اتجهت الأنظار في الأيام الأخيرة صوب الجبال الوعرة على الحدود بين تركياوالعراق، هناك حيث تقوم"تورا بورا"كردستان: جبال قنديل التي يستقر فيها قياديو ومقاتلو حزب العمال الكردستاني التركي، وتتهمهم الحكومة التركية بالانطلاق من هناك لشن عمليات عسكرية ضدها. أعادت الصدامات الدموية الأخيرة التي أوقعت عشرات القتلى في صفوف الجنود والمدنيين الأتراك هذا الحزب إلى الواجهة هو الذي كان انسحب من المشهد في أثر اعتقال زعيمه عبدالله أوجلان عام 1999. منذ ذلك التاريخ، وباستثناء مناوشات عابرة هنا وهناك، ساد الهدوء في تلك المناطق التي بقيت مسرحاً للعنف بين الجيش التركي وعناصر الحزب طوال عقدين من الزمن. عندما تأسس حزب العمال الكردستاني، في بداية الثمانينات من القرن الماضي، رفع شعار استقلال كردستان ورمى التنظيمات الكردية الأخرى بالخيانة والانتهازية والرجعية وراح يخوض حرباً ضارية ضد الحكومات التركية المتعاقبة. هذا الأمر كلف الأكراد في جنوب شرقي تركيا أكثر من ثلاثين ألف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى وتدمير ما يقارب أربعين ألف قرية وتشريد مليوني شخص من مناطق سكنهم واضطرارهم الى الرحيل إلى أطراف المدن التركية للسكن في بيوت الصفيح. بعد اعتقال أوجلان تبدلت الأشياء. تقلصت مطالب الحزب وتفرغ كوادره ومقاتلوه للجلوس في كهوف جبال قنديل لتلقي رسائل زعيمهم التي ينقلها محاموه من سجنه بجزيرة إيمرالي التركية. في رسائله من السجن تأكيد على النهج الجديد للحزب: احترام وحدة تركيا أرضاً وشعباً واعتبار الكمالية النهج المثالي لحل المسألة الكردية في تركيا. في آخر رسائله يقول أوجلان:"هل يمكن إحياء مصطفى كمال من جديد؟ نعم يمكن ذلك. مصطفى كمال هو تحرري في الجوهر. كان تحررياً ضد الدول الإمبريالية كما أنه كان جمهورياً في الوقت نفسه، أي أنه تحرري جمهوري، إن الشخص الذي عرف المصلحة التركية والكردية في شكل جيد ووقف مع حريتهم هو مصطفى كمال". في هذه الأثناء وصل حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى الحكم رغماً عن الكماليين والعسكر في تركيا. واتبع الثنائي رجب طيب أردوغان وعبدالله غل مقاربة جديدة للشأن الكردي تجسد في الانفتاح والسماح باستخدام اللغة الكردية في الاذاعات والصحف والشروع في تطوير المناطق الكردية النائية. وأول زيارة قام بها عبدالله غل بعد انتخابه رئيساً للجمهورية التركية كانت إلى المناطق الكردية. أخذ حزب العدالة والتنمية يكسب تعاطف السكان الأكراد في شكل متزايد. وفي الانتخابات البلدية الأخيرة نال الحزب غالبية الأصوات الكردية حتى في المدن التي كانت تعتبر معقل المتعاطفين مع حزب العمال الكردستاني. وبموازاة ذلك كان الحزب العمالي يفقد رصيده في صفوف الأكراد وأخذت تظهر تشكيلات جديدة تمثل اتجاهات مغايرة في الوسط الكردي. لقد تم السير على طريق المسألة الكردية في شكل تدرجي وسلمي. يبدو أن هذا لم يرق لحزب العمال الكردستاني. من هذه الأرضية انبثقت المواجهات الدموية الأخيرة. بدا الأمر وكأن الحزب ينهض ليقول: أنا أقتل إذاً أنا موجود. وكان هذا بمثابة هدية من السماء للجيش التركي الذي يسعى إلى وضع العصي في دولاب حكومة أردوغان. كانت المؤسسة العسكرية تضغط على الحكومة من أجل القيام باجتياح عسكري لمنطقة كردستان العراق بحجة ضرب مواقع حزب العمال الكردستاني. وها قد جاءت الذريعة على طبق من ذهب. وفي الوقت الذي يظهر هذا التصرف المفاجئ والمثير من جانب حزب العمال ضرباً من العدمية والتدمير الذاتي إذ يبدو وكأنه يقول للجيش التركي: تعال واضربني فإنه يبغي توريط أكثر من جهة. كل ذلك من أجل إثبات الذات طالما أنه لم تعد للحزب أهداف قومية كردستانية أو وطنية تركية. رئيس الحزب يقول في رسالته:"منذ فترة طويلة وأنا أقول بأن الدولة القومية لن تكون حلاً، في الطرح الذي قدمته مسبقاً كحل لمشاكل الشرق الأوسط هناك"الشرق الأوسط الديموقراطي"و" تركيا الديموقراطية". أرى أن من الأفضل حل القضية الكردية ضمن الحدود المرسومة للدول الحالية بالسبل الديموقراطية". والسعي الى مثل هذا الأمر متوافر، كما هو معلوم، داخل البرلمان التركي حيث ينشط عشرون نائباً من حزب المجتمع الديموقراطي الكردي، وهو قريب الصلة بحزب العمال الكردستاني. الأعداد الكبيرة للقتلى من الجنود الأتراك يراكم ضغطاً في الرأي العام التركي ويسبب احتقاناً لا بد أن ينفجر في وجه الجميع. سيقع الانفجار، بالطبع، في إقليم كردستان العراق: المنطقة التي تعتبرها الولاياتالمتحدة والقوى الحليفة لها نموذجاً لنجاح المسعى الأميركي في العراق. عمليات حزب العمال تؤدي، في المقام الأول، إلى إلحاق الأذى بتجربة حكومة إقليم كردستان العراق. فهي تضع تلك الحكومة في مرمى النيران باعتبار أن الحزب يقيم قواعده في مناطقها. غير أن حكومة إقليم كردستان لا تتمتع بأي قيمة في نظر الحزب. بل إن عبدالله أوجلان يعتبرها شوكة في خاصرة الحكومة التركية. هو يخاطب أركان الحكومة والجيش في تركيا على هذا النحو:"أقول علانية، أنتم من أنجبتم شمال العراق، كنتم القابلة في ولادتها، لم تكونوا تتوقعون أن البرزاني سيطلب أموراً أخرى. هل رأيتم، بعد أن حصل البرزاني على القوة فإنه يسعى الى مد يده إلى كل مكان. بالطبع، سيطالب البرزاني بديار بكر وسيطالب بأماكن أخرى أيضاً. سيفرض البرزاني دولة قومية لأنه يملك داعمين ويملك جيشاً، وواضح أن أميركا وإسرائيل تدعمانه في شكل كبير. إن سياساتكم هي السبب في الوصول إلى هذه الحال، أنتم من قمتم بدعم ومساندة شمال العراق. استخدمتم قوى شمال العراق مراراً وتكراراً ضدنا، وقد أفلست هذه السياسة لذلك تلقون باللوم عليّ، لو كان هناك مذنب فهو أنتم بالذات. إن الدولة الكردية في شمال العراق مدعومة من أميركا وإسرائيل، ستكون هذه الدولة في الشرق الأوسط إحدى الدول التي يمكنها التحالف مع إسرائيل. ومع ذلك لا يزال هناك من يتهمني أنا بالانفصالية، والحقيقة أن كل من جهودي منصبة في خدمة تطوير حل ديموقراطي يحافظ على وحدة تركيا، دون المساس بالحدود الحالية. إن كل المؤسسات، بما فيها هيئة الأركان نفسها، تعبِّر عن رفضها لدولة قومية في شمال العراق، إلا أنهم هم من صنعوا هذه الدولة، هم أنفسهم يقولون إن هذه الدولة تأسست نتيجة تقديمهم الدعم المباشر للطالباني والبارزاني". على رغم ذلك يتحدث حزب العمال عن المقاومة والنضال وپ"الجهاد"ليفرض نفسه على أجندة الأطراف الإقليمية كورقة صعبة يمكن اللجوء إليها في المساومات وعمليات المقايضة. ويبدو أن حكومة إقليم كردستان العراق وقعت في الفخ الذي نصبه الحزب لها. فهي ترغب، على ما يبدو، في الإفادة من قوة شكيمة هذا الحزب والرهان على العنف الذي يختزنه وذلك كوسيلة لجر الحكومة التركية إلى حوار في شأن قضايا شائكة من قبيل مسألة كركوك. غير أن لعبة كهذه، مع طرف قوي مثل تركيا، تنطوي على مخاطر. وسبق للحكومة السورية، في عهد الرئيس الراحل حافط الأسد، أن جرّبت هذه اللعبة، لتحصل على تنازلات من تركيا، ولكنها سرعان ما تخلت عنها حين انتهى وقت اللعب وحانت ساعة الجد. من السهل الاستسلام للنزعة الشعبوية والتحريض المجاني والهتافات العنترية والخطابات النارية. هناك من يصفّق ويهدد تركيا بالويل والخسران. وقد تخسر تركيا الكثير غير أن أي خسارة تمنى بها لن تكون شيئاً ذا بال مقارنة بخسارة الأكراد في إقليمهم الطالع تواً من تحت غبار الحروب المديدة. سيكون من المستحيل، بالطبع، القضاء على مقاتلي حزب العمال الكردستاني. وسيخرج هؤلاء من المواجهة وهم يحتفلون بالنصر. سيكون نصراً على طريقة"حزب الله"اللبناني: بقاء"حزب الله"ودمار لبنان. مقاتلون في العراء سيجد مقاتلو الحزب العمالي أماكن يختبئون فيها، أما كردستان العراق فستبقى في العراء وتتعرض إلى الهلاك. سيكون ثمن انتصار الحزب باهظاً لأكراد العراق: ضرب المطارات في أربيل والسليمانية، تخريب المنشآت الاقتصادية، تعطيل شبكات الماء والكهرباء، ضرب المؤسسات الحكومية بما في ذلك الرئاسة والبرلمان والوزارات، قصف البيوت والفنادق والطرق، إغلاق الحدود وفرض حصار إقتصادي وتشارك في ذلك سورية وإيران، اللتان تدعمان تركيا في معاداة التجربة الكردية. ليست هناك حاجة لحكومة إقليم كردستان للقيام بمغامرات عبثية كهذه. والناس في كردستان العراق لا يحتاجون الى العودة إلى مرارات الرعب من المدافع والطائرات والقتل والدمار. هناك حاجة إلى المزيد من الاستقرار والأمان من أجل التفرغ للبناء والعمران والنهوض الاقتصادي والاجتماعي. ثمة حاجة الى أن يكون إقليم كردستان واحة للاطمئنان والاستقرار وأمن الجيران لا بؤرة للكراهية وتصدير القتل والاحتقان. يسخر أوجلان من حكومة كردستان العراق المدعومة"من أميركا وإسرائيل". وهو في الوقت نفسه يرفض السعي إلى إقامة دولة كردية في تركيا. يقول عبدالله أوجلان:"إن ما نرتأيه لأجل الحل هو الآتي: حصول الكرد على حقوقهم الثقافية في كل دولة يعيشون فيها من دون المساس بحدود تلك الدولة وبالشكل الذي يعزز الوحدة الوطنية. يجب أن يتمكنوا من التعبير عن أنفسهم بواسطة ثقافتهم ولغتهم. كما يجب إزالة المعوقات التي تسد طريق تنظيمهم سياسياً. هذا ليس موديلاً ارتأيته لأجل الكرد وحدهم، بل ويمكن تطبيقه في كل الشرق الأوسط والبلقان". مع ذلك فإن مقاتلي حزب العمال ما زالوا يرون في أنفسهم"طليعة لحركة التحرر القومي الكردستاني". إنهم ثوار من دون قضية. هم يضربون ويقتلون لأن ذلك هو الشيء الوحيد الذي يتقنونه.