ظلت تمطر طوال الليل. جافاني النوم وأنا أسمع قطرات المطر تدق على زجاج النافذة، وأفكر في ما يتعين عليّ القيام به صباح اليوم التالي. كان الأمر بغيضاً وفظيعاً على الرغم من أنه يتكرر كل شهرين تقريباً خلال العامين اللذين مضيا من حكم المراقبة الذي صدر بثلاث سنوات. كنت حريصاً على ألا أتخلف، وأترك لهم بذلك أي ثغرة يمكن النفاذ منها وتأجيل الحكم المنتظر بالإفراج النهائي. غفوت قليلاً، لكنني ما لبثت أن استيقظت عندما انطلق أذان الفجر. حاولت أن أغفو مرة ثانية لكنني لم أفلح. لم يكن أمامي إلا الاستسلام للنهوض بعد أن ظللت أتقلب في فراشي. قضيت الوقت في ترتيب فراشي وملابسي وغسلت ما كان قد تبقى في الحوض من أطباق وأكواب قليلة، ثم عملت شاياً لم أرغب في احتسائه، وفي النهاية ارتديت ملابسي وخرجت. لم يكن الحارس موجوداً كانوا قد استبدلوا البواب به منذ أتوا، وكنا جميعاً - السكان - نخشى جانبه ومع ذلك كنت موقناً أنه يختفي في مكان ما، فهو يقظ وخفيف الحركة مثل ثعلب، غير أنني كنت حذراً، ولم يحدث أن منحته الفرصة ولو مرة واحدة ليضبطني متلبساً بخطأ ما يعطل الحكم الذي انتظره. ألقيت السلام بصوت عال على الرغم من اختفائه، حتى يعلم أنني أخرج مبكراً عن موعدي المعتاد علناً ودون أن أخفي شيئاً، وابتلعت ضحكة كادت تصعد لحلقي، عندما تخيلته وهو يبلغهم بزهو عن نتيجة مراقبته الدقيقة، بينما هم يعلمون السبب الحقيقي لخروجي في مثل هذا الموعد. منذ أغلقوا المقاهي لم أعد أحب الخروج من بيتي إلا متوجهاً إلى عملي رأساً، ثم العودة عن طريق الميدان القريب لشراء بعض ما يلزمني، والانتظار حتى موعد ذهابي إلى عملي في صباح اليوم التالي. وفي مرات محدودة، كنت أذهب إلى الكورنيش بعد خروجي، وأدخن سيجارة على أول مقعد يصادفني. أعطي وجهي للنيل وظهري للشارع محدقاً أمامي قليلاً. عادة لا أجد إلا عدداً منهم متناثرين على مسافات متقاربة. وعادة أيضاً انتهي من تدخين سيجارتي بسرعة وأنهض مبدياً النشاط أمامهم وأعود إلى بيتي. نظرت في ساعتي، وفكرت في أن أتوجه إلى النيل. أتمشى قليلاً، فربما يمنحني هذا بعض الثبات في ما أنا مقبل عليه من مهمة ثقيلة، خصوصاً أن المطر كان قد توقف وبدا الجو صحواً وأنا أغذ السير. كنت قد تلقيت الأمر بالمثول في سراي النيابة ممهوراً بخاتم لجنة الدولة قبل أن أغادر مقر عملي. وفي كل مرة كنت أتلقى هذا الأمر تحديداً، أحدس أن معناه أن أشاهد الحفل الصباحي الفظيع. لذلك عدت أكاد أركض في الشارع، فقد ارتبكت أمعائي، ورغبت في دخول الحمام بكل قوتي. لم يكن ممكناً لي أن أركض بالطبع وإلا تعرضت لإلقاء القبض عليّ على الفور. وعندما وصلت إلى باب البيت وألقيت السلام على الحارس لم أتمكن أيضاً من قطع السلالم عدواً، وهو ما كان كفيلاً بإنقاذي، وتمهلت مجبراً حتى لا يلمحني الحارس إلا وأنا أصعد متمهلاً كعادتي. ولشد ما آلمني أنني فقدت السيطرة على نفسي في اللحظات الأخيرة، وانهمرت دموعي وأنا أتخذ طريقي إلى الحمام في مسكني. لم أنزل بعد ذلك، على الرغم من أنني لم أكن أتمكن من المرور على الميدان وشراء شيء آكله. استسلمت للبقاء ممضياً الوقت في التنقل بين قنوات التلفزيون دون جدوى ثم أغلقته في النهاية. الليل قضيته قريباً من باب الحمام، خائفاً من أن أفقد السيطرة على نفسي مرة أخرى. وبدلاً من شعوري السابق بثقل ما أنا مقبل عليه تمنيت بكل قوتي أن أنهي تلك المهمة بأي شكل، ولا أتعرض لهذا الإنهاك المتواصل طوال الليل. تذكرت أن المخبز القريب من الميدان يفتح أبوابه في مثل هذا الوقت. رحت أسير على الأرض المبللة متجنباً بقع الماء. كان الناس يتزايدون فقد حان وقت الجميع، فأظهرت همتي وأنا انطلق بثبات نحو المخبز. وبعد شوارع عدة، بدأت الرائحة تقترب، فانقلبت أمعائي مرة أخرى، وفي الشارع التالي لاح لي مبناه القديم أسفل العمارة المواجهة. صرفت النظر عن تناول أي طعام، واستدرت عائداً، إلا أنني توقفت بسرعة، فكيف يفسرون ذهابي إلى باب المخبز ثم مغادرتي له من دون أن أشتري شيئاً. كان الحل بسيطاً واهتديت إليه فجأة: أن اشتري أي شيء، وقبل دخولي سراي النيابة ألقي به في أي صندوق قمامة، وهو ما قمت به فوراً. اشتريت بقسماطاً ومضيت في اتجاه النيابة. بعد شوارع عدة، يبدأ إحساسي بالنيابة، عندما تخلو المنطقة من الزحام، ويمتد شارع واحد عريض في اتجاه واحد، يحتله أول كمين يواجه الداخلية. أخرجت هويتي عندما لحظني ذلك الأبجر المفتول وأشار لي بيده. هؤلاء الواقفون على الممرات هم الذين يشيرون عادة الينا. فكل واحد منهم يختار من يروقه. وكان نصيبي هو هذا الثقيل الذي يبدو مسطولاً. توقفت أمامه محاولاً الابتسام أنظر إليه في براءة، فلطمني على وجهي وزعق: -"تضحك.. فاجر صحيح".. لسعتني اللطمة على وجهي وجانب عيني. كتمت الألم وتناولت منه هويتي ثم أخرجت الاستدعاء من جيبي فأشار الي قائلاً: -"الكمين القادم". كانت الممرات المبللة تمتد قدامي يسير فيها الناس، بينما تمرق السيارات في سرعة مجنونة في جادتين عن يساري كلتيهما في اتجاه واحد. وعلى الرغم من الرصيف الفاصل، إلا أنني كنت خائفاً من أن تختل عجلة القيادة في يد أحدهم ويفرمني في لحظة، لذلك أخذت أتلفت طوال الوقت، ثم انتبهت في اللحظة المناسبة - كعادتي - إلى أن عليّ أن ألزم الحذر في كل تصرفاتي وقمعت خوفي وأنا أسمع أصواتها تصطدم بالهواء قريبة مني. في النهاية، وصلت إلى الكمين الثاني وهو الأخطر. في الحقيقة ليس كميناً، بل مبنى مستقل يقوم بمهام عدة في وقت واحد. إذا مررت منه، وعبرت على الحواسب التي سيقودونك إليها، فسوف تستقل السيارة المخصصة لتقلك الى المكان المحدد لك. على أي حال، مررت على غرف عدة للتحقق مني ومن الأوراق التي أحملها، وعلى الأخص أمر الاستدعاء، والتأكد من قوائمهم المثبتة على حواسبهم، وإذا كانت الغرف التي مررت عليها عديدة، إلا أنها كانت ميسرة بلا عثرات أو عوائق شديدة. امرأة واحدة مخمرة لم يعجبها شكلي وأمرتني بالوقوف خارج باب حجرتها حتى تستدعيني. لم أفعل شيئاً. لقد أجبت على أسئلتها بكل دقة، لكن الشعر النابت على ذقنها وفوق شفتها العليا كان مقززاً، ومع ذلك كنت حريصاً على الابتسام في براءة وكأنني لا آراه. كانت شابة عشرينية نحيفة إلا أنها بدت على وشك الانفجار منطوية على عنف مكتوم. هذا هو ما أخرّني في واقع الأمر. لقد ابقتني خارج مكتبها أكثر من ساعة في الممر البارد جائعاً، بعد أن ألقيتُ ما اشتريته من المخبز في صندوق القمامة من دون أن أقضم منه قضمة واحدة. دخنتُ سجائر عدة وازداد الصداع. لم أبرح مكاني بالطبع، واكتفيت بالسير في مكاني، أي أرفع قدماً بعد الأخرى واضغط بها على البلاط البارد خائفاً من أن يفوتني الموعد المدون على الاستدعاء، ولن استطيع أن أتفادى عقوبة مخالفته متحججاً بما فعلته المرأة العنيفة، تلك التي تبدو ذات شأن هنا، فهي لا تتعامل بصلف بالغ فحسب، بل تعمدت أن تنظر إليّ ما بين ساقيّ وهي تطردني بأعلى صوتها. ومن ناحيتي، وحتى لا أمنحها الفرصة للمزيد من الغضب، تراجعت بسرعة ووقفت بجوار الباب الخارجي المطل على الممر، مصيخاً السمع لأقل نأمة تصدر عنها. هذا النوع من النساء طالما صادفته، والواقع أنني أخافه أكثر من الرجال. فالأخيرون يعاقبونك على الفور بمجرد أن تخطئ وينتهي الأمر. ومهما كان عقابهم قاسياً، إلا أنه في كل الأحوال عاجل ونهائي. أما تلكم النسوة من نوعها، فهن يعاقبنك على مهل، كما أنك لا تعرف نوع العقاب المنتظر، وتظل تتمنى أن يكون عقاباً محتملاً. طالما حدّثتُ نفسي بأن سلاح الابتسامة البريئة الذي لا أملك سواه ليس صالحاً في كل وقت، لكنني أخطئ مع ذلك، فلو كنت قد انتبهت لأن تلك المرأة العنيفة ليست أكثر من قنبلة على وشك الانفجار، لتوقفت عن الابتسام على الأقل، ولكنت الآن في طريقي لسراي النيابة، ولنفدت - وهو الأمر الأكثر إلحاحاً الآن - من عقوبة التأخر عن الموعد. اشتد المطر في الخارج، ولم يعد مجرد قطرات أسمع تساقطها، بل تحول الى مطر متواصل أشعرني بالبلل حتى وأنا قابع داخل الممر البارد أنقل قدماً وراء الأخرى. جاءني الفرج أخيراً عندما أطل رجل من الباب، وأشار الي فتبعته، ومحوت الابتسامة عن وجهي، وأنا أسير خلفه متجهاً إلى مكتب المرأة العنيفة. لم تنظر نحوي إلا بعد برهة انشغلتْ خلالها بالضغط على مفاتيح حاسبها. وخيّل لي إنني أسمع نقراتها الدامية بالفأرة على شاشة الحاسب. ثم التفتت للمرأة الأخرى الجالسة على المكتب المجاور. تبادلتا الأوراق والتوقيعات وناولت المرأة أوراقي للرجل المكلف بي. أما أنا فقد التزمت أقصى درجات الحذر، ولم أنظر في اتجاهها مطلقاً. وعندما انتهى الأمر، وانطلقت في أثر الرجل، كدت أقرقع بالضحك، بل وضغطت على جسمي الذي راح يهتز رغماً عني موشكاً على الرقص، فلقد نجوت من الكمين الثاني الأكثر صعوبة، وهو ليس كميناً كما أسلفت، بل كمائن عدة متشابكة. واصلت السير مملوءاً نشاطاً وحماسة لأنهي مهمتي حتى الباب الخارجي، وقادني الرجل إلى الباص الواقف في المطر. تركت نفسي للمطر يبللني وأنا أسير خلفه حتى سلّمني وسلّم أوراقي للمنوط بهم نقلي إلى المكان المخصص لي بواسطة الباص الذي بدا مغسولاً في المطر ومسّاحاته تعمل بهمّة. لم يستغرق سير الباص وقتاً طويلاً، وكان بوسعي أن أسمع عجلاته وهي تضرب الماء المتجمع عبر المطبات الصناعية المتوالية الكثيرة، حتى أن الباص كان يسير الهوينى تقريباً. توقفنا أمام بوابة مبنى سراي النيابة أخيراً، وهو أحد أكثر المباني مقتاً بالنسبة لي، ويشتد مقتي له كلما ازدادت المرات المتعين عليّ أن أمثل داخله. بطرف عيني لمحت الرجال بالزي الموحد الأسود المميز للمقاتلين وهم يدورون حول الباص بأجهزتهم وآلاتهم التي يبلغون بها بياناتنا. تقدم واحد منهم وفتح الباب، ثم راح يقرأ اسماءنا من ورقة بيده، ونحن نرد عليه:"أفندم...". وهنا أدركت أن معنا ثلاث نساء محكومات مثلنا نحن الرجال، عاود الباص سيره حتى توقف أمام سراي النيابة. نادى واحد من المنوطين بنا منذ ركبنا الباص على اسمائنا، واصطففنا تحت المطر في طابور مزدوج. تعلقتْ أذناي بصوته وهو ينادي على اسمائنا مرة أخرى، فالمطر كان لا يزال يتساقط والرجل لم يكن يمنحنا فرصة الانصات بل يتلو الأسماء بسرعة شديدة. شعرت بالبلل والبرد يعصفان بي، وتذكرت جوعي وكمية الدخان التي التهمتها وتصاعد الغثيان إلى حلقي. جاء رجل آخر. مقاتل مثلهم يرتدي ملابس الميدان السوداء ويبلغ عن تحركاتنا عبر جهازه وقادنا إلى الداخل. دفعوا بي مع زميلي في الطابور إلى أول حجرة ومضوا بالباقين. حرصت على أن أنفذ الأمر من دون أي تردد، وأعطيت ظهري لزميلي وبدّلت ملابسي ببدلة السجن الزرقاء كما تعودت في المرات السابقة. كانت رائحة البدلة فظيعة نتنة كأنها جثة. ومع ذلك أسرعت قبل زميلي. كنت حافياً أيضاً مثل المرات السابقة، إلا أننا كنا في عز الشتاء، ورحت اقرقف شاعراً بساقي تكاد أن تخذلاني، بعد لحظات كان المحكومون مثلي - رجالاً ونساءً - يتقاطرون من الابواب الجانبية بعد ان بدّلوا ملابسهم ببدل السجن الزرقاء ووقفوا حفاة في المطر. ما بقي هو الاهم والاكثر إيلاماً، ما بقي يجعلني أقضي أيامي التالية في كابوس متصل لا أفيق منه. ما بقي هو ما أخشاه بالفعل، وارتجف وأنا اتذكر ما أنا مقبل عليه. رحت أغالب الدوار لانني أعلم جيداً نتيجة حالات الاغماء فلو تغلب عليك الدوار وتعرضت للإغماء، فإنهم لا يتورعون عن اعادة تنفيذ العقوبة مرة أخرى. جاءت فرقة كاملة بملابس الميدان ربما يزيدون عن خمسين مقاتلاً يرتدون ايضاً زي وحدات المكافحة التي تشكلت في السنوات الاخيرة ليتملكنا الرعب من مجرد سماع اسمها، اصطحبونا الى ممر عبرنا منه الى المبني التالي، ثم دلفنا في اول عنبر الى اليمين. كانت الاقفاص الى يمين الداخل تمتد من بداية العنبر. اختفت شهقتي الاولى وسط صراخ المعلقين من ايديهم اعلى الابواب واولئك المعلقين من أرجلهم، المرعوبين والصارخين والمتأوهين والذين فقدوا صوابهم وراحوا يشتمون جلاديهم هاتفين ضد الاستبداد والشرور الاخرى. رجال وأمهات وصبايا وشباب بعضهم يبدو كأنه وصل الآن، والبعض الآخر واضح عليه انه قطع شوطاً طويلاً في عنابر التعذيب. كان هذا النظام معمولاً به منذ فترة ليست بالقصيرة، وقد نفذ عليّ ثم على المحكومين من بعدي، ويقضي بأن نزور كل مرة اقبية التعذيب التي سبق لها ان استضافتنا. هم لا يعذبوننا اثناء الزيارة ولا يعلقوننا من ارجلنا وايدينا ويجلدوننا. هم لا يسبوننا ولا يسبون أمهاتنا او يأتون بهن... هم لا يفعلون ذلك مطلقاً. هم يجبروننا فقط على النزهة بجوار الاقفاص الحديد لنتفرج على من قُدر لهم أن يعانوا بعض ما عانينا منه. لا يحتاج الأمر - في الواقع - لذكاء لإدراك أن المقصود هو ألا ننسى ويظل ما جرى معنا صاحياً على الدوام. يستمر هذا النظام طوال المدة المحكوم علينا فيها بالمراقبة، لذلك نسمى - طبقاً للقانون: محكومون. أما عندما تمر فترة المراقبة ويتحملها المحكوم ويزور خلالها أقبية التعذيب كلما شاؤوا، عندئذ فقط يستطيع ان يمارس حياته كما يهوى بعد ان اجتاز الصعاب. يقضي النظام المعمول به ايضاً أن يسير المحكوم الهوينى كأنه يتنزه متوجهاً بنظره ناحية الاقفاص المتجاورة على اليمين، بينما اصطف أفراد فرقة المكافحة على اليسار يراقبوننا بدقة. لذلك كنت مجبراً أن أرى جيداً ملامح هذا الممدد العاري وهم يعذبونه بالكهرباء، أو هذا الذي يتعرض لنهش الكلاب العملاقة، أو تلك المرأة التي تنبعث من قفصها رائحة فظيعة. لم يكن ممكناً لي أن أتحمل أكثر من ذلك. اغلقت عيني ثم فتحتهما بسرعة. يكفي أن يضبطني أحد هؤلاء حتى أتعرض لأقصى عقوبة، بل ربما يأمرون بإعادة القاء القبض عليّ لأتعرض لحكم جديد وعقوبة جديدة. لم أصدق نفسي وكدت أفقد صوابي، فقد انتهت الوجبة وها أنا أغادر آخر قفص، بل وأعبر الباب خارجاً الى المطر المنهمر في العراء المجاور، منتظراً ظهور الباص الذي يأخذني بعيداً.