مكدراً ومكروباً تحركتُ نحو الحمَّام وأنا أدعك عينيَّ المجهدتين نتيجة النوم القصير المتقطّع الذي كان يهاجمني فيه الحلم نفسه بضراوة وكأنه مصرّ على الاكتمال: «كنتُ أراني عارياً في غرفتي وقد تحوَّلت إلى حمَّام هائل، المرايا تغطي الحوائط، حيث أرى صورتي المنعكسة أينما نظرتُ، أغمض عيني مستمتعاً بدفق الماء الدافئ المنهمر من السقف على جسدي، أدور فاتحاً ذراعيَّ كأنما أبتهل للماء وكذلك كان يفعل الذي داخل المرآة، ونشوة رقيقة تنبعث من داخلي، أحس على أثرها بيدين ناعمتين تحوطان جسدي وأشعر بدفء الجسد الذي يحتك بي ويحتضنني بين ذراعيه، فتحت عيني لم أر شيئاً، غير أني وحيد تحت الماء، وحينما نظرتُ الى المرآة رأيت اليدين تتابعان تدليك جسدي، عاودتُ النظر إلى جسدي تحت الماء فلم أر اليدين ولا الجسد الذي أشعر به يحوطني من كل جانب، غير أنه كان متكامل الفتنة والبهاء داخل المرآة». وقفتُ أمام الحوض أغسل وجهي وأبللُ رأسي بالماء حتى إذا رفعتُ رأسي للمرآة التي تعلو الحوض فلم أر بها شيئاً، أغمضتُ عينيّ وفتحتُهما ولم يكن وجهي موجوداً في المرآة التي تقابلني، جمدتُ للحظات حتى قلتُ لعلَّ المرآة أصابها العتم، فتحركتُ نحو ملابسي وأنا أقلب نظري في الغرفة الضيقة التي أسكنها، ورأيتُ الكتب تهيمن على غالبيتها ولوحات قليلة على الجدران وسرير وحدتي، ارتديتُ ملابسي على عجل وخرجتُ. شربتُ شاياً في مقهى قريب وأنا أفكر في الحلم ووجهي الذي لم ينعكس في مرآة الصباح، ولما لم أصل إلى شيء قمتُ متحركاً نحو عملي، في الشارع توقفتُ أمام زجاج إحدى الفاترينات، وعلى رغم أني رأيتُ انعكاس جسدي على المرايا غير أن رأسي لم يكن موجوداً، تحركتُ قليلاً: لليمين مرة، وللشمال مرة علَّ وجهي يظهر منعكساً أمامي فلم يحدث، فخطوتُ مبتعداً. لما دخلتُ المكتب، كان الزملاء قد سبقوني، قلتُ: صباح الخير. لكني لم ألحظ أحدهم قد رفع رأسه، ولا سمعتُ همهمة تعني ردَّ الصباح. جلستُ في مكاني، في العادة أنغمس في أوراق وعمل لا معنى له حتى تحين لحظة الانصراف، لكني في هذه اللحظة لم تكن بي طاقة للبقاء، وقفتُ وأنا أقول: سلامٌ عليكم. فلم ألحظ رأساً التفت نحوي ولا عيناً رمقتني ولا سمعتُ همهمة تعني ردَّ السلام. فخطوتُ خارجاً. عدتُ من الشارع نفسه الذي أقبلتُ فيه، ووقفتُ أمام الفاترينة نفسها، في هذه المرة لم أر أي انعكاس لجزء مني، فقط كانت حركة الشارع من خلفي هي المنعكسة وأنا لا أثر لوجودي، تلفتُّ حولي وغيرتُ من موضعي: لليمين مرة، وللشمال مرة علَّ جسدي يبين، لكن من دون جدوى، فقط الحياة اللاهبة تدب بخطواتها القوية خلف ظهري وأنا غير موجود بها. في غرفتي الضيقة، رحتُ ووقفتُ أمام مرآة الحوض، بالطبع لم يكن وجهي منعكساً على سطحها، تطاولتُ قليلاً فلم يظهر صدري، فوقفتُ على الكرسي وظلَّ سطحُ المرآة جامداً، مرَّرتُ يدي على السطح الأملس للمرآة فبدا لأصابعي كأنه لينٌ أو رخو، ضغطتُ أصابعي قليلاً فوجدتُها تنزلق داخلة في المرآة، على رغم دهشتي أحسستُ بيدي تسحبني خلفها الى داخل المرآة، قربتُ وجهي وأنا أحس بخفة في جسدي الذي بدأ ينزلق داخلاً في المرآة.