب إلى المقبرة القريبة وفي البعيد بانت السيارات العسكرية تتجه نحو القرية. الترجمة عن التركية