بعد انفراط حكم الشاه عام 1979، شعر الجميع قادة وشعوباً بأن المنطقة تواجه خطر"الزعزعة"أمنياً واستراتيجياً وعسكرياً واقتصادياً، شعر الكثيرون آنذاك بأن الأمر"حياة أو موت"، خصوصاً الدول التي تعرضت لهجمات إرهابية منظمة الإمارات، البحرين، قطر، الكويت، فكان ميلاد مجلس التعاون الخليجي عام 1981 عسيراً، وسط بركان الثورة الإسلامية الإيرانية وعنفوان تصديرها. اذاً، ولد المجلس على هاجس إعصار الثورة الإيرانية التي أطاحت الشاه محمد رضا بهلوي شرطي الخليج آنذاك، الذي تخلت عنه الإدارة الأميركية جهاراً نهاراً، وان كان على استحياء، على رغم ان الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر قال مادحاً الإمبراطور السابق قبل سقوطه بشهور، بأنه يمثل"واحة الاستقرار في الشرق الأوسط"، ولم تخمد الثورة"العارمة"فشبت نار الحرب بين إيرانوالعراق! أثرت تلك الحرب المدمرة تأثيراً بالغاً في الأمتين العربية والإسلامية، وشغلتهما، وأحدثت انقسامات واضحة استفادت منها إسرائيل والصهيونية العالمية، ولم يكد يبرأ ذلك الجرح العميق حتى انفتح جرح أعمق احتلال العراق للكويت، ليدخل العرب والمجلس دوامة أعمق خطراً، لكن المجلس استطاع الصمود أمام العاصفة واستقراء الكارثة، وتمكن بقيادة السعودية من دحر الغزاة وتحرير الكويت. لم يهدأ بال هذا المجلس المثقل بالمشكلات والخلافات والاختلافات داخل بيته، فجاءته الطامة الكبرى متمثلة في احتلال ارض الرافدين، من قبل دولتين جاءتا تساعدان في تحرير الكويت، وتم اعتقال العقل المدبر لغزو الكويت، وقدم لمحاكمة"هزلية"ليست كمحاكمة ميلوسوفيتش الدولية العادلة، وان كان مات قبل النطق بقرار المحكمة الدولية. الكثيرون ينتقدون اداء المجلس وإنجازاته، والمنصفون له قليل! وعلى رغم ان المجلس لم يحقق لشعوبه سوى الحد الأدنى من التطلعات، إلا أن تكوين المجلس في حد ذاته يعتبر إنجازاً، كما انه، وفي الجانب الأمني، جنّب الشعوب الانزلاق الى حروب طاحنة، واكتفى بإدارة الصراعات من وراء الستار تارة، والمساعي الحميدة والتقليل من حدتها تارة أخرى، وهذه هي السياسة وفنها. ويبدو ان المجلس يتبع هذه السياسة، او هذا الفن من السياسة، مع العراق الواقع بين مطرقة المحتل وسندان التغلغل الإيراني، والذي يتهدده شبح حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، مهد لذلك الطريق الرئيس بوش وإدارته، ثم أخذت الإدارة الأميركية تطلق الصرخات، منادية المجتمع الدولي والإقليمي، ومستنجدة ب"النخوة"العربية للتدخل لإنقاذها من"الفخ"الذي وقعت فيه نتيجة مغامراتها العشوائية الطائشة، ليبقى الجيش الأميركي في قواعده سالماً! المبدأ نفسه تتبعه دول المجلس مع الملف الإيراني النووي، فهي تتفق على القلق من هذا الملف... لكن هذا القلق من"القوة"القادمة المتمثلة في إيران، يزداد حدة أحياناً ويتراجع احياناً أخرى، بين خاتمي الإصلاحي ونجاد المتحفز، لكن دول المجلس متفقة بالإجماع على خطورة السلاح النووي الإسرائيلي. لكن هل هذا"الإجماع"منع إسرائيل من تشييد ترسانتها النووية؟ وهل ستتخذ موقفاً حازماً تجاه إيران التي شغل ملفها النووي دول العالم كلها، بما فيها دول المجلس! واشتد ضراوة بعد الإعلان الرسمي الإيراني أنها ثامن دولة في العالم تتمكن من تخصيب اليورانيوم؟! بيت القصيد ان المجلس الذي تصدى لهيجان الثورة الإيرانية والإرهاب وغزو العراق للكويت، و"تعايش"مع كارثة احتلال ارض الرافدين، هذا المجلس جاء ليبقى حياً ويقول هاأنذا، لا ليموت كما ماتت اتحادات سبقته، لأنه يمثل ضرورة ملحة لأهل الخليج المتعطشين للوحدة. نعم، المجلس ولد ليعيش على رغم ما يبدو أحياناً ضربات قد تودي به، مثل الخلافات الحدودية المعلقة"الدقيقة"، والتباين في المواقف، وصعوبة الإجماع على معظم القضايا المهمة، وتغريد بعض أعضائه خارج السرب في اتفاقات تجارية واقتصادية وعسكرية لا تخدم قضاياه، وقضية الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلها إيران المسلمة منذ تأسيس المجلس، التي لم تلتفت الى البيانات الجماعية لقمم المجلس ومطالباتها بشأن الجزر. وجاءت مغازلة سورية للإدارة الأميركية بالتحول من ربط عملتها بالدولار الى اليورو، ثم أكملت إيران السيناريو بإعلانها عن تدشين بورصة للنفط في ايران العام المقبل، تعتمد في تعاملاتها على اليورو، فالصراع بين سورية وأميركا اقتحم العملة، فالسياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، ولكل دولة أدواتها في إدارة الصراع. والإيرانيون مع اشتداد أزمة ملفهم النووي، فجر رئيسهم نجاد مساء الثلثاء الماضي المفاجأة الإيرانية الكبرى، معلناً ان بلاده أصبحت ثامن دولة في العالم تتمكن من تخصيب اليورانيوم، وأنها تسير في الاتجاه النووي العسكري، هذا هو رد"القوة"المضادة على مجلس الأمن، بفرض موقف معقد لا يحسد عليه المجلس والإدارة الاميركية، التي يبدو أنها ستتردد ألف مرة قبل التفكير في ضربة عسكرية لإيران، وستستبدل بها الحوار والخيار الديبلوماسي! وقبل ليلة الإيرانيين التاريخية، التي بشرهم رئيسهم فيها بدخول إيران النادي النووي، كان استعراض"القوة"في مناوراتهم في مياه الخليج العربي، وخرجت من جعبتهم صواريخ واسلحة متطورة"رسالة"لأميركا والدول المجاورة، بعد ان تغلغلت إيران في صميم الشؤون الداخلية للعراق، الذي قدمته أميركا لإيران"القوة"على طبق من"ذهب"! لعل هذا التناقض أو التباين في المواقف بين دول المجلس، لن يعرقل"الوحدة النقدية"المرتقبة تحت مظلة التعاون الاقتصادي، الذي تعددت حوله الأقوال والقرارات والقوانين، وأصبحت أكثر من الأفعال! ومع مشهد ارتباط العملات بالدولار، والتحفز نحو"الوحدة النقدية"التي وافق عليها المجلس عام 2001، على غرار"العملة الأوروبية الموحدة"، لكن بعض أعضاء النادي الخليجي بدأوا الحديث عن ربط نسب من احتياطاتهم النقدية باليورو الأوروبي. وتصدّت قناة الجزيرة - بسرعتها المعهودة في مثل هذه الحالات ? للخبر، لتطرح التساؤلات عن الدوافع السياسية والاقتصادية وراء هذا القرار، في برنامجها"ما وراء الخبر"يوم الجمعة 7 نيسان أبريل الجاري، الذي قدمه الإعلامي الأستاذ علي عبد الله الظفيري، وشاركت فيه، ولا جدال ان لكل عضو الحق في ربط عملته بالعملة التي يريد، إذا كانت اليورو او الين أو غيرهما، والخروج من عباءة الدولار، طبقاً لقواعد الصندوق التي لا تمانع في الخروج على نظام ربط العملات بالدولار وتحرير أسعار صرفها! وهذا المذهب النقدي مأخوذ به منذ انقضى عهد ربط العملات بالذهب، بل ومن قبله إبان إقدام الولاياتالمتحدة الأميركية على خفض سعر صرف عملاتها في أوائل السبعينات! النفط السلعة الرئيسة التي تصدرها دول المجلس، ويضخ المال في عروق موازناتها بنسب تتراوح بين 75 و90 في المئة، هو العمود الفقري للاقتصاد، والنفط يسعر بالدولار، ولا خلاف ان تسعيره بالدولار أضر بعائدات هذه الدول، ودول"أوبك"الأخرى المصدرة للنفط! وإذا أخذنا عام 1986 مقياساً، نجد ان الدولار تدنى أمام الين بحوالى 63 في المئة، وأمام الجنيه الاسترليني ب 58 في المئة، بينما خسر اليورو امام الدولار حوالى 30 في المئة! لذا، فإن النفط عندما بلغ سعره التاريخي 70 دولاراً، لم تتجاوز قيمته في الحقيقية سعره في عام 1979، وعندما كان سعره يدور بين 18 و21 دولاراً في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، من"قرن النفط"المنصرم، كان سعره في الحقيقة لا يزيد على أربعة دولارات، قياساً بسعر الدولار عام 1974. ولا يبدو ان أميركا تولي علاج انخفاض سعر عملتها أمام العملات الرئيسية اهتماماً، فوضع الدولار الحالي المتدني يصب في مصلحة الخزانة الأميركية والاقتصاد الأميركي، على رغم رفعها الفائدة الى 4 في المئة، فانخفاض سعر صرف الدولار يدعم صادراتها، ويحد من عجز ميزاني التجارة والمدفوعات، بل ومن عجز الموازنة الذي بلغ أكثر من 400 بليون دولار، بهذا، فإن ربط عملات دول الخليج والدول الأخرى بدولار اميركا له مردوده الايجابي، ليس فقط بتسعير النفط بالدولار، وانما يتعداه الى فتح الطريق أمام تسويق المنتجات والخدمات الأميركية في هذه الدول. وهكذا، فإن العالم يجد نفسه يتعامل بدولار ضعيف، يقوّم بأكثر من قيمته، تفرضه ظروف سياسية واقتصادية! على رغم انه قد يكون سبباً في تعثر النظام النقدي الدولي، الذي يسيره صندوق النقد الدولي، ونتذكر هنا التجربة الفرنسية بين الحربين العالميتين، عندما حددت فرنسا صرف الفرنك الفرنسي بأكبر من قيمته، فتسبب ذلك في خلق اضطرابات نقدية في علاقات فرنسا التجارية مع شركائها، فكان عاملاً مساعداً في سقوط نظام قاعدة الذهب. هل سيحدث هذا مع الدولار؟ أميركا اتخذت قرار خفض عملتها في أوائل السبعينات، ورفعت الفائدة في الثمانينات لتتخطى20 في المئة، وصعد الدولار صاروخياً، ليعود فينحدر بعد التخلي عن أسعار الفائدة، وليستمر ضعيفاً! ومع هذا يبقى الدولار صاحب التاريخ العريق، العملة"الذهبية"حتى في أدغال آسيا وأفريقيا، ولا يتوقع ان يتسبب ضعفه في سقوط النظام النقدي الدولي برمته، على رغم الصعوبات التي يواجهها اكبر اقتصاد في العالم، ويبقى الدولار الأفضل لدول المجلس، على الأقل حتى زفاف الوحدة النقدية، على رغم الخسائر التي تواجهها دول المجلس بربط عملاتها وتسعير نفوطها به. لكن على الجانب الآخر، هناك مخاطر محسوبة عند التوجه نحو اليورو او سلة عملات، فالقرار سواء أكان سياسياً او اقتصادياً، ليس بعيداً عن المخاطر، فالعملات شأنها شأن السلع الأخرى، قابلة للتغيير طبقاً للعرض والطلب، التي تحكمها قوى السوق والظروف والمتغيرات الدولية. وإذا كان المجلس بعد هذا العمر الطويل، منذ بزوغ فجره في أوائل الثمانينات، عقد العزم فعلاً على عملة واحدة، فإن الكل - دولاً ومواطنين - سيستفيدون من ايجابياتها، لأنها بشكل أو بآخر تدعم الاقتصاد والسوق المشتركة للمجلس، وتحد من مخاطر تذبذب أسعار صرف العملة، وتدعم شفافيتها وخفض سعرها أمام العملات الرئيسية، ناهيك عن السيطرة على التضخم. وعلى الجانب الآخر، فإن الدول التي تطمع في جني ثمار العملة الموحدة، لابد لها من الاستعداد لتقديم تضحيات سياسية قد تكون موجعة، فعليها أن تتنازل عن صلاحيات بنوكها المركزية لتأسيس مصرف مركزي، يفترض أن يكون مستقلاً في ممارسة اختصاصاته، يتولى وضع سياسات نقدية موحدة لدول المجلس، تتلاءم مع الظروف النقدية والمالية والاقتصادية والإقليمية والدولية، ومن هنا، فإن الدول أعضاء الوحدة النقدية يقع على عاتقها إحداث تغييرات في مسيرة اقتصادها وسياساتها النقدية والمالية، يترتب عليها فقدها لسيادتها في رسم سياسة تحديد أسعار صرف عملتها، وسياسة الاقتراض، ونسب الفوائد والدّيْن والتضخم، وعجز الموازنات بالنسبة إلى الناتج الإجمالي المحلي. هذا لأن العملة الواحدة، وكما هو مطبق مثلاً في"منطقة"اليورو، تحتم ان تكون نسب العجز في الموازنات والتضخم وحجم الدين العام... الخ، مقارنة مع الناتج المحلي الإجمالي، متماثلة ضمن خطط نقدية وهياكل اقتصادية متطورة واضحة، ولعل دول المجلس تستفيد من دروس الاتحاد الأوروبي وخبراته في ميدان العملة الواحدة، وإشراك الخبراء والمتخصصين وبيوت الخبرة، وحتى المواطنين، لتتحقق القناعة بالعملة قبل الاحتفال بتدشينها! * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة.