للوهلة الأولى، قد يبدو فيلم"الطيار"لمارتن سكورسيزي، منخرطاً في ذلك الانبعاث الجديد الذي نشهده خلال السنوات الأخيرة لنوع سينمائي معروف منذ زمن بعيد باسم"بايوبيك"اي سينما السيرة. ف"الطيار"يأتي وسط زحام من افلام لا تكف عن الحديث عن كبار نجوم الغناء والسينما والسياسة والفن والحرب الذين عرفهم القرن العشرون، بل عرفتهم قرون سابقة. غير ان ثمة امرين على الأقل يحولان بيننا وبين اعتبار فيلم سكورسيزي الجديد، فيلماً"على الموضة"، اولهما ان صاحب"عصابات نيويورك"كان يحلم - كما كانت هوليوود كلها تحلم منذ زمن بعيد - بتحقيق فيلم عن هوارد هيوز، الملياردير الأميركي الذي تأرجحت حياته بين السينما والطيران فنيّ العصور الحديثة بامتياز، من قبل ان تتحول السير الى موضة مضمون اجتذابها للجمهور. وثانيهما، وهذا الأمر اهم بكثير، هو ان"الطيار"- وفي سياق ميز معظم سينما سكورسيزي حتى اليوم - يكاد يتحدث عن سكورسيزي بمقدار ما يتحدث عن هوارد هيوز. وفي هذا المجال لن يكون من قبيل الهرطقة، المقاربة بين"اسكندر"اوليفرستون و"طيار"سكورسيزي. إذ ان في وسعنا، في نهاية الأمر، ان نعزو فاتح العصور القديمة كما قدم في"الاسكندر"الى هموم اوليفرستون، وعلاقته الخاصة بالبطولة والسلطة والتاريخ، تماماً كما ان في إمكاننا ان نعزو الصورة التي يقدمها سكورسيزي لهوارد هيوز، الى هموم سكورسيزي والأسئلة التي ما برح يطرحها على نفسه، منذ"سائق التاكسي"وصولاً الى"عصابات نيويورك"مروراً ب"كازينو"و"الثور الهائج"وحتى"آخر اغواء للمسيح"و"لون المال"و"بعد الدوام"... جزء من حياة طويلة من هنا يبدو لافتاً ان يختار سكورسيزي تقديم مرحلة محددة من مسيرة هوارد هيوز الحياتية والمهنية، بدلاً من ان يتابع سيرة حياته كلها. فأحداث"الطيار"تدور بين العام 1927، الذي انخرط خلاله في فن السينما بشكل حقيقي ونهائي، والعام 1947، الذي شهد ولادة طائرته العملاقة"هرقل"ومصاعبه مع الإدارة الأميركية. اما البقية فقد سكت عنها سكورسيزي، حتى وإن كان أطّر الفيلم بمشهد واحد - رمزي بالأحرى - هو ذاك الذي يرينا هيوز طفلاً تغسله امه بأناقة وقوة وجمال محذرة إياه من الأوساخ والناس والجراثيم، اي من كل ما يمت الى الحياة بصلة. ان من الواضح هنا ان سكورسيزي إذ اختار مشهد الغسيل الطقوسي، مركزاً فيه على فكرة"الحجر الصحي"كمبدأ اساسي، انما اعطي ذلك كله بعداً دينياً كالعمادة مثلاً، جاعلاً من مبدأ النظافة المطلق، صنواً لعربة التزلج"روزباد"التي هيمنت على حياة المواطن كين كلها وحتى موته في فيلم اورسون ويلز الشهير. وفي يقيننا ان اورسون ويلز حاضر بقوة في هذا الفيلم، الذي من المؤكد ان سكورسيزي شاء له ان يكون"المواطن كين"الخاص به. وفي يقيننا ايضاً ان سكورسيزي نجح في رهانه، وليس فقط لأن القوم الذين يختارون الأفلام المرشحة لجوائز الأوسكار لهذا العام، اعطوه 11 ترشيحاً، ناهيك بأن ثلاثاً من جوائز"غولدن غلوب"الرئيسية ذهبت إليه، وليس فقط لأن الجمهور يقبل بكثافة على فيلم يثير اعجاب معظم النقاد الجادين في العالم، بل بخاصة لأن"الطيار"لا يخرج ابداً عن اطار سينما سكورسيزي، لا يبدو شهاباً عابراً في حياته الفنية... كما يبدو حاملاً إجابات عن أسئلة لطالما طرحها سكورسيزي على نفسه وهنا يكمن جوهر العلاقة مع الجزء الذي اختاره من سيرة هيوز. ففي اللقطة الأخيرة من"لون المال"، مثلاً، يخبط بول نيومان عصا البلياردو على الكرات بانتصار، صارخاً:"ها أنذا قد عدت"ويأتي ذلك بعد عبوره وهدة الفشل والخيبة والسقوط. ان تلك الضربة انما كانت انبعاثه الجديد. وشيء مثل هذا يحدث في"الثور الهائج"حيث، بعدما يمر جاك لاموتا روبرت دي نيرو في دور الملاكم الشهير مرحلة الإخفاق والعذاب في حياته، يعود قوياً وقد تطهر دينياً في توبة يسوعية خالصة نسبة الى طهارة السيد المسيح... وهذا النوع من الأمثلة يمكننا ان نواصل استقاءه من معظم افلام سكورسيزي حيث لا بد ل"البطل"من ان يُهزم، وتهزم احلامه الكبيرة على مذبح جبروته وأخطائه، لكي يمر في مرحلة تطهر، روحي او جسدي او الاثنين معاً، تبعثه من جديد قوياً معافى، مستعداً لاستئناف حلم جبروته وقد تَطَهَّر من ماضيه. وهو ما يجد معادله، بالطبع، في ذلك المقطع من"الطيار"الذي يصور لنا هيوز، بعد حادث سقوط الطائرة الذي يكاد يقضي عليه، ينزوي في غرفة عرض الأفلام فترة طويلة من الزمن بعيداً من اي احتكاك بالآخرين، مكتفياً بالحليب غذاء له، مطولاً لحيته عازفاً عن الاستحمام، متأملاً زجاجات عبأ فيها بوله، صارفاً وقته في مشاهدة الأفلام متحدثاً الى نفسه. فهو اذ يخرج من هذا كله في النهاية، يخرج نظيفاً حليقاً مقبلاً على الحياة مستعداً لمعركته الكبرى مع الإدارة الأميركية. ان من يقرأ سيرة هوارد هيوز، الحقيقية غالباً، يعرف بالطبع، ان"الطيار"، من بعد إنجازه لطائرته العملاقة"هرقل"التي شاءها"اكبر وأقوى طائرة في العالم"وهي اللحظة التي يتوقف عندها الفيلم، عاد وأخفق في حياته وعمله ثانية. خسر امواله وخسر شركته للطيران وخسرت شركة"ار كي او"السينمائية التي أنفق عليها ملايين الدولارات... ثم عاش وحيداً منزوياً مرعوباً من الموت والجراثيم، عشرين سنة بالكاد يعرف احد عن حياته خلالها شيئاً. اين"المافيا"و"السي آي اي" ومن يقرأ سيرة هيوز، يعرف انه كانت له زوجة شرعية هي الممثلة جين بيترز، التي ظلت تتهمه لاحقاً بأنه نسف مهنتها وأخفاها عن عيون الناس، في الوقت الذي امضى حياته كلها يخترع نجمات من لا شيء جين هارلو،"بطلة"، فيلمه الأول"ملائكة الجحيم"، وجين راسل"بطلة"فيلمه اللاحق"الخارج على القانون". ومن يقرأ السيرة يعرف ايضاً ان ثمة علاقات غامضة، إنما مؤكدة، ربطت بين هيوز - على رغم ليبراليته ذات النزعة اليسارية - وبين"المافيا"و"السي آي اي"، ويعرف ايضاً انه لم يكن المخرج الحقيقي لأي من الأفلام - القليلة على اي حال - التي تحمل اسمه كمخرج بما فيها"ملائكة الجحيم". ومن يقرأ يعرف ان طائرة"هرقل"نفسها التي ينتهي الفيلم على طيرانها وانتصارها، لم تطر اكثر من مئة متر، ثم حولت الى متحف النسيان ومزبلة التاريخ في الأسابيع القليلة التالية مباشرة لنهاية الفيلم. بيد ان هذا كله يبدو مسكوتاً عنه في فيلم سكورسيزي. ولكن ليس ثمة في الأمر غشاً ولا من يحزنون. إذ من الواضح هنا ان هذا كله لا يشكل جزءاً من اهتمام مارتن سكورسيزي بحياة هوارد هيوز. وقد يجيب سائله عن هذا، بأن الفيلم ليس دوره ان يقدم ترجمة امينة وكاملة لحياة اي شخص كان. الفيلم ليس كتاب تاريخ، بل هو عمل فني، ينتمي الى مبدعه، ثم الى متفرجه، فيعيد كل منهما بدوره، قراءة التاريخ على النحو الذي يريد. ولعل ما يمكن ذكره في هذا الإطار هو ان"الطيار"لا يعدنا ابداً بتكملة له، تتحدث، مثلاً، عما هو اكثر درامية - وغموضاً - في سيرة هوارد هيوز: سنوات اعتكافه مرعوباً من الموت بعيداً من الناس، الى درجة خيل معها الى كثر ان الرجل مات قبل سنوات عدة من موته. "الطيار"كما صوره سكورسيزي هو فيلم مكتمل عن رجل ينتمي الى القرن العشرين، يحمل احلام ذلك القرن وبؤسه، جبروته وضعفه، انفتاحه على العالم وخوفه على جسده ذلك الخوف الذي هو بدوره سمة من سمات القرن العشرين الأساسية، والذي يشكل احد اهم محاور الفيلم وأقواها، إذ يصور لنا سكورسيزي بكل قوة خوف هيوز من الطعام، ومن مصافحة الناس، من اي شيء يعيد الى نفسه كلمات امه حين كانت تغسله - بعد هذا، يصبح كل ما تبقى من الفيلم تفصيلاً: الأفلام التي مولها وصورها. الطائرات التي اخترعها، النساء اللواتي ارتبط بهن وعددهن في الفيلم قليل: 3 او 4 مع ان اسطورة حياة هيوز تتحدث عن عشرات النساء وأهمهن كاترين هيبورن، ابنة العائلة الأرستقراطية اليسارية التي حاول افرادها اشعاره بضعة شأنه ثقافياً، ثم آفا غاردنر، التي رفضته دائماً كحبيب. غير ان ما لا يقدمه لنا سكورسيزي كتفصيل، إنما هو الصراع الكبير الذي عاشه هيوز مع الإدارة الأميركية، من حول الصفقات والطائرات، ومجابهته - في واحد من اروع مشاهد الفيلم - لتلك الإدارة ممثلة في عدد من اعضاء الكونغرس. هنا ايضاً قد يكون المسكوت عنه في فيلم سكورسيزي، اهم مما يصوره الرجل. وقد تبدو صورة هيوز الحقيقية، من خلاله اقل بهاء وإثارة للإعجاب، غير ان سكورسيزي، حدد اختياره واختياراته الفكرية هنا، وقال ما كان يريد قوله من خلال بطله. وبهذا ترك لنا، في نهاية الأمر، مهمة ان نفترض ان هوارد هيوز الذي ادى دوره بروعة ليوناردو دي كابريو في الفيلم لم يعد في نهاية الأمر، صورة لذاته التاريخية الحقيقية، بقدر ما صار صورة لمارتن سكورسيزي، ما يؤكد لنا مرة ثانية، بعد"عصابات نيويورك"ان سكورسيزي وجد في ليوناردو دي كابريو أنا - آخر له يعوضه عن أناه - الآخر القديم الذي كانه روبرت دي نيرو ذات يوم. وأخيراً اذا كان الكاتب الفرنسي آلان - روب غرييه قال مرة انه بعد كل شيء، لم يكتب إلا عن نفسه في كل رواياته، مهما كان بعدها الموضوعي، هلا يمكننا ان نقول ان المتفرج، الذي يتابع سينما مارتن سكورسيزي، منذ زمن طويل، ليس في إمكانه، حين يشاهد"الطيار"ان يلمح احداً آخر سوى مارتن سكورسيزي خلف ليوناردو دي كابريو، وخلف هوارد هيوز مجتمعين؟