أن يكون الإنسان مسالماً ومعادياً للحروب وسفك الدماء، ويحاول قصارى جهده تجنيب شعبه المزيد من الدمار والكوارث والويلات، وأن يكون نصيراً فاعلاً لقضايا قومه ووطنه…، فهذه من أخلاقيات وضرورات الوعي والفعل الثقافيين. لكن، أن ينادي بالمبادئ السالفة الذكر، وفي وعيه شحنة لامتناهية من الأحقاد على إحدى أهم تجارب شعبه النضالية، فحينئذ يمكن أن نضع وعيه ومسلكه في حيّز يتعدّى المساءلة. فحين يطغى الحقد على الرأي، يصبح التعبير عن الرأي تعبيراً عن الحقد. والحال هنا، أن صاحب الرأي قد يلجأ إلى ما طالت يمناه ويسراه من أصول وفنون الفبركة والتلفيق، بغية إقناع الناس بصدقية أو شرعية أو صواب آرائه التي هي، في الوقت عينه،"أحقاده"!. تحت عنوان:"حزب العمال الكرستاني: ثوار من دون قضية"، أعاد الكاتب الكردي السوري نزار آغري، تفريغ جزءٍ مما يكنُّه من بغيض الأحقاد على حزب العمال الكردستاني، ضمن مقال كتبه في جريدة "الحياة" يوم 30/10/2007، معاوداً إتباع ما اعتدنا عليه منه، من بدائع التلفيق، مقتبساً تساؤلاً طرحه مُعِدّ ومقدِّم برنامج"أكثر من رأي"على قناة الجزيرة، على أحد ضيوفه، حيث ذكر المُعِدُّ حرفيَّاً:"يبدو وكأن حزب العمال، حزب من دون قضية؟"، ليكون العتبة الرئيسة لمقاله المشار إليه أعلاه، ودون أن يشير آغري إلى ذلك، ظنَّاً منه أن أحداً من الأكراد أو العرب… لم يتابع ذلك البرنامج!. ورغم الثقة بأن ما طرحه آغري، لن يمسَّ وعي المتتبِّع للشأن الكردي بالتشويش، إلا أنني ارتأيت أن من الأهمية بمكان وضع القارئ العزيز في صورة ما يلي: يقول آغري:"أعادت الصدامات الدموية الأخيرة التي أوقعت عشرات القتلى في صفوف الجنود والمدنيين الأتراك هذا الحزب إلى الواجهة هو الذي كان انسحب من المشهد في أثر اعتقال زعيمه عبدالله أوجلان عام 1999". والحقيقة، أن الكردستاني لم ينسحب من الواجهة طيلة هذه الفترة، كما زعم الكتاب، لكنه كان قد جمَّد العمل المسلح منذ مطلع عام 2000، مفسحاً المجال للحلول السلمية. وقد قدَّم تنازلات عديدة في هذا المسعى، دون أن يتلقى ردَّاً إيجابياً من الأتراك، ما دفعه إلى معاودة العمل المسلح. وإلا، هل يودُّ آغري من الكردستاني الاستمرار في الهدنة إلى ما لا نهاية، وهو كان يعيب على الكردستاني وقفه لإطلاق النار وقتها، مثلما يعيب عليه معاودة النشاط المسلح حالياً!. يقول كاتبنا:"عندما تأسس حزب العمال الكردستاني، في بداية الثمانينات من القرن الماضي، رفع شعار استقلال كردستان ... هذا الأمر كلف الأكراد في جنوب شرقي تركيا أكثر من ثلاثين ألف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى وتدمير ما يقارب أربعين ألف قرية وتشريد مليوني شخص...". وأولاً، حزب العمال لم يتأسس في"مطلع الثمانينات"، بل في تشرين الثاني نوفمبر 1978. وأين هذا التاريخ مما ذكره آغري؟ ثم ان هذه المعلومة معروفة وليست من خفايا الأمور الصعبة على أي كاتب أو صحافي مهتمّ بالشؤون الكردية!؟. ثانياً، إذا كان عدد القرى الكردية المدمَّرة 40 الفاً، وإذا كان معدل قاطني كل قرية 100 شخص، فهذا يعني أن عدد المشرَّدين أربعة ملايين، وهذا ضعف ما ذكره آغري، فقد حاول الكاتب زيادة حجم الدمار، عبر ذكر عشرة أضعاف ذلك، وهو أن العدد التقريبي للقرى المدمَّرة 4 آلاف، في حين نسي أن يزيد عدد المشرَّدين، كي تكون كلفة الحرب على الكردستاني أثقل!؟. ثالثاً، ان الجيش التركي هو المسؤول عن كلفة الحرب التي خاضها الكردستاني ضد تركيا، وإلا بات ينبغي علينا أن نطالب منظمة التحرير الفلسطينية بكلفة صراعها مع إسرائيل!، ونطالب الأحزاب الكردية في كردستان العراق بكلفة حربها على النظام العراقي السابق، والتي بلغت فقط منذ 1988 حوالى 182 ألف قتيل ومفقود، وإزالة 4500 قرية عن بكرة أبيها، نتيجة حملات الأنفال. هذا، عدا حجم الخسائر المادية والبشرية نتيجة الصراع الكردي مع الحكومات العراقية منذ ثورة إيلول سبتمبر 1961!. حينئذ، سنحمِّل الفلسطينيين وأكراد العراق مسؤولية صراعهم مع إسرائيل والنظام العراقي السابق، كما يودُّ آغري تحميل الكردستاني كلفة حرب الجيش التركي على أكراد تركيا!. يقول آغري:"أول زيارة قام بها عبدالله غل بعد انتخابه رئيساً للجمهورية التركية كانت إلى المناطق الكردية... وفي الانتخابات البلدية الأخيرة نال الحزب غالبية الأصوات الكردية...". أولاً، الانتخابات التي تحدث عنها آغري لم تكن"انتخابات بلدية"، بل كانت برلمانية. يمكن اعتبار هذا الخطأ سهواً، نتيجة العجالة التي انجرف إليها آغري في مسعاه لفبركة"حقائق"مختلقة، بغية تشويه الكردستاني!. فالانتخابات البلدية الماضية فاز فيها أصدقاء ومؤيدو العمال الكردستاني، رغم مضايقات الجيش، وتواطؤات العدالة والتنمية، ب56 بلدية، على رأسها بلدية ديار بكر عاصمة كردستان تركيا. أمَّا السعي المحموم من قبل آغري، ومن على شاكلته، لإظهار العدالة والتنمية بأنها القوة الضاربة بين الجماهير الكردية في تركيا، وأن الكردستاني فقد شعبيته، فزيارة عبد الله غُل للمناطق الكردية، وقد اكتفى بزيارة ثكنات العسكر، وتناول طعام الإفطار مع الجنود المرابطين على حدود كردستان العراق، تبقى ذات دلالات. فتلك الزيارة التي كان من المفترض أن تنتهي بإلقاء غُل لخطاب أمام الجماهير الكردية في دياربكر، ألغي خطابها لأن عدد الناس الموجودين في الساحة لم يتعدَّ ال400 شخص. وقد قاطع أهالي ديار بكر زيارة غُل تلبية لنداء الكردستاني، الذي لم يمانع في أن تزوره منظمات المجتمع المدني وأعضاء الكتلة النيابية في البرلمان التركي، وتقديم مذكرات له، وتلك المنظمات المدنية والشخصيات البرلمانية تنوعيات وتعبيرات على هامش الفعل السياسي للكردستاني في تركيا. وهذا ما يحاول آغري وغيره التعامي عنه وتجاهله، دون جدوى!. يقول آغري:"ويبدو أن حكومة إقليم كردستان العراق وقعت في الفخ الذي نصبه الحزب لها ... سيجد مقاتلو الحزب العمالي أماكن يختبئون فيها، أما كردستان العراق فستبقى في العراء وتتعرض إلى الهلاك. سيكون ثمن انتصار الحزب باهظاً لأكراد العراق: ضرب المطارات في أربيل والسليمانية، تخريب المنشآت الاقتصادية، تعطيل شبكات الماء والكهرباء، ضرب المؤسسات الحكومية بما في ذلك الرئاسة والبرلمان والوزارات، قصف البيوت والفنادق والطرق، إغلاق الحدود وفرض حصار إقتصادي ... ليست هناك حاجة لحكومة إقليم كردستان للقيام بمغامرات عبثية كهذه. والناس في كردستان العراق لا يحتاجون الى العودة إلى مرارات الرعب من المدافع والطائرات والقتل والدمار". ويبدو أن كاتبنا العزيز في واد، والالتفاف الجماهيري العارم في كردستان العراق حول مواقف حكومة وبرلمان ورئيس الإقليم مسعود بارزاني، الرافضة للتهديدات التركية، ولتسليم أي عضو من الكردستاني لتركيا، والداعية للمقاومة، في واد آخر!؟. والحقُّ إن كردستان العراق، بقادتها وأحزابها وإعلامييها ومثقفيها ومنظماتها، لم تكن بحاجة إلا لجهبذ وطني كردي، من وزن نزار آغري، حتى يضعهم على جادة الصواب، ويحذِّرهم من فداحة ومخاطر التورط في"اللعبة الخاسرة"، وينقذهم من الانزلاق نحو الفخاخ التي نصبها لهم حزب العمال!؟. وعين العقل لدى آغري: أن يحمل أكراد العراق السلاح في وجه الكردستاني مجدداً، ويمتثلوا للتهديدات التركية!؟. هذا هو قوام وفحوى"المشورة الحسنة"التي أبداها كاتبنا الذي لا يستطيع الفكاك عن حقده حيال التعاطي مع ثوار أكراد، تعاطف الأتراك والعرب والفرس والسريان والأوروبيون مع... قضيتهم العادلة، لحدِّ حمل السلاح معهم، في حين يستميت آغري الكردي في التشهير بهم وتشويههم!. * كاتب وإعلامي كردي مقيم في ألمانيا.