لا شك في أن على المرء أول الأمر أن يعبر عن سروره الكبير بالوجود هنا بينكم، في هذا الصرح الثقافي الكبير. فواحد، مثلي، تعرف إلى مثقفين من البحرين قبل عقود طويلة وارتبط بصداقات مع شعراء وكتاب من أمثال قاسم حداد وأمين صالح، كان لا بد له من أن يتطلع منذ زمن بعيد إلى زيارة بلد عرف بتقدمه الثقافي المبكر ومخزونه الطيب من البشر والتاريخ. واليوم، إذ تتاح هذه الفرصة، يصبح السرور مزدوجاً: بالزيارة نفسها، ثم بهذا اللقاء في مكان متخم بالثقافة من النوع الذي لا ريب حلم به مثقفون كثر في بلادهم، وها أنتم، هنا في البحرين، تحققونه. لقد أتيح لي اليوم أن أتجول في كل المباني والبيوت التي يضمها هذا المركز وخصص كلاً منها للشعر أو للصحافة أو للتراث أو للتاريخ. وفي كل مكان من هذه الأمكنة، التي يلاحظ المرء بسرعة كيف انها مطبوعة برهافة الشيخة مي آل خليفة وذوقها، مؤسسة هذا المشروع وراعيته، في كل مكان يلفت، أولاً جمال الديكور وتوزيع الإضاءة والأثاث في شكل يعكس، حقاً، هم الربط بين الأصالة المميزة، والمعاصرة الزاهية. غير ان ما يلفت أيضاً، هو أن كل ما يراه ويعيشه هنا - أو أغلبه - ينتمي إلى ثبات في بعده البصري، ما يعني نقصاً في الحركة... وبهذا أود ان اعبر عن الغياب الملحوظ للصورة المتحركة، وعجبت من هذا، أنا المدعو إلى هنا، أصلاً، كي أحكي عن السينما والتلفزة وأخواتهما. تساءلت: كيف حدث أن ميادين الصورة هذه لم تشغل بعد، كما ينبغي، اهتمام المثقفين وحماة الثقافة. ثم قلت: لعلي أنا نفسي لم أدع لأحاضر هنا لكوني مهتماً بالسينما، بل بالثقافة في شكل عام. فكان أن اخترت حديث السينما والتلفزة، صدفة! ومع هذا يندر، ومنذ زمن بعيد، أن يدور حديث مثمر بين أهل الفكر والثقافة، إلا ويكون فيه مكان أثير للسينما ولمختلف أدوات بث الصورة وأفلامها. بل نعرف ان ثمة في البحرين، منذ زمن، كما في بقية المدن العربية حركة لا بأس بها لنشر الكتب والمعارف السينمائية، وأن التسلية الأولى لمعظمنا، سواء كنا من الناس العاديين الطيبين أو من أهل الثقافة، هي كل شيء وقد ترجم إلى صور متحركة. فهل نحن هنا أمام نوع من الحياد التام والطوعي في معركة مفترضة تدور منذ زمن بين الصورة السينمائية والصورة التلفزيونية؟ ربما. مهما يكن أود هنا أن أروي حكاية بسيطة كمدخل للحديث الذي جئت أشاطركم أفكاره. حدث هذا في صوفيا في بلغاريا، عند بداية سنوات الثمانين. يومها دعينا لمناقشة إصدار عشرين مجلداً تضم تاريخ سينمات العالم. خلال الاجتماعات الصاخبة يومذاك والتي شارك فيها بعض أهم نقاد ومؤرخي السينما في العالم، سادت شكوى لم تتوقف، فحواها أن السينما بدأت تهزم أمام هجمة التلفزة الملونة ووعد ازدهار الفضائيات. يومها حين وصل الدور إليّ في الكلام، قلت للجمع ان الحل يكمن في ان نتحول جميعاً إلى نقاد تلفزيون. كان ما أقوله أشبه بنكتة. لكن النكتة انقلبت مع مرور الزمن إلى حقيقة كما تعرفون. والآن لماذا كل هذه المقدمة؟ نحو سينما خليجية ببساطة لأنني أحب ان أشاهد أفلاماً خليجية. بل أكاد أقول: أحب ان أعرف بلدان هذا الطرف من العالم العربي من خلال السينما، لأنني أرى ان هذا الفن هو الأقدر على تعريف الناس بعضهم ببعض. ثم لأن هذا لو يتحقق، لتحققت لي أمنية كنت أبديتها في العام 1970 حين وطئت قدماي للمرة الأولى أرضاً خليجية. كان ذلك حين جئت الكويت لأعمل في صحافتها. وكان من غريب الصدف ان ليلة وصولي الأولى كانت ليلة العرض الأول لأول فيلم روائي خليجي طويل، وهو"بس يا بحر"لخالد الصديق. يومها أفردت للفيلم صفحة كاملة في جريدة"السياسة"، وتوقعت في مقدمة الملف ان يعم الإنتاج السينمائي الخليج على خطى تلك التجربة الأولى الناجحة. لكن توقعي خاب، إذ ظلت التجربة السينمائية الروائية الخليجية مقتصرة على ذلك الفيلم بل إن الصديق نفسه حقق فيلمه التالي في السودان عن رواية للطيب صالح... حتى كانت تجارب بسام ذوادي في البحرين... ثم خصوصاً فيلم"ظلال الصمت"لعبدالله المحيسن في السعودية، بعدما كان المحيسن حقق تجارب عدة تسجيلية متميزة. وكما ترون، لا تبدو التجربة اليوم شديدة الغنى إذا نحينا جانباً مسألة كثرة المهرجانات التي تمكن المساجلة في صددها، وتجارب تتكاثر لإنتاج أفلام قصيرة تعبّر عنها تظاهرة"أفلام من الإمارات"تحت إشراف مسعود أمر الله في دبي، خير تعبير، ناهيك بإنجازات هيفاء منصور ورفاقها في السعودية. ومهما كان من أمر، فإن هذا كله لا يصنع، بعد، نهضة سينمائية حقيقية. مع ان المال موجود بوفرة، والعناصر البشرية موجودة والنيات أكثر من موجودة وأكثر من طيبة. وأهل الخليج مستعدون دائماً للمغامرة حتى وإن أتتهم من طريق أفّاق من كندا أو مقامر من أي مكان في العالم. فما الحكاية؟ قد يكون الجواب في الانتقال، هنا، إلى الشق الآخر من الحديث، إلى التلفزة حيث الإنتاج وافر والخير عميم والنشاط في ازدهار، ما بعده من ازدهار. ومن المرجح انه إذا كان ثمة من إمكانية حقيقية لولادة سينما يحققها مخرجون ومبدعون من شتى بلدان الخليج، فإن هذه الإمكانية ترتبط، خصوصاً، بهذا النشاط التلفزيوني، شرط ان تحدث جهود السينمائيين في مسيرته تغيرات جذرية، على يد مبدعين يعرفون كيف تكون لهم سينماهم الخاصة: سينما تعبر عنهم، عن مجتمعاتهم، عن قضاياهم وعن همومهم، تماماً كما فعلت من قبل أفلام عبدالله المحيسن وخالد الصديق وبسام الذوادي. لماذا التلفزة؟ لأن مسألة الصالات قضية شائكة، حتى وإن كانت هذه الصالات موجودة في معظم دول الخليج، ولن تلبث ان توجد في بقية دوله... جمهور الصالات هو اليوم ما هو عليه، جمهور يميل إلى أفلام المغامرات والحركة الأميركية بخاصة، بعد ان غيِّبت وحجِّمت الطبقات الوسطى في مجتمعاتكم ومجتمعاتنا وانزوت في بيوتها تبحث عن الترفيه، شبه الجدي، في المسلسلات التلفزيونية. وتعرفون طبعاً الأزمة التي تمر بها هذه الطبقات الوسطى من ناحية انفتاحها الاجتماعي بعدما كانت بانية الأوطان وداعمة بناء الحضارة وراعية الفنون والآداب طوال القرن العشرين. إن هذه الطبقات تعيش اليوم خاضعة لقوى تقاوم كل فن مشاكس، أي كل فن جدي. وتعرفون طبعاً ان كل فن جدي هو فن مشاكس وهذا كله يلعب ضد قيام سينما، حتى في بلدان عريقة الإنتاج. فكيف نحل المعضلة إن كانت ثمة، حقاً، رغبة في حلها؟ من ينتهز الفرصة؟ هنا أعود الى صورة حرب الشاشتين أي الصراع بين السينما والتلفزيون لرفضها جملة وتفصيلاً. ذلك أن الواقع والتجارب الحية تقول لنا ان الهوة بين الشاشة الصغيرة والشاشة الكبيرة ليست على الاتساع الذي يخيل إلينا... بل اكاد أقول انها ليست موجودة إلا في خيال أولئك الذين يعتبرون التلفزيون بديلاً للسينما. وهذا غير صحيح. صحيح اكثر منه ان التلفزيون صار متحف السينما وحامل تاريخها، بل حتى أكبر المروجين لها. كل الأفلام تعرض اليوم وتستعاد عبر الشاشات الصغيرة. بل ثمة ما هو أكثر من هذا: ثمة الواقع الذي يقول لنا ان للتلفزة، ومنذ زمن بعيد، فضلاً كبيراً على كبار السينمائيين في العالم. فهؤلاء قدموا بعض أروع أعمالهم وأخطرها للتلفزيون، من مسلسل"برلين الكسندر بلاتز"لفاسبندر، الى مسلسل"المملكة"للارس فون تراير، مروراً ببدايات سبيلبرغ، وبعض أخطر أعمال غودار. في هذا أود ان اقول ان الشاشة الصغيرة، كما الكبيرة، هي اشبه بصفحة بيضاء تعطينا ما نضعه عليها. والسؤال المحوري هنا هو: ما الذي يمكن ان نعطيه للشاشة الصغيرة حتى تعيده إلينا؟ ومن ذا الذي عليه ان يعطي للشاشة الصغيرة؟ هل علينا ان نستكين الى وضع نكتفي معه بنشرات الأخبار والمسلسلات المضحكة - المبكية وباجترار الأفلام القديمة وبرامج الألعاب والحوارات المتشابهة؟ أم علينا ان ننتهز هذه الفرصة الذهبية، لنعطي الشاشات الصغيرة إبداعاً بصرياً حقيقياً لن نبالغ إن قلنا ان السينمائيين وحدهم يملكون سره وسرّ جماله؟ فإذا كان السؤال التالي هو: من الذي عليه ان ينتهز هذه الفرصة، سيكون الجواب البديهي: المبدعون انفسهم، محبو السينما، الروائيون، الشعراء، الرسامون وكاتبو السير والتاريخ. فالسينما بأفلامها الحقيقية والمميزة تضم اشياء من هؤلاء جميعاً، ناهيك بالموسيقى والغناء والتمثيل. فلماذا لا يتحول هؤلاء الى فن القرن العشرين وإلى فن المستقبل، السينما، يحمّلونه رؤاهم الذاتية - وهذا شرط اساس - لعلاقتهم بزمنهم، وتاريخهم ومجتمعاتهم وعلاقاتهم وهموم عيشهم اليومي؟ بل حتى الهموم القومية والإنسانية العامة كما فعل عبدالله المحيسن في"ظلال الصمت"مثلاً؟ وكيف لا نجد المبدعين وقد انكبوا على عشرات الكتب والقصائد وحكايات التاريخ والتراث الشعبي يستلهمونها لرصد الواقع وموقفهم منه؟ لماذا لا يتم اللقاء بين خالد الصديق واسماعيل فهد اسماعيل صاحب الروايات المتأثرة أصلاً بفن السينما. ولماذا يظل عبدالله المحيسن وتظل هيفاء المنصور، بعيدين من روايات ابراهيم بادي وتركي الحمد ومن أشعار محمد حربي وعبدالله الصيخان؟ ومتى يحدث اللقاء الحقيقي بين قاسم حداد ورسوم أحمد باقر وكتابة أمين صالح للسيناريو وتقنية بسام الذوادي السينمائية... ليصب هذا اخيراً، إبداعات قد تجد طريقها الى الصالات، فإن لم تجدها تتحول الى الشاشات الصغيرة لتصل الى كل بيت خليجي؟ قد يبدو في كلامي هذا نوع من خلط لا يستحبه البعض بين السينما والتلفزيون، ولكن مهلاً!... ألا تلاحظون معي في المشهد العام كيف ان الشاشة الصغيرة تكبر أكثر وأكثر بفضل الابتكارات الحديثة، والشاشة الكبيرة تصغر إذ تقطّع الصالات الى غرف أضيق وأضيق تسمى بدورها صالات سينمائية؟ إنها مسيرة التقدم الزاحفة حتى وإن لم نحبها. المسيرة التي انتهى حتى أناس من أمثال فيم فندرز وفرانسوا تروفو وجان - لوك غودار الى الاعتراف بحتميتها في بلدانهم ذات التواريخ السينمائية الحية والعريقة. فهل نعترض نحن؟ اننا نعيش عصر الصورة. الصورة التي تطالعنا في كل ساعة وفي كل مكان. فما بالنا نتجادل في ما هو محسوم ونتخيل معارك وهمية؟ لماذا لا نؤقلم انفسنا مع واقع بات من الصعب علينا الإيغال فيه من دون الدخول في تفاصيله عن رضى وبحماسة؟ والحقيقة ان هذا يفتح، بالنسبة إليّ هنا، على مسألة مرتبطة: لماذا ترانا لا نزال نتلقى الصورة من دون نقد، وكأنها ترفيه آت من أبعد الأمكنة لا يعنينا إلا التفرج عليه؟ هل كثير ان نحلم بسينمائيين يحولون أعمالهم الى نظرة على مجتمعهم وإلى نظرة على السينما متصدين لواقع بائس فرض علينا ان نعيش من دون أية نظرة نقدية ومن دون ادنى اجتهاد منذ مئات السنين، ما أودى بنا الى التخلف الذي نعيش عن ركاب العصر مكتفين بكوننا مستهلكين. في هذا الإطار هل كثير ان يحلم من يتأمل هذا الصرح وجمهوره الواعي بأن يكون فيه، مثلاً، حيز لنوادي سينما للأطفال، يتعلمون فيها كيف يتلقون الفيلم، بل الصورة عموماً. فالفيلم والصورة اللذان قلنا ونكرر انهما الشيء الأكثر وجوداً الآن في حياة الناس، لا يزالان يجابهان عندنا من دون أي وعي نقدي. ان هذا هو دور الناقد والكاتب. بيد ان النقد يصبح من غير مفعول إن لقن للناس من فوق، إن فرض عليهم كعنصر ثقافي نخبوي. فالناقد الحقيقي لا بد من ان يكون سقراطياً، يعرف ان الأفكار والحلول جاهزة في رؤوس الناس، كل الناس. دوره هو ان ينبههم الى وجوده. أنا أحلم بهذا الدور للناقد. لكنني أحلم به للمبدع ايضاً، طالما اننا متفقون على ان كل إبداع انما هو نظرة نقدية تلقى على الذات، أو على الآخر أو على المجتمع وحتى على الكون. ولعل فهمنا لهذا الأمر البسيط يمكّننا دائماً من فهم الكون ووعيه عقلياً ومنطقياً. وهذا ما يردّ الحديث مرة أخرى الى قضية الوعي وبعده الثقافي فيفرح المرء حين يقرأ شعار موسمكم الثقافي الجديد هذا:"الثقافة وسيلة للمقاومة". ومن المؤكد ان الثقافة، إذ تخلق الوعي، وإذ تجعل المتلقين جزءاً من العصر، مُحِلَّة دينامية التاريخ الذي يصنع كل يوم مؤطراً بالثقافة، محل جمودية الماضي الذي يعيشه كثر منا للأسف، جامداً لا يتحرك... فيمجّدون جموده غير قادرين على الخروج منه الى رحاب التاريخ وديناميته. * محاضرة أُلقيت الأسبوع الفائت في مركز الشيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة في البحرين