في الأزمة التركية الكردية الراهنة يبدو رئيس الاقليم الكردي مسعود بارزاني رأس حربة المواجهة متقدماً الرئيس العراقي جلال طالباني الذي من المفترض انه يفوق الأول تعبيراً عن النزعة القومية الكردية بمعناها الحديث. واسباب هذا التصدّر لا تقتصر على الموقع"الديبلوماسي"الذي يشغله طالباني والذي يفرض عليه تمثيل العراق في الأزمة الراهنة وليس"كردستان العراق"انما ايضاً توزيع للأدوار املته بين الرجلين حصة الأكراد من الخريطة العراقية الراهنة, وما يمثله بارزاني من عمق تقليدي وعشائري جعلته يفضل ترؤس الاقليم على موقع رئآسة العراق. فبارزاني ذلك الرجل المقتصد في كلامه وابن الزعيم التاريخي للأكراد الملا مصطفى بارزاني, والذي نادراً ما خلع زيه الكردي التقليدي, يستبطن صمته شيئاً من صمت الأكراد ومن دأبهم, فيما ينتمي طالباني الى تقليد كلامي عربي تغذى من قواميس"حركات التحرر"التي ازدهر نشاطها في سبعينات القرن الفائت وثمانيناته. وبهذا المعنى يصبح توزيع الأدوار بين الرجلين دقيقاً. طالباني رئيساً للعراق مزوداً بخبرة واسعة في مجال الأحتكاك بتجارب"عربية", بدءاً بالعلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية ومع القيادة السورية السابقة وتحديداً مع نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام, ومع قيادات يسارية لبنانية, وتوج ذلك بإقامة علاقات متينة مع ايران قبل سقوط النظام العراقي وبعده, علماً ان حدود ايران مع الاقليم الكردي تقع في منطقة نفوذ طالباني. اما بارزاني رئيس الاقليم الكردي, فقد استعان في ترؤسه للإقليم بعلاقات افقية مع البنى التقليدية الكردية مستفيداً من وجود عشيرته على رأس الهرم العشائري الكردي في شمال العراق مع بعض الامتدادات خارجه. ولكن ومثلما توحي الأزمة الراهنة بتكامل وظيفتي الرجلين, تعكس ايضاً بعضاً من وجوه التنافس بينهما, هذا التنافس الذي وبحسب احد القيادات الكردية يدخل في تفاصيل كل خطوة يخطوها احدهما. ثمة تباينات بين شخصيتي الزعيمين الكرديين اتاحت تكاملاً في الأزمة الراهنة لكنها اتاحت حدة في فرز مواقف كل منهما. صمت البارزاني وطلاقة طالباني, عشائرية الأول وقوموية الثاني, تمسك الأول بالزي التقليدي الكردي وقلة اكتراث"القومي الحديث"بهذا الزي... وفي حين أقام طالباني علاقات متينة مع انظمة و"حركات تحرر"عربية وغير عربية على مدى تجربته السياسية فضل بارزاني انشاء علاقات مع عشائر عربية تقيم بمحاذاة الاقليم الكردي, بحيث تمكن مثلاً خلال حرب العام 2003 من اجراء اتفاق مع عشائر الشمر في الموصل لتحييد المدينة في الأيام الأخيرة من الحرب. فهذه العشائر كما يقول احد زعمائها تثق ببارزاني وهي خبرت العلاقة معه وتعتقد بالتزامه بالاتفاقات المبرمة معه. الموقع التقليدي لبارزاني عزز من موقعه في الأزمة الراهنة, لكن ايضاً تاريخ العلاقة بين العشيرة البارزانية والدولة التركية منذ عهد الامبراطورية العثمانية اتسم ايضاً بالثورات والقلاقل والبرود في احسن الأحوال. فأحد أجداد مسعود وهو الملا عبد السلام بارزاني اعدمه الأتراك العثمانيون في العام 1913, ووالد مسعود الملا مصطفى لم يعرف علاقة جيدة مع تركيا علماً ان علاقات ربطته في كثير من الأحيان بالدولة العراقية وبأيران وطبعاً دول اخرى مثل الأتحاد السوفياتي. ويبدو ان موقع مسعود التقليدي داخل البنية العشائرية الكردية اتاح له بعض التمدد الى خارج العراق, فالكيان الفيدرالي الكردي في العراق جعل من الزعامة البارزانية محط انظار اكراد كثر خارج العراق, وما التصريح الذي اطلقه بارزاني قبل اشهر واعلن فيه ان التدخل التركي في الشأن الكردي العراقي سيقابل بتدخل كردي عراقي في الشأن التركي الا تلميحاً لأمكان استعمال نفوذ الزعامة البارزانية في الداخل التركي, بالأضافة طبعاً الى ما يضمره هذا التصريح من تلويح بتحريك حزب العمال الكردستاني. لكن العامل الحاسم في تصدّر مسعود الأزمة الراهنة مع تركيا يتمثل في ان الحدود التركية - الكردستانية العراقية تقع في مناطق نفوذ مسعود, وتحديداً في محافظتي اربيل ودهوك. ثم ان عناصر حزب العمال الكردستاني المنتشرين داخل الأراضي العراقية يقيمون مراكزهم في مناطق خاضعة لنفوذ الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يتزعمه بارزاني, وتحديداً في مناطق خواكورك وجبال قنديل وآرغوش. وفي حين شكلت الجيرة علاقات متأزمة طوال تاريخ التجربة السياسية الكردية شكّل انتشار حزب العمال احتمال انفجار وشيك في مناطق نفوذ بارزاني. واذا كان نهر الزاب يفصل بين ثقافتين كرديتين هما السورانية مناطق نفوذ طالباني والبهدينامية مناطق نفوذ بارزاني فإن محاولات جسر الثقافتين واللغتين عبر توحيد ادارة الاقليم لم تنجح حتى الآن في دمج الاقليم بأدارة امنية واحدة, ما يعزز الاعقاد بضرورة عدم استبعاد العامل الكردي الداخلي في عملية التجاذب حول الأزمة الراهنة. فاعتدال جلال طالباني الذي تمليه عليه حسابات منها انه رئيس العراق وان مناطق نفوذه ليست في مواجهة مباشرة مع"الخطر التركي", هذا الاعتدال قد يؤدي الى ان يدفع صاحبه بعض الأثمان الداخلية في عملية التنافس بين الزعيمين. ويشير اقطاب في الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه طالباني الى ضرورة اللحاق بموقف الحزب الديموقراطي نظراً الى الاصطفاف الشعبي الكردي وراء مواقف مسعود في مواجهة التهديد الكردي. علماً ان مراكز قوى بدأت تظهر داخل الاتحاد اظهرت تذمراً من"ابتعاد الاتحاد عن بعض الهموم الكردية". واذا كانت مدينة كركوك النفطية في شمال العراق احد العناوين المضمرة للاحتقان الكردي - التركي, نظراً الى ما يمثله الاستفتاء المزمع اجراؤه لتقرير مصيرها من اهمية لمشروع"الفيدرالية"الكردية, فإن للمدينة حصة من مأزق الانقسام الكردي, وهي اقرب في التوزع الداخلي الى الاتحاد طالباني من الحزب بارزاني, وهو امر يعزز ميول المواجهة"البارزانية"داخل المعسكر الطالباني. فمنذ سقوط المدينة بأيدي القوات الأميركية في العام 2003 بدا واضحاً ان نفوذ الاتحاد الوطني الكردستاني فيها يفوق نفوذ الحزب الديموقراطي, نظراً الى قربها من مدينة السليمانية عاصمة الاتحاد, وان يتولى بارزاني مواجهة مع تركيا مضمونها الفعلي تقرير كردية كركوك فإن ذلك سيؤثر حكماً في شعبية الزعامة البارزانية, ما دفع مراكز قوى داخل الاتحاد الى الضغط للوقوف الى جانب مسعود بارزاني في مواجهته الأخيرة مع الأتراك. في ذلك الوقت كانت مدينة الموصل المجاورة لأربيل عاصمة البارزانيين موئل نفوذ الحزب الديموقراطي الكردستاني بتأثير العلاقات التي ربطت مسعود بالعشائر العربية في محيط الموصل, ولأتصال عاصمة الشمال العراقي بجيرة كردية, ناهيك عن احياء كردية فيها. خلاصة القول ان المواجهة التركية - الكردية في حال حصولها لن تكون نزهة للطرفين, الا في حال اقتصرت على عمليات عسكرية محدودة يقوم بها الجيش التركي ضد مراكز حزب العمال في جبال قنديل وغيرها. وفي هذا الوقت سيستثمر الأكراد حال الاحتقان بينهم وبين تركيا لإعادة فرز مراكز نفوذ كلٍّ من حزبيهم. ويبدو ان مسعود بارزاني الذي يجيد اللعبة الداخلية وحساباتها سيعزز نفوذه وسيتحول الى معبّر عن مصالح الأكراد على حساب نفوذ طالباني الذي ابعدته رئاسته العراق عن خريطة الاقليم. في السنوات الخمس عشرة الأخيرة ضاعف الأكراد اهتمامهم ببنيتهم العسكرية بحيث شغل الإنفاق العسكري والأمني نحو 60 في المئة من موازنة الاقليم في العام 2006. خمسمئة الف جندي ورجل أمن من اصل نحو 5 ملايين مواطن. لا يعني ذلك ان حرباً لن تقع, وانما الأرجح ان تكون على شاكلة مواجهات محدودة ثمارها داخلية على طرفي الحدود.