تحولت الأمسية التي نظمها نادي الرياض الأدبي للشاعر البحريني قاسم حداد مساء الأربعاء الماضي في العاصمة السعودية، حدثاً"تاريخياً"وليس شعرياً وثقافياً فحسب. أمور عدة رسختها حدثاً لن ينسى بسهولة، أولاً: إنها جاءت تدشيناً للموسم الثقافي الجديد لنادي الرياض، فكان توقيتها مناسباً بعد غياب امتد أشهر، عن تنظيم الأنشطة الأدبية، التي لم يشجع معظمها مثقفي مدينة الرياض على الحضور، وهم طالما نادوا بأنشطة جديدة شكلاً ومحتوى، تلائم المرحلة، التي يصفونها بال"الجديدة"والتي تبشر بانفتاح أكبر على ثقافة جادة ومتنوعة". ثانياً: الحضور الكبير الذي لم يشهد النادي مثيلاً له منذ سنوات طويلة. الأمر الثالث والأهم: للمرة الأولى في تاريخ نادي الرياض الأدبي، أحد أبرز الأندية الأدبية في السعودية، يشترك الرجال والنساء معاً في حضور نشاط أدبي تحت سقف واحد. إذاً كانت الأمسية فريدة و"تاريخية"لهذا السبب تحديداً، إذ لم يسبق للمثقفات في الرياض أن حظين بفرصة حضور أي من النشاطات التي يقيمها نادي العاصمة، على رغم وجود لجنة نسائية، شكلها النادي قبل نحو سنة، وتترأسها الأديبة والأكاديمية سعاد المانع، وتضم أسماء أدبية نسائية مهمة، مثل الشاعرة فوزية أبو خالد والروائية أميمة الخميس والكاتبة أميرة الزهراني وسواهن. إلا أن هذه اللجنة لم تنجح في جعل نشاطات النادي متاحة للجميع رجالاً ونساء، وظلت تقيم أمسياتها للنساء فقط، الاثنين من كل أسبوع. سبب آخر جعل من أمسية قاسم حداد متميزة على المستويات كافة، ما يحظى به شخصياً من مكانة بارزة، باعتباره أحد رموز الشعر الحديث في الخليج، وما تلقاه تجربته من اهتمام ومتابعة، بصفتها تعكس ما وصلت إليه القصيدة في هذه المنطقة من تطور كبير ونضج لافت. طوال المدة التي تولى فيها مجلس الإدارة الجديد المسؤولية داخل نادي الرياض، لم يكن هناك حدث ثقافي في هذا الحجم، سوى أمسية الشاعر الكبير محمد العلي قبل سنتين، واعتبرها البعض تدشيناً لمرحلة ثقافية جديدة على مستوى السعودية وليس"أدبي الرياض"فقط، مرحلة تتسم بالجرأة وبمشاركة من المثقفين على اختلاف أطيافهم، ومع ذلك كان الحضور في تلك الأمسية أقل، ولم يشمل النساء. حاول النادي، خلال المدة الزمنية المنصرمة، إقامة نشاطات، وسعى إلى أن تكون مختلفة، مثل النشاط الذي أراده تأبينا للشاعر العراقي الراحل سركون بولص، غير أنه لم يحظ بالحضور الذي تطلع إليه المنظمون، حتى من الشعراء الجدد، الذين لم يخفوا تأثرهم بتجربة صاحب"الحياة قرب الأكروبول". في"ليلة قاسم"، التي أدارها نائب رئيس النادي الشاعر عبدالله الوشمي، قرأ الشاعر البحريني قصائد متنوعة، تجلت فيها هواجس قاسم حداد وشواغله حول الحب والأسطورة والرمز، في تواشج بديع. بضع قصائد كانت جديدة وأخرى ضمتها دواوينه السابقة، مثل"قلب الحب"و"مجنون ليلى"و"أيقظتني الساحرة"و"له حصة في الولع"وسواها من مجموعات شعرية لم ينسها جمهور الشعر، الذي جاء للإصغاء إلى واحد من شعرائه المفضلين. قرأ الشاعر نصوصه بهدوء وسلاسة، كمن تمرس طويلاً في إلقاء الشعر في حضرة جمهور كبير، كان متجلياً على الأرجح، وبدا منطلقاً وهو يلبي رغبات الحضور، الذين طلبوا سماع قصائد بعينها، بخاصة من القاعة النسائية، التي أطلت منها أصوات مبدعات وكاتبات معروفات، من خلال ما يكتبنه في الصحافة الثقافية أو أعمال مطبوعة، يعلقن ويسألن، مثل الشاعرة هدى الدغفق والقاصة ليلى الأحيدب والكاتبة خلود الحارثي وسواهن. وبدا قاسم حداد حريصاً على ترك انطباع آسر لدى الحضور، حتى عندما بدأت التعليقات، التي لم تخلُ من أراء ووجهات نظر"متطرفة"، في ما يخص تعريف الشعر، والموقف من قصيدتي التفعيلة والنثر. ظل الشاعر بشوشاً وجاءت ردوده هادئة تلتمس من بعض المتعصبين للقصيدة العمودية، تفهم الاحتياج إلى أشكال شعرية جديدة، واستيعاب التطورات التي يدخلها الشعراء الجدد على اللغة العربية. ولعل ما ميز الجمهور شريحة جديدة من وجوه ليست معروفة، ولم يعتد النادي حضورها من قبل، لم تكتف بالإصغاء إلى قصائد قاسم حداد، إنما سعت إلى التقاط صور تذكارية معه. ووفرت الأمسية من ناحية أخرى، هامشا للنقاش بين بعض الشعراء الشبان، الذين يمثلون جيلاً جديداً، ظهر بعد الأسماء التي تمثل الجيل التسعيني وأصبحت معروفة في المشهد الأدبي السعودي، نقاشاً دار حول الشعر في الخليج وأبرز رموزه. وأبدى البعض قلقه من أن يكون الجيل، الذي يمثله قاسم حداد لم يعد لديه جديد يقدمه، وأن شعراء هذا الجيل أكتفوا بالتنويع على تجاربهم السابقة، الأكثر سطوعاً. أسماء خليجية أخرى ورد ذكرها في هذا النقاش، مثل سيف الرحبي وزاهر الغافري. ومما قال قاسم حداد في رده على أسئلة الحضور، ورأى فيه البعض اعترافا ندر أن أدلى به شاعر كبير، إنه يستفيد من الأجيال الجديدة، وكذّب المقولة التي فحواها"الذي أكبر منك بيوم أفهم منك بسنة". وأشار الى أن أولاده يساهمون في تربية حساسيته ويطورون ذائقته، وأن الجيل الجديد يعرف أكثر من الجيل الذي سبقه. كانت"ليلة قاسم"استثنائية حقاً، بالشاعرية الفريدة التي عبرت عنها النصوص، وبالحضور النسائي وأصوات المثقفات اللواتي امتلأن غبطة، وكأنهن حققن أخيراً حلماً ظل طويلاً بعيد المنال، بالنقاش الحر، وبالأسماء التي ظن البعض أنها أضحت تاريخاً، فإذا بها تعود إلى المشهد الثقافي من جديد. وفي مثل هذا الجو، الذي يشجع على الخروج في كل أشكاله، لم يستغرب البعض عندما صعد أحد الحاضرين المنصة، لا ليسأل الشاعر قاسم حداد أو يبدي تعليقاً حول شعره، بل ليقدم تحية إلى الرئيس الفنزويلي شافيز، الذي قدم إلى السعودية قبل نحو أسبوعين، مشاركاً في قمة"أوبك"مع زعماء الدول المصدرة للنفط، ويثني على"التزامه النهج الاشتراكي العلمي"، هكذا قال، ومعتبراً مجيئه صاحب"عزلة الملكات"في مدة زمنية وجيزة، أمراً يبعث على التفاؤل بالمستقبل. ولم يعلق الشاعر البحريني، غير أنه بالتأكيد كان مسروراً، لأن"ليلته"تحولت علامة فارقة في تاريخ الثقافة السعودية.