ما يميّز العصر الحديث في مجال التربية والتعليم أنّ ممارسة التدريس لم تعُد مُجرَّد "رِسالة" إنسانية تأتي بالفطرة، أو مهمة يضطلع بها رجال الدين وحدهم، أو وظيفة يقوم بها أولئك الذين زهدوا بمتاع الدنيا ونذروا أنفسهم للعلم والمتعلم، بل أصبحت"مهنة"بكل ما في هذه الكلمة من معنى، أي أنها عمل لا يعتمد على الموهبة والاستعداد الفطري بقدر ما يعتمد على الدراسة المستمرة والنظريّات المقننة والتدريب المنظّم والهادف. لذلك، نجد أن من يريد أن يطرق باب الدخول في ميدان التعليم في أيامنا هذه، يجب عليه أن يبدأ بالحصول على الإجازة التعليمية والشهادات المتخصصة، وكذلك، إذا أراد متابعة المسيرة وتحسين وضعه المهني، فإنه يجب عليه أن يتابع ما يستجد في ميدان المناهج التربوية وأن يخضع لما يُسمى الإعداد المستمر والدورات التدريبية. وما ساعد في انطلاق هذه الثورة في الواقع التربوي، منهاجاً وممارسة، هو التحول الذي حصل في العلوم الإنسانية. فهذه الأخيرة دخلت في مجالات منهجية ونظرية جديدة، وكان من أهمها ظهور اللسانيات البنيوية، وانتشار مبادئها وأنماط التفكير فيها في مختلف الدراسات النظرية والتطبيقية. والواقع أنه كان لهذا العلم دورٌ رئيسٌ في تطوير الأبحاث والدراسات المتعلقة بميدان علوم التربية، بحيث يمكن القول إن هذه الأخيرة قد شهدت خلال نصف القرن الماضي تحت تأثير اللسانيات، وعلم النفس أيضاً، ثورة عارمة إن لم نقل انقلاباً تاماً. إنَّ هذا الواقع الجديد الذي وصلت إليه علوم التربية يظهر بيناً لمن يطّلع على المعجم الجديد وعنوانه"قاموس فن التعليم"الذي صدر حديثاً بالفرنسية عن دار"زكريا"في لبنان، للباحثة نورما عبود زكريا. تقول المؤلفة في مقدمة كتابها إن الأبحاث الحديثة في مجال العلوم الإنسانية أثرت في مقاربة الممارسة التربوية، وخصوصاً الأبحاث والاختراعات التي تتعلّق بميدان التكنولوجيا الحديثة والحاسوب. والواقع أن هذا التطور أربك الوسط التعليمي ووضعه في موقف حرج ومعقد. فالمدرسون انقسموا إلى فريقين تفصل بينهما هوة كبيرة. فهناك المدرسون التقليديون الذين لا يأبهون لكل هذا التحوّل ولا يشعرون أنهم معنيّون من قريب أو من بعيد بكل الاكتشافات الجديدة والنظريات الحديثة التي تعتقد أن أساسيات التدريس والتعليم تقوم على استعمال الحاسوب والبرامج الإلكترونية والوسائل المتعددة الوسائط. وهؤلاء المدرسون يجدون أن الخبرة والتجربة والممارسة اليومية كفيلة بتطوير أداء المدرّس أكثر من التكنولوجيا الحديثة، وهي أفضل من الشهادات الجامعية حتى. وهناك، من جهة أخرى، المدرسون الذين"يواكبون العصر"والذين يعتقدون أن الممارسة في الصف لا يمكن أن تنجح في عصرنا هذا إلا إذا كانت مبنية على نظريات علمية رصينة وعلى الاستعمال المنظّم للوسائل التقنية الجديدة التي هي أصلاً في متناول التلاميذ والطلاب خارج حدود المدرسة والجامعة، مثل الحاسوب والبرامج الإلكترونية والأقراص المدمجة، وغيرها. تقول المؤلفة:"إن ممارسة التعليم لا يمكن أن تتم في شكل صحيح إلا إذا اعتمدت على مقاربة نظرية، ذلك أن المقاربات النظرية تنبع من عدد كبير من النظريات المتعلقة بعلوم التربية. ومع ذلك، يجب ألاّ ننسى أن كل مقاربة نظرية تحتاج إلى حقل تطبيقيّ يؤكد ما فيها ويشرحه". هكذا انطلقت النظريات التربوية وتعددت الفروع العلمية في مجالات التدريس والتعليم والتدريب، ما أدى إلى نشوء مدارس مختلفة تؤسس كل واحدة منها لطريقة خاصة في ممارسة التعليم. وبذلك ظهرت المصطلحات الجديدة التي تختص بكل مدرسة أو بكل فرع، وبذلك أصبحت مهنة التعليم تقوم على قطبين أساسيين: الاختصاص العلمي الذي يتبع قواعد نظرية ثابتة، والممارسة التقنية التي تطبق هذه النظريات وتمدها في الوقت نفسه بالوسائل التي تقوّم مدى صلاحيتها. من هنا أتت حاجة العاملين في المجال التربوي إلى مراجع نظرية، علمية وسهلة المنال، كي ينهلوا منها إذا ما دعت الحاجة ويعودوا إليها كلما صعب عليهم فهمُ بعض المصطلحات أو تعسر عليهم تطبيق بعض المناهج. في هذا الإطار يندرج كتاب نورما عبود زكريا، الذي جاء ليسدّ الفراغ الموجود في المكتبة التربوية، ليس فقط في مجال الاختصاص الضيق، الذي هو علم التربية، بل كذلك في مجالات علمية أخرى ساهمت في تطويره وواكبت تطوّره، مثل: علم النفس، وعلوم اللغة، والسيمياء، واللسانيات الاجتماعية، الخ. وهو يُحدّد بأنه معجم مصطلحي تفسيري، يضم كل المفاهيم الأساسية في علم التربية، إضافة إلى مفاهيم العلوم الإنسانية الأخرى التي تُستعمل بطريقة أو بأخرى في ميدان التربية. وإضافة إلى تعدّد الفروع العلمية التي يقدم هذا الكتاب مصطلحاتها، نجد أنه يجمع في الوقت نفسه بين خصائص قاموس المصطلحات وخصائص المعجم الموسوعي. فمن ناحية، هناك الترتيب الألفبائي للمواد الذي يسرّع عملية البحث عن المفاهيم، إذ يكفي القارئ أن يتبع هذا الترتيب حتى يجد المادة التي يبحث عنها. من ناحية أخرى، لم تلجأ المؤلفة إلى توسيع كل مادة بتفاصيلها وجزئياتها في فصلٍ واحد كبير، بل اعتمدت تقسيم كل مادة إلى عناوين فرعية تعرِّف في كلٍّ منها المفهوم المطلوب وحده، ما يضفي على المعجم صفتين قلّما نجدهما في المعاجم المماثلة، هما: التوسُّع العلمي، والاختصار المصحوب بالدقّة. فإذا عدنا إلى هذا المعجم للبحث مثلاً عن كلمة"compژtence"، وهي"الكفاية"، لوجدنا هذه المادة بالترتيب الألفبائي، ولوجدنا تحتها تعريفها العام في المجال اللساني والتربوي، وهو أن الكفاية هي مجموعة من المهارات والإمكانات التي تتيح للمرء القيام بسلوك معين أو تسمح له بممارسة المعارف التي اكتسبها وتطبيقها، في سبيل تحقيق هدفٍ معيّن. ثم يأت بعد هذا التعريف أمثلة تفسر عملياً ما جاء فيه. إلا أننا نجد أن المواد التي تلي هذه المادة تفسر هي كذلك مفهوم"الكفاية"ولكن في ميادين محدّدة وهادفة. فنحن نجد بعدها: الكفاية الجماعية، الكفاية التواصلية، الكفاية النظامية الخاصة، الكفاية الخطابية، الكفاية النحوية، الكفاية اللسانية، إلى ما هنالك. تقول المؤلفة في مطلع كتابها إن الهدف الرئيس لهذا المعجم هو التعمّق في الدراسة النظرية للمفاهيم التي ترتبط من قريب أو من بعيد بعلوم التربية وبتعليم اللغات، على أمل أن يتيح للمدرسين في شكل عام، ولمدرسي اللغات في شكل خاص، أن يحسّنوا من أدائهم التربوي وأن يجيدوا ممارسة مهنتهم التي أصبحت متنوعة ومتطلبة. والواقع أنّ المفاهيم التي يقدمها هذا الكتاب قد تم اختيارها أولاً انطلاقاً من مستوى الاختصاص العلمي المطلوب في مجال التدريس، وثانياً وفقاً للحاجات التي يشعر بها المدرس في مجال عمله، وثالثاً انطلاقاً من الوعي الكامل للعوائق التي يمكن أن تعترض المدرس خلال ممارسته مهنته. هذا إضافة إلى أن هذا المعجم لا يختص بمستوى واحد من مستويات التعليم أو بمرحلة واحدة من مراحله، بل يشمل المصطلحات المستعملة في الصفوف من المدرسة الابتدائية إلى الجامعة، إضافة إلى ميادين التدريب والبحث العلمي. ولا بدّ من التنويه في نهاية الأمر بأهمية هذا المعجم بالنسبة الى المدرّس العادي والأستاذ الجامعي، وقد أحسنت المؤلفة في اختيار العنوان"قاموس التعليم"بدلاً من"قاموس علوم التربية"، ما يدلّ على أن هدفها الأساس هو تقديم أداة طيعة ووضع مرجع أساس في يد كل من يُمارس مهنة التعليم والتدريس. إلا أن ما يتمناه القارئ العربي في هذا المجال هو أن يصدر معجم مماثل باللغة العربية، أو على الأقل، أن يُزوَّد هذا المعجم نفسه بالمقابلات العربية للمصطلحات الفرنسية والمفاهيم الأساسية التي يُعالجها. نورما عبود زكريا، دكتورة في علم اللغة وأستاذة تعليم اللغات في جامعة الروح القدس في لبنان. وقد سبق وأصدرت عدداً من الكتب، منها ما هو سلاسل مدرسية لتعليم اللغة الفرنسية، ومنها ما يتعلّق بتكوين أستاذ اللغة وتدريبه على التقنيات والمناهج الحديثة.