أمي قالت: «لا» خمس مرات متتالية بصوت يخنقه البكاء. لكن أخي استغل وفاة أبي وخرج قبل حتى أن يسمع ال«لا» الثالثة ليستعين بالحطابين في قطعها. جدتي المقعدة سمعت صراخنا أنا وأختي وبكاء الرضيع، رأيتها تزحف وتطل برأسها من الباب. عاد أخي وبرفقته خمسة من الحطابين بمعداتهم، وجدني ملتصقاً بجذع الشجرة أنتظرهم لعل جسدي الضئيل يكون حائلاً بينها وبين فؤوسهم. شدني من ياقتي، صرخ بي ودفعني داخل البيت وأغلق الباب. ومع أول ضربة فأس سمعت شهقة أمي وكأن الضربة استقرت في صدرها، صرخت أختي، ومن ضربات جدتي المستمرة بعصاها على زجاج النافذة طرأت على بالي فكرة الهرب من نافذة المطبخ وطلب العون، كان الغداء على النار يصدر صوتاً كصوت سقوط أول المطر على البلاط. بعد تحرري من قضبان النافذة الضيقة رحت أركض بأقصى قوتي وهواء الظهيرة الحار يشوي رئتي، بينما الشمس تكفلت بضرب جسدي. وصلت ملتهباً كقطعة لحم نصف ناضجة إلى منزل إمام المسجد. ولأنني كنت منهكاً جداً شعرت بالكلمات تعبر حنجرتي كجمرة، قلت كلمتين فقط وفقدت الوعي. حين استيقظت كان أذان المغرب على وشك أن يرفع. تمهلت في الخروج من بيت الإمام، محزوناً ومثقلاً بالخيبة أجر قدمي خلفي: مؤكد أنهم قد انتهوا من قطع الشجرة الآن. ثمة دخان! بل وأحرقوها أيضاً. ركضت، وكلما اقتربت كان الدخان يتكاثف وجداراً من الناس يحجب عني الرؤية. قبل ثلاث ساعات هربت ووصلت بيت الإمام وجسدي نصف محترق من الشمس. عدت الآن وإذ بالبيت ومن به والشجرة المقطوعة قد صاروا رماداً. وحسب سلسلة الاحتراق اليوم: الغداء أول من احترق، لأن أمي انشغلت عنه تبكي عقوق أخي لها حتى أحرقها الغداء. أختي الصغيرة أيضاً احترقت من أجل الأرجوحة المعلقة على غصن الشجرة، وجدتي احترقت من أجل الظل والورق ورائحة الطين تحتها، تذكرها بمزرعتها في القرية. وأنا وحدي كنت أعلم أن الشجرة التي زرعتها أمي حين علمت بأنها حاملاً بأخي وسمتها «شجرة العائلة» قد تشردنا كأغصان مقطوعة أو تحولنا كالحطب إلى رماد. والذي لم تعلمه أمي أن كل شجرة تربي فأساً في جذعها. والآن لم يبق من «شجرة العائلة» غير الغصن الذي كسرته الرياح الشهر الماضي. يسند الآن أحد جدران المسجد ريثما ينتهي ترميمه. ذلك الغصن الذي ظننته أبي حين مات كان أنا. * قاصة سعودية.