تعدد الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا 1888-1935 مذهل واستثنائي، وانخراطه العميق في لعبة الأنداد الشعرية الخطرة كلفه حياته، والنتيجة هي تواري بيسوا خلف بعض الأعمال فيما اندفع أنداده الشعريون، بكل الألق، لتوقيع أعمال استثنائية في تاريخ الشعر العالمي، أعمال مدموغة بروح شعرية خاصة تذهب الى حد التناقض في ما بينها على مستوى الشكل والعقيدة الشعرية. يعترف بيسوا في إحدى رسائله إلى أدولفو كاسياس مونتيرو، أحد شبان مجلة"حضور"، بأن فكرة اختراع شعراء أنداد ابتدأت لديه بمزحة:"عنّ لي أن أمازح ساكارنيرو باختراع شاعر رعوي، معقد بعض الشيء وإبرازه إلى الوجود كمخلوق حقيقي"، ولم يتمكن بيسوا من ذلك إلا في آذار مارس 1914، بعد مرور سنتين على محاولاته الأولى:"دنوتُ من خزانة عالية وتناولت حزمة أوراق. شرعت في الكتابة واقفاً. وهكذا كتبت ثلاثين قصيدة ونيفاً بتتابع ومن دون توقف... انطلقتُ من عنوان محدد: راعي القطيع. أما ما تلاه فقد كان انكشافاً لأحد ما في داخلي أطلقتُ عليه مباشرة هذا الاسم ألبرطو كاييرو"ف بيسوا/ مختارات شعرية، ترجمة المهدي أخريف، دار الرابطة 1996، ص22. ثم يضيف بيسوا في الرسالة ذاتها:"مع ظهور كاييرو سعيتُ في ما بعد، بطريقة غريزية ولا واعية، إلى اكتشاف تلامذة له. وهكذا انتزعتُ من وثنيته الزائفة ريكاردو رييس المستتر الذي اكتشفتُ اسمه الذي كنتُ أراه به في تلك اللحظة فألصقته به. بغتة ومن اشتقاق معارض لاتجاه ريكاردو رييس انبثقَ مخلوق آخر من آلية الكتابة. بلا توقف ولا تعديلات تدفق نشيد بحري لألبارودي كامبوس: نشيد موسوم باسمه المنسوب إلى شخص مسمى". هكذا انتهت غواية اللعب ببيسوا إلى تجربة مرعبة في الشعر، توزع عبرها دمه بين أربعة شعراء أنداد: عبقرية بيسوا خلقت أعمالهم، فيما اتجه هو إلى تلفيق سير تليق بعقيدتهم في الشعر، التي لم تكن تشبه بالضرورة عقيدته الخاصة. لقد كان كاييرو، بتعبير اوكتافيو باث، هو"الشمس وحولها يدور رييس وكامبوس وبيسوا نفسه. جميعهم ينطوون على ذرات من النفي واللاواقعية: رييس يؤمن بالشكل. كامبوس بالإحساس. بيسوا بالرموز. أما كاييرو فلا يؤمن بشيء: إنه موجود فحسب". حوّل الشاعر المغربي المثابر، المهدي أخريف، أعمال كل هؤلاء الشعراء إلى اللغة العربية، فصدرت تباعاً، في السنوات الأخيرة، عن وزارة الثقافة المغربية. غير أن الحدث الكبير، في هذه السنة، يبقى هو صدور قصائد البارودي كامبوس مترجمة، عن الاسبانية، في نسخة موسعة ومنقحة تشمل ثلثي أعمال هذا الند، الذي يحتل مكانة أساسية في أعمال بيسوا. وقد حرص المهدي أخريف، كما يصرح بذلك في مقدمة ترجمته الجديدة، على إعادة كتابة الترجمة مراراً، حتى يتهيأ له، في النهاية، القبض على إيقاع كامبوس الذي ينوس بين الانسياب والتوتر والتلقائية. من هنا جاءت الترجمة بعربية خاصة مختلفة عن العربية التي يطورها الشاعر المهدي أخريف في شعره ونثره. صورة الآخر تكشف الخطاطة البيوغرافية التي رسمها بيسوا لنده البارودي كامبوس أنه مهندس بحري، ولد في طابيرا عام 1890، وهو رجل طويل القامة، منحني الظهر، يذكر مظهره بهيئة يهودي برتغالي، يستعمل نظارات طبية، تلقى تربية تلقيدية، ثم أرسل إلى كلاكسو ليتلقى تكويناً في الهندسة البحرية والميكانيكا. تعلم اللاتينية على عمه القس، سافر إلى الشرق في إحدى العطل، ثم عاش في ليشبونة بلا عمل فرناندو بيسوا / قصائد البارودي كامبوس، منشورات وزارة الثقافة، 2007، ص3. ويبدو أن كان لهذا المسار في الحياة والتعلم تأثير واضح على تجربة كامبوس كشاعر مستقبلي يمزج نزعته الحسية الممجدة للآلات والسرعة والمحركات والوثبات الحيوانية والصراخ بوسواس انحطاطي وسم في شكل خاص أعماله الأولى خصوصاً قصيدة"أفيوني"التي يفتتحها كالتالي:"قبل الأفيون روحي كانت متألمة./ الإحساس بالحياة يحيي ويفني/ وأنا في الأفيون واهب السلوى أبحث/ عن شرق في الشرق"ص27. إنها قصيدة الفراديس الاصطناعية التي تناسب روحاً عاطلة ومنهكة تبحث في الأفيون عن الشفافية والفرح:"بائس لحسابي الخاص أنا/ مني سرق الغجرُ الحظ/ ربما لن أعثر، حتى جنب الموت/ على مكان يحميني من برودتي/ تظاهرتُ بدراسة الهندسة/ عشتُ في اسكتلندا، زرتُ إيرلندا./ فؤادي جدّة صغيرة/ تطوف متوسلة بأبواب الفرح"ص30/31. وربما لامست قصيدة"أفيوني"أقصى ذروات الانحطاط في هذا المقطع:"كوني عديم الفائدة أمر في غاية الإنصاف،/ لو كان بمستطاعي أن أحتقر الآخرين،/ وأن أكون، بالكوعين المقطوعين، بطلاً، مجنوناً ملعوناً أو وسيماً/ تراودني الرغبة في أن أدني اليدين/ من الفم وأعض بعمق مُحدثاً أذى بالغاً./ سيمثل ذلك انشغالاً أصيلاً/ ومسلياً للآخرين، الأصحاء كما ينبغي."ص34/35. في أناشيده الطويلة اللاحقة، يفصح ألبارودي كامبوس عن ولادة الشاعر الحسوي المستقبلي المتأثر بالشاعر والت ويتمان، ولكن المدين بتميزه لعبقريته الخاصة في الجرأة على الشكل وفي ابتكار إيقاع شخصي يجمع بين التوتر والانسيابية والدفق الهذياني، الذي يجعل شبق الأحاسيس وأهواء السرعة والميكانيكا ترتفع إلى مستوى الميتافيزيقا الشعرية الموجهة للعمل، على نحو يُشيع بداخله نزعة صوفية وثنية، توحد بين مختلف مظاهر الوجود ومختلف الأزمنة والانفعالات التي تتعدى أحياناً حدود البشر. في قصيدة"نشيد بحري"تتجسد، على نحو باهر، كل الخصائص الشعرية لكامبوس الذي يستدعي متخيلاً بحرياً يفجر فيه كل انفعالاته المستقبلية:"أنظر إلى سفينة المحيط آتية من بعيد/ وأنا مفعم بتحرر هائل في الروح، وهناك بداخلي/ محرك يشرع ببطء في الدوران."ص69، ثم يضيف متوسلاً بمناجاة لا تخلو من نزعة حسوية. في قصيدة"تحية إلى والت ويتمان"يكشف ألبارودي كامبوس عن نسبه الشعري قائلاً:"إلى فجورك أنتمي، إلى فجورك الباخوسي،/ فجور حرية الحس"ص139، ولكنه نسب لا علاقة له بالتلمذة، وإنما بتقاسم الروح والنعمة التي يمكن أن نسميها، بتعبير الصوفية، الحلول:"أنظر إليّ: أنت تعلم أنني البارودي كامبوس/ المهندس، الشاعر الحسوي،/ لستُ تلميذك/ لستُ عاشقك، لستُ مغنيك،/ أنت تعلم أنني أنتَ ومسرور أنت بذلك/ لن تستطيع أبداً قراءة أبياتك متتالية.../ ثمة فرط في الإحساس.../ أخترقُ أشعارك اختراقي حشداً غير منتظم من حولي، / وأشتم رائحة العرق، الزيوت، النشاط الإنساني والميكانيكي./ في أشعارك، لا أدري إن كنتُ عند مستوى معين أقرأ أم أعيش.../ لا أدري إن كنتُ هنا، على قدمي فوق الأرض الطبيعية،/ أم مطأطئاً رأسي، معلقاً في مؤسسة ما/ في السقف الطبيعي لإلهامك/ في مركز حدتك اللاتُدانى"ص139/140. في قصيدة"تزجية الوقت"ستُختَرق الأحاسيس الظافرة بأخرى خائبة، ولذلك سيتم تصنيفها ضمن القصائد الجسرية، التي ستهيئ للمرحلة الأخيرة في تجربة ألبارودي كامبوس، حيث سيخبو إلهام الأناشيد الطويلة، ويكرس الشاعر المهندس العاطل من العمل حياتَه للتأمل وتقصي الأشياء التافهة، مع كل ما صاحب ذلك من إحساس بالضجر والعياء وخمود الإرادة. وهي كلها أحاسيس مثبطة ستتواتر في النصوص اللاحقة، بكيفية خالصة متخلصة من تلك الوثبات الهذيانية، التي تفتح في النص الشعري أكثر من تُخم واقعي أو ميثولوجي ، وهو ما سينذر بوشك موت الشاعر الحسوي البارودي كامبوس، الذي فتح للمستقبلية الإيطالية آفاقاً رحبة وتلاوين شعرية غير متوقعة، هي جزء صميمي من ميتافيزيقا الشاعرالبرتغالي الاستثنائي فرناندو بيسوا. هيأ الشاعر المغربي، المهدي أخريف، بهذه الترجمة الموفقة 481 صفحة - منشورات وزارة الثقافة المغربية التي تنم عن ذوق وجهد ومثابرة، للعربية أن تتشرب نفساً"بيسوياً"خاصاً كانت في حاجة إليه، لتتحرر أكثر قواها الإبداعية الدفينة