قد لا تكون رواية "الثلاثة" لماكسيم غوركي افضل روايات هذا الكاتب أو اشهرها. لكنها مع هذا تعتبر كبيرة الأهمية من الناحية التاريخية لمجرد انها اشبه بما تكون طلب انتساب الكاتب الى عالم الأدب البؤسوي. أي الأدب المتحدث عن الشعب البائس والمعدم، الذي"من اجله ستقوم الثورات"وفي سبيل"انتشاله من بؤسه"يجب على الكتّاب ان يكتبوا والفنانين ان يبدعوا والمناضلين ان يناضلوا. في بداياته، وكما يقول لنا غوركي في عدد لا بأس به من نصوصه، كان هو واحداً من اولئك المعدمين، لكنه وفق في حياته ككاتب بفضل وعي اكتسبه باكراً، خصوصاً في مجال وعيه بأحوال العالم والصراعات. حتى حين كتابة هذه الرواية، أي في السنة الثانية من القرن العشرين، كان غوركي على أي حال لا يزال يرى ان الصراع هو بين المستغلين فتح الغين والمستغلين بكسرها أو بين الفقراء والأغنياء، ولم يكن بعد قد وصل الى إدراك ما سيشكل لاحقاً عماد فكره ونضاله السياسي، حتى وإن لم يشكل دائماً عماد أدبه الإبداعي، رواية، قصة أو مسرحاً: أي ان الصراعات هي في نهاية الأمر صراعات طبقية،"يلعب الوعي الثوري لفئات عريضة من الناس حتى وإن كانوا من ابناء الطبقات الميسورة، دوراً أساسياً"كما سيقول جورج بليخانوف، وتحديداً في مقال له عن أدب ماكسيم غوركي. لم يدرك غوركي هذا، حتى وإن كانت سيرته ستقول انه، الى حد ما، ينطبق عليه. اما بالنسبة إلى رواية"الثلاثة"فإنها أتت قبل ثورة 1905 بثلاث سنوات، وقبل الثورة البولشفية بعقد ونصف العقد من السنين لترسم صورة بؤسوية لپ"الصراع"، صورة مستمدة من أوضاع الحثالات في روايات تشارلز ديكنز، أو الطبقات الدنيا لدى اميل زولا، أكثر مما هي مستمدة من مساهمات قادة الفكر الاشتراكي من الذين تتلمذ غوركي عليهم، نضالياً وسياسياً. من هنا كان من الطبيعي لغوركي حين اراد، في ذلك الوقت المبكر، أن يكتب رواية ثورية يعلن فيها انتماءه الى الحركة الثورية، ان يجعل من البائسين المهمشين، ابطالاً للرواية. والثلاثة المعنيون بعنوان الرواية، هم ثلاثة فتيان بائسون ايتام اعطاهم غوركي اسماء: باشكا، يعقوب وإيليا، معتبراً ان تقديم هذه النماذج من الناس يكفي لمساعدته، شخصياً وفكرياً، على البدء في دراسة الأوضاع الاجتماعية التي كانت بدأت تقلق الشعب الروسي كله. ومن هنا نواجه منذ بداية الرواية بهيمنة ذلك المناخ البائس الكئيب، الذي كان وسيظل المناخ الأكثر هيمنة على أعمال غوركي ككل. فالناس، كل الناس، كما كان غوركي يراهن في ذلك الحين، يبدون دائماً سكارى، حزانى، فاقدي الأمل... وبالتالي دائماً يتخبطون امام استحالة إحداث أي تغيير الى الأفضل في حياتهم. إذاً، وسط هذا المناخ يعيش الفتيان الثلاثة، الذين يطلعنا غوركي في فصول روايته على الطريقة التي بها يجابهون اولى تجارب الحياة التي تعترضهم. ولم يكن من قبيل الصدفة في مثل هذا العمل ان يؤكد لنا غوركي منذ البداية ان الثلاثة، ايتام من ناحية الأم، وأبناء مجرمين من ناحية الأب. وهم، بالتالي بدأوا وجودهم في صورة مستقلة وكان عليهم ان يخوضوا هذا الوجود بشخصيات تكونت سلفاً، أخلاقياً، اجتماعياً وسيكولوجياً. أولى هذه الشخصيات الثلاث وأهمها بالنسبة الى غوركي والقارئ بالتالي هي شخصية ايليا، الذي نبدأ باكتشافه نزيهاً وشغّيلاً، لكننا سرعان ما نعرف انه مهووس بجريمة ارتكبها من دون إرادة منه إذ قتل مرابياً عجوزاً... وراحت منذ ذلك الحين تطارده فكرة انه إنما ارتكب جريمة لا تغتفر، ما يدفعه ذات يوم الى الاعتراف علناً بجريمته... وهو ما ان يفعل هذا حتى يدرك انه لن يعود في إمكانه النفاذ من"العدالة"إلا بأن يعاقب نفسه بنفسه فلا يكون منه إلا ان ينتحر، بأن يخبط رأسه على جدار حتى يسلم الروح وقد تهشم رأسه. في المقابل لدينا الشخصية الثانية: شخصية باشكا، الذي يطالعنا منذ البداية متأدباً محباً للشعر تواقاً الى شيء من الرومانسية والحب. لكنه اذ يبحث عن هذين لا يجدهما إلا لدى فتاة هوى. اما الشخصية الثالثة فشخصية يعقوب، الفتى اليهودي، الحالم وضعيف الشخصية، الذي لا يكف أبوه عن دفعه الى حياة سوء لا يرغبها هو لنفسه، منذ ان اكتشف توقاً داخلياً لديه يتجسد في مثال أعلى يقوم في الحج الى"الديار المقدسة". ومن نافل القول هنا أن أي واحد من هؤلاء الفتيان الثلاثة لا يتمكن أبداً من تحقيق الحلم الذي بناه لنفسه ولحياته طوال وجوده. إذ ان كل واحد منهم تنتهي به الأمور الى ما يناقض تماماً، ما كان يتطلع إليه. في اختصار: يأتي واقع الحياة ليعاكس الحلم الذي كان في البداية خيّراً وصائباً. إنه الواقع في رعبه وإجرامه، ضد الحلم في بريقه. الواقع ضد المستحيل. ولكن هل يمكن لهذا المستحيل ان يبقى هكذا الى الأبد؟ هل هي الأقدار تتدخل دوماً، من البداية الى النهاية كي تئد الأحلام وتجهض المُثُل العليا؟ ابداً... يقول لنا ماكسيم غوركي. ابداً على رغم كل البؤسوية التي تطبع روايته وعلى رغم كل المصائر التي توعد بها شخصياته. ثمة في نهاية الطريق ما يمكن اعتباره بارقة أمل. صحيح ان غوركي يضع هذه البارقة في القسم الأخير من الرواية، وبعد ان يكون أغرق شخصياته وقراءه في وهدة سوداوية بالغة القتامة، لكنه يضعها في أي حال... فپ"الثوري الحقيقي لا ييأس"حتى وإن كان"لا يزال في مستوى ما دون الوعي الثوري الحقيقي"، بحسب بليخانوف، بل حتى بحسب ما سيقول غوركي لاحقاً، حين سينضم نهائياً الى لينين، ليرى ان بارقة الأمل التي تحدث عنها في"الثلاثة"منذ عام 1902، إنما وجدت التجسيد المنطقي لها في ثورة لينين. ولا أهمية، لاحقاً، لواقع ان غوركي سينفي نفسه الى ايطاليا حتى بعد انتصار الثورة وانضمامه إليها... وكذلك لا اهمية في السياق نفسه، لأن تتسم علاقة غوركي بستالين بطلعات ونزلات، ستؤدي لدى وفاة الكاتب عام 1936، في زمن المحاكمات الستالينية الشهيرة، الى همسات تقول ان رجال البوليس السري سمموه بناء على أوامر زعيم الأمة الملهم... همسات لا تزال تشكل لغزاً حتى الآن. كل هذا لا يهم، في رأي غوركي وخلفائه الثوريين لأن"مصير الفرد ليس شيئاً، أمام مصير الأمة اقرأ هنا: الحزب-"كما سيرى غلاة الثوريين، الذين اعتبروا دائماً ان غوركي واحد منهم. مهما يكن فإن بارقة الأمل في"الثلاثة"، تتمثل في الصبية الحسناء صونيا، التي تتدخل عملياً لتؤكد للبائسين المحبطين الثلاثة، بثوريتها وحيويتها ان ثمة طريقاً مفتوحاً في اتجاه المستقبل، على رغم الماضي الكئيب. وواضح ان صونيا، تمثل هنا، في نظر غوركي، الوعي والمعرفة مجتمعين ليضيئا المستقبل، بعيداً من سواد الماضي الذي يقول لنا تاريخ الأدب الروسي في ذلك الحين، انه كان يبدو مفعماً بالظلمة. وواضح ان هذا هو الدرس الذي اراد غوركي ايصاله هنا، هو الذي يجب ألا يغيب عن بالنا ان وصفه لمشاعر الجموع والجماعة في هذه الرواية، اتى افضل كثيراً من وصفه لمشاعر الأفراد ودراماتهم. حين كتب رواية"الثلاثة"كان ماكسيم غوركي واسمه الأصلي آلكسي بشكوف 1868 - 1936 في الرابعة والثلاثين من عمره، وكان بدأ يعرف على نطاق واسع داخل روسيا بفضل قصص قصيرة ومقالات، وكتب مذكرات كان ينشرها، لكنه لم يكن أصبح، بعد، ذلك الكاتب الشهير عالمياً، والذي زاد من شهرته صداقة لينين ثم ستالين له. ونعرف ان ماكسيم غوركي ابدع في مجالات كتابية عدة، وترك في المسرح والرواية والقصة القصيرة أعمالاً، مثل"أهل الحضيض"وپ"الأم"وپ"ابناء الشمس"وپ"طفولتي"وپ"جامعاتي"و"ستة وعشرون رجلاً وامرأة واحدة"، انتشرت وترجمت الى عدد كبير من اللغات، كما ان اعمالاً كثيرة منها اقتُبست الى السينما، ثم التلفزة، بدءاً من اقتباس"الأم"على يد بودوفكين ثم مسرحياً على يد بريخت وصولاً الى اقتباسات عدة في سينمات أوروبية وأميركية وعربية. [email protected]