هناك أمر ما يجعل دائماً من الأفلام التي تقدم حكاية الملاكمة والملاكمين أفلاماً ناجحة يقبل الجمهور عليها حتى وإن كان من غير الجمهور الذي يرتاد صالات المباريات التي تقدم عروض هذه "الرياضة النبيلة" - بحسب الوصف الذي يسبغ عليها -. والطريف أن بعض كبار المخرجين الذين اهتموا، ولو مرة في حياتهم، بتقديم فيلم يدور من حول الملاكمة، حرصوا دائماً بأنهم أبعد ما يكونون عنها وأنهم قبل تصوير الفيلم ما كانوا ليهتمون بها على الاطلاق ولو من باب الفضول. كانت هذه حال جون هستون حين حقق"المدينة الواسعة"وفرانكو زيفريللي حين حقق"البطل"وكلينت ايستوود حين حقق"طفلة المليون دولار"ثم رون هوارد مع فيلمه"سندريلامان". غير أن الذي ضرب الرقم القياسي في التناقض بين شخصيته الهادئة البعيدة كل البعد عن فن الملاكمة، واقدامه على تحقيق واحد من أبرز أفلام هذا الفن، فهو مارتن سكورسيزي، الذي يبقى فيلمه"الثور الهائج"فيلماً حياً عميقاً وكبيراً، ويصنف باستمرار اما بوصفه واحداً من بين أبرز عشرة أفلام في تاريخ السينما، وإما بوصفه واحداً من أقوى وأعمق الشرائط التي قدمت سيرة شخص ما على الشاشة. أما الشخص المعني هنا فهو جاك لاموتا، الملاكم الأميركي الايطالي الأصل ? كما حال سكورسيزي - والذي وصل الى بطولة العالم أواسط القرن العشرين، ليحقق سكورسيزي عنه فيلمه الشهير هذا في سنة 1980. في البداية لم يكن سكورسيزي تواقاً الى تحقيق هذا الفيلم. لكنه كان في ذلك الحين يعيش أزمة خانقة متعددة الوجود وكان يائساً بالتالي من كل شيء، اثر اخفاقين أو ثلاثة تلت النجاح الكبير الذي كان حققه"سائق التاكسي". وذات يوم أطل عليه صديقه الدائم، وبطل معظم أفلامه السابقة، روبرت دي نيرو عارضاً عليه أفلمة قصة حياة لاموتا. في البداية رفض سكورسيزي المشروع"مالي أنا وما للملاكمة"قال لنفسه ولصديقه. لكن هذا أصر عليه أن يقرأ فقرأ وظل يقرأ حتى الصباح مكتشفاً مع كل صفحة من صفحات الحكاية، كم أن هذا الموضوع يحتوي على كل ما كان يريد أن يقوله من افلامه: الصعود والانهيار - الوجه الآخر لبريق الاستعراض - المناورات وراء الكواليس - كيف يقضي طموح شخص على حياته وعلى الآخرين من حوله - معضلة العلاقات العائلية... ولكن بخاصة مسألة الخطيئة والندم والغفران التي، في بعد كاثوليكي واضح، شغلت حيزاً هاماً من حياة مارتن سكورسيزي وفنه وأفكاره. ولعلنا لا نعدو الحقيقة هنا إن نحن أشرنا الى أن ما حسم الأمر في اتجاه قبول سكورسيزي العمل على هذا الموضوع في حماس شديد، كان تخيله لمشهد السجن والتكفير عن الذات، الذي سيصبح بعد تحقيقه وتحوله الى ذروة أساسية في الفيلم الى واحد من أروع المشاهد التي صورها سكورسيزي وأداها دي نيرو في مسارهما المهني. في اختصار يمكن القول هنا، إن حماسة سكورسيزي لهذا المشروع لم تكن لها أية علاقة بالملاكمة. بل ان الفيلم نفسه لم يأت فيلماً عن الملاكمة، بل عن الانسان في ذروة نجاحه ثم في ذروة سقوطه. ولكن أيضاً في ذروة عودته الى ذاته بقدر ما يمكنه أن يقبل فكرة التكفير عن خطيئته. أوليس هذا، على أي حال، جوهر سينما سكورسيزي، على الأقل منذ"سائق الدراجة"وحتى فيلمه الأخير، لحد الآن،"المرحلون"؟ كان من الواضح اذاً أن دي نيرو حين حمل الحكاية الى صديقة كان يعرف تماماً ماذا يفعل. كان يعرف أنه كان كمن يعيد الى سكورسيزي جزءاً أساساً من سيرة هذا الأخير الذاتية. من هنا أتى الفيلم أشبه بأن يكون سيرة ذاتية لسكورسيزي نفسه. أما الملاكمة فصارت الاطار لا أكثر، كما حال عصابات المافيا في العديد من أفلام سكورسيزي ولا سيما"شبان طيبون"و"شوارع خلفية" وكما حال عالم القمار في"الكازينو" ونيويورك القرن قبل الفائت في"عصابات نيويورك" وعالم الانتاج السينمائي في"الطيار"... إننا هنا، في شكل عام، وسط عوالم قد تبدو من الخارج شديدة التنوع، لكنها في الداخل، في الجوهر، متجانسة، لأنها عوالم الخيانة والخطيئة. يتجلى هذا كله في"الثور الهائج"من خلال حكاية جاك لاموتا، اذاً. ومن الناحية الحدثية ليس صعباً التوقف عند احداث هذا الفيلم: أحداث تصل ذروتها سنة 1949، حين يصبح جاك لاموتا بطل العالم في الملاكمة للوزن المتوسط... ما هو المسار الذي اتبعه للوصول الى تلك الذروة، تحت اشراف أخيه، ورعاية المرأة الشابة فيكي التي أغرم بها وتزوجا لرغبتهما المشتركة في أن يعيشا حياة عائلية مستقرة. غير ان جاك، الكائن القلق، والذي يعتصره ألف هاجس وهاجس، لم يكن من الذين يسمحون لمثل تلك الحياة العائلية أن تبقى هانئة. فالخوف يحيط به، والهواجس تقلقه، والخيانات هوسه الدائم. من هنا، وبالتوازي مع صعوده المدوي في عالم الملاكمة، يكون سقوطه المدوي أيضاً في عالم العلاقات الانسانية، وخصوصاً مع زوجته وأخيه. اذاً نحن هنا من جديد أمام تلك البيئة التي كثيراً ما أقضت مضاجع سكورسيزي: بيئة عالم الذكر، بكل ضعفه وتناقضاته... هذا العالم الذي لا يزال يشغل بال سكورسيزي منذ أولى اطلالاته على فن السينما، بما في ذلك التواطؤ بين الذكور والصراع بين الذكور، ولا سيما من خلال خيانات نسائية، حقيقية أو مفترضة. في هذا الاطار يبدو جاك لاموتا قريناً حقيقياً لبطل"كازينو"و"نيويورك نيويورك"و"شبان طيبون". ومع هذا ثمة هنا في"الثور الهائج"اختلافات بينة، شكلية وفي العمق أيضاً. هنا لايصال الفيلم، شكلياً، الى ذلك الحد الأدنى من الواقعية، اختار سكورسيزي أن يصوره بالأسود والأبيض. كما اختار أن يصور مشاهد مباريات الملاكمة - القليلة نسبياً في الفيلم، وكان هذا مقصوداً - بأسلوب"هيبريالي"- أي اسلوب الواقعية المفرطة - بحيث تبدو المباريات أشبه بحلم قد يتحول في أية لحظة الى كابوس. غير أن الأهم من هذا كله يبقى تصوير شخصية الملاكم نفسه. حيث، على رغم كل الواقعية التي أضفاها روبيرت دي نيرو على أداء الشخصية الى درجة أنه زاد وزنه، حقاً، نحو 17 كلغ، لتأدية الدور في مرحلة انهيار الملاكم وسلوكه درب التكفير عن خطاياه في حق الآخرين، وهي واقعة نالت رضى جاك لاموتا الأصلي، ظل المتفرجون لا يرون من خلال"لاموتا"الفيلم سوى مارتن سكورسيزي نفسه، ما جعل الملاكمة نفسها تصبح كناية عن فن السينما والصراعات التي كان سكورسيزي يخوضها فيها ومن حولها. وهذا حتى من دون أن نلجأ الى أية مقارنة حديثة بين حياة سكورسيزي ومساره، وحياة لاموتا، الذي في ذروة نجاحه وقوته، تنضم اناه وهواجسه الى درجة أنه يهجر زوجته ويخاصم أخاه فينهار مساره المهني، ليتحول الى مذيع في ناد ليلي يلقي نكاتاً سمجة أمام السكارى وقد ازداد وزنه. وكأن هذا الانهيار لا يكفي إذ نراه يرتبط لليلة بحسناء تغويه، لكن الشرطة تقبض عليه اذ اكتشفت أن الفتاة قاصر، ما يوصله الى سجن يراجع فيه حياته ليصل الى تحميل نفسه المسؤولية كلها ويحطم رأسه على جدار السجن، فيخرج من ذلك المشهد نقياً طهر نفسه وبات راغباً في المصالحة مع العالم... وبداية مع أخيه الذي كان جرح منه. نعرف ان"الثور الهائج"حقق نجاحاً نقدياً وجماهيرياً كبيراً. لكن أهميته تفوق هذا البعد، حتى وإن كان من غير الضروري أن ينكشف هذا البعد أمام مئات الملايين الذين شاهدوا الفيلم حتى الآن: فلقد كان"الثور الهائج"فيلم عودة سكورسيزي الى ذاته والى توقه الى العمل أكثر والى المصالحة مع الذات والآخرين: كان فيلم التوبة عن خطيئة - ربما تكون متوهمة -. والحقيقة انه اذا كان لهذا البعد مفعوله في حياة سكورسيزي وعمله عن وعي وتصميم استجابا لما توخاه روبرت دي نيرو من طرح الفكرة من الأساس، فإن ما لا شك فيه أن في سياق هذا الفيلم المميز، والذي يشكل انعطافة أساسية في تاريخ السينما - كما يجدر بكل فيلم عظيم أن يفعل - في سياق هذا الفيلم ما يزرع في النهاية شعوراً بالأمان لدى المتفرج - من دون أن يكون هذا مضطراً الى الاطلاع على العلاقة الجوهرية بين الفيلم ومخرجه -، شعوراً تطهيرياً، يلعب فيه الفيلم دور المحلل النفسي، إذ يضع المتفرج على مجابهة دائمة مع نفسه ومع هواجسه... ولا سيما في لحظات الانهيار الكبرى.