تبدو الوزيرة كوندوليزا رايس، كمن يفسر الماء بالماء حين "تكتشف" ان المتطرفين في المنطقة يستغلون الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. ولعلها لم تكتشف بعد ان إدارة الرئيس جورج بوش التي غرقت في فيتنامالعراق، كان في إمكانها تسجيل أكثر من فوز في بلاد الرافدين، لو لم تضيّع فرصة نادرة بتجاهلها حقوق الفلسطينيين ومعاناتهم تحت الاحتلال الإسرائيلي، لدى إطاحتها نظام صدام حسين. وفي تبريره التحول الأميركي بعد مسلسل الإخفاقات في العراق، وصحوة بوش لتحريك المسار الفلسطيني التفاوضي تحت مظلة اجتماع انابوليس الذي سيفتتحه غداً، مذكراً برؤيته لحل الدولتين، قد لا يخطئ السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل مارتن انديك باستنتاج رغبة عربية في"احتواء"المد الإيراني في المنطقة، تستفيد منها ادارة بوش لإطلاق عملية سلام فلسطينية - إسرائيلية، من شأنها المساهمة في تجفيف ينابيع التطرف. لكنه يخطئ بالتأكيد، أو يزرع مزيداً من بذور التوتر في المنطقة حين يحرّض على رؤية تطابق مصالح بين العرب والدولة العبرية في مواجهة النفوذ الإيراني... بل يبرر بالتالي للمتشددين حملتهم على انابوليس، اذ يرون الاجتماع إحدى أدوات الديبلوماسية الأميركية التي ستمهد لحلقة أخرى في استراتيجية بوش الجديدة، عنوانها الخيار العسكري لوقف البرنامج النووي الإيراني. لا يلغي ذلك حقائق بارزة، بينها حاجة بوش لإنجاح اجتماع انابوليس انقاذاً لسمعة إدارته الملطخة بمجازر العراق منذ الغزو، والسعي الى تحريك المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية قبل انتهاء ولايته، لئلا يكون الإنجاز الوحيد للرئيس الأميركي بدء تنفيذ خطط الانسحاب من العراق، والذي سيعني بمفرده بدء الانسحاب من المنطقة إذا فشل العراقيون في حماية وحدة بلدهم. وبين تلك الحقائق ايضاً، حاجة الدول العربية الى إنهاء معاناة الفلسطينيين التي ستتحول كارثة، إذا تحولت هجرتهم الى نزيف دائم، تحت سقف الحصار الإسرائيلي، وعلى حد سيف الاقتتال بين حركتي"فتح"و"حماس"الذي لا ضمان بمنع تجدده... لا ضمان، بمجرد ان تأتي الى ناره ريح إقليمية. وواضح من مسار التشرذم في بؤر الأزمات في المنطقة، ان ما تخشاه الدول العربية المؤثرة في النظام الإقليمي، هو تصفية القضية الفلسطينية إذا استمر تجاهلها، فيما اسرائيل مرتاحة الى تحويل الصراع معها نزاعاً بين سلطة فلسطينية عاجزة ومتشددين ينفخ في عضلاتهم"رواد"الممانعة في طهران، ممن يحلمون ب"شطب"إسرائيل، ولو بدم آخر فلسطيني في الضفة وغزة. وما يقلق تلك الدول العربية ايضاً ان تنسحب الحال الفلسطينية على طوق الأزمات الممتد من الصومال الى السودان، فيما العاصفة التي تشتد بسواعد التطرف لا تذر، وغير العرب وحدهم يكادون ان يتحولوا قوى للردع ما ان يشتد أوار صراع العشائر في المنطقة. إن الدافع الأساس وراء الإجماع العربي على حضور أنابوليس، هو إنقاذ قضية فلسطين من سرطان الاستيطان الإسرائيلي والتهويد، ومن قضم صراع"فتح"و"حماس"وطنية القضية وعروبتها. والجميع يدرك ان بديل الإنقاذ هو فلسطين مكررة على امتداد المنطقة، المهددة بنماذج عديدة من غزة، خصوصاً لأن الأصوليات لا تعترف بحدود أو جنسيات. ولم يكن شاذاً عن المألوف، شحذ سكاكين التخوين عشية أنابوليس، على رغم إجماع الرئيس محمود عباس وقادة الدول العربية المشاركة، على ان الحد الأدنى هو خريطة الطريق ومبادرة السلام العربية، وعلى رغم تشديد وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل على ان العرب لن يكونوا جزءاً من أي"عمل مسرحي"في الاجتماع الدولي. ما بين السطور، ووراء عبارة الوزير، شكوك في جدية الرعاية الأميركية لإطلاق عملية السلام مجدداً، بمفهومها الشامل، وتشكيك في احتمالات قبول إسرائيل ما لم تقبل به على مدى عقود. لكن انابوليس يبقى فرصة ومحاولة أخرى لا يمكن العرب رفضها مسبقاً، ومنح حكومة ايهود اولمرت ذريعة مجانية لتبرير مقولة"البحث عن شريك مؤهل"للتفاوض، بالتالي تمديد تجميد كل المسارات العربية سنوات طويلة. هي محاولة أخرى ليقول العرب ان قرارهم في يدهم، على رغم ضغوط الخارج. والسؤال هو هل يصعب تلمس تلك الضغوط في تشكيك رئيس المكتب السياسي لحركة"حماس"خالد مشعل، في امتلاك عباس"التفويض الوطني"قبل الذهاب الى انابوليس، فيما تلح طهران على رعاية مؤتمر"وطني"للفصائل الفلسطينية المعارضة للاجتماع الدولي؟ ايران مجدداً على خط الفصائل، أما في البحث عما اذا كان لها مكيال واحد، فيجدر تذكّر تحريضها على الدور الأميركي في لبنان، ثم تنبيه اللبنانيين الى"حرب اهلية وشيكة"، بعد تصنيفهم جميعاً في خندق إسقاط المشروع الأميركي في المنطقة... وكان ذلك بعد تهديد طهران لدول الخليج بعقاب لأي تدخل يساعد بوش، إذا قرر ضرب المنشآت النووية. فمَن يهدد مَن ويصادر قراره؟... ان سلاح التخوين قبل انابوليس وبعدها، أخطر أدوات التدخل الخارجي.