بعد الرواج الذي عرفته الترجمة العربية التي أنجزها الشاعر المغربي المهدي أخريف ل «كتاب الطمأنينة» للشاعر والكاتب البرتغالي الكبير فرناندو بيسوا والتي أصدرها المركز القومي المصري للترجمة، أعاد المركز الثقافي العربي إصدار الترجمة نفسها مع مقدمة طويلة وشاملة للكاتب المغربي الراحل أدمون عمران مليح. والطبعة الجديدة للكتاب الشهير الذي ترجمه أخريف عن الإسبانية حملت غلافاً جميلاً يتمثل بيسوا نفسه. هنا قراءة في الكتاب الذي كان له أثر كبير في الآداب العالمية الحديثة. على رغم أن دولة البرتغال كانت تُصنَف ضمن أكبر الدول الاستعمارية وأطولها عمراً، بحيث تمدد وجودها في ثلاث وخمسين دولة حول العالم لاسيما في إفريقيا وأميركا اللاتينية على مدار ستة قرون متصلة لم تنته إلا مع سقوط حكم الديكتاتور اليميني أنطونيو سالازا العام 1974، غير أن زوال الاحتلال لم يعن زوال تأثيراته. ولذا نجد أكثر من عشرين مستعمرة قديمة تعتبر البرتغالية لغتها الرسمية. في مقابل ذلك لم تكن أقدار الأدب البرتغالي تكافئ أقدار مراكز إنتاج المعرفة التي انتزعها المركزان الفرنسي والبريطاني، ثم الأميركي في ما بعد. ربما لذلك أخذ شعراء وكتاب برتغاليون كبار أقدار أمتهم، وكان تمددهم محكوماً، في ما يبدو، بحجم تمدد ثقافتها خارج الجغرافيا المسموح بها على رغم المساهمة الكبرى التي قدَّمها الشعر الملحمي البرتغالي في القرن الرابع عشر وما تلاه. وعندما واجهت للمرة الأولى ترجمات الشاعر والمترجم المغربي المهدي أخريف للشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا (1888 - 1935) تبدت لي وربما لجيلي كله أسئلةٌ عدة، كان يتقدمها دائماً تغييب شاعر مؤثر في حجم بيسوا. كانت مختارات «نشيد بحري» التي أصدرها أخريف من هيئة قصور الثقافة في مصر عنواناً لتلك التساؤلات. فالمختارات كانت تمثل تعبيراً أكيداً على مكانة شاعر جعل من صورته الشعرية أسطورة فوق واقعية تشكَّلت بجلاء أكبر في كتابه «اللا طمأنينة» الذي نحن بصدده. وعندما صدرت الطبعة الكاملة من هذا الكتاب عن المركز القومي للترجمة في مصر عام 2008 كانت تمثل حدثاً حقيقياً ومؤثراً بالنسبة إلى الجيل الجديد من الشعراء المصريين (والعرب ايضاً)، ليس لأنه فحسب ينتهك بجرأة غير مسبوقة كل حواسنا بصورتها المستأنسة في المخيال الشعري العربي؛ الذي أعلى من قيمة المواءمة بين الحال ومقتضى المقال، فعزَّز قيماً محافظة كانت أداته الرئيسة فيها تقديس الشكل مقابل احتقار المضمون. لذلك ظلَّ الكتاب، وأظنه لايزال، يمثل إجابة إضافية عن التباسات قصيدة النثر في أذهان أصحابها. ويدرك المتأمل مقتطفات الكتاب وشذراته أن بيسوا كان مأخوذاً بالرمزية الفرنسية التي كانت تعد الامتداد الطبيعي لما سماه النقد بالرومنطيقية الجديدة التي كان إدغار ألن بو؛ أحد أهم مؤسسيها. في الوقت نفسه لم يكن بيسوا بعيداً من أوقيانوس اللاشعور الفرويدي الذي جعل منه شخصيات عدة في شخصية واحدة. ولا يمكننا تفسير الأسماء المستعارة التي كتب بها سوى عبر ذلك القلق الوجودي العارم الذي يكلل كلَّ ما كتب تحت وطأة اضطراب الحواس. ولا شك في أن هذا ما دفعه إلى التفكير في أن يصدر «كتاب اللا طمأنينة»، مرة تحت اسم «قيسنطي غيدس»، ومرة تحت اسم «بارون تاريبي»، كما يشير أخريف في مقدمته. وكان بيسوا قد سبق هذا باستخدام أسماء تم القطع بأنها مختلقة مثل: ريكاردو رييس، ألبرتو كاييرو، ألبارو دي كامبوس، وبرنارد سوارش. وعلى رغم الندية التي يختلقها بيسوا في الحديث مع تلك الرفقة المتوهمة، إلا أن كثيرين لن يصدقوا أن تلك الندية هي السبب الوحيد الذي دفع بيسوا لاختلاق تلك الشخصيات. ربما يكون دور التفسير الفرويدي هنا مبرراً أكثر مقبولية. فالانقسام الذي يمكنه أن يصيب أوقيانوس اللاشعور لدى تلك الشخصيات القلقة يفسر لنا إيمان بيسوا بالأشياء ونقائضها، ربما في اللحظة ذاتها. من هنا يعتبر بيسوا كتابه أعلى تفسيرات الشعور ب «اللا كينونة». هذا الشعور هو ما عزَّزته الرمزية ليس عبر الخلط بين الواقع والخيال، بل في الخلط بين الحواس ذاتها. من هنا كان الإيمان الأولي لدى الرمزيين بالفوضى بين مدركات الحواس. نعثر على تأثيرات تلك التناقضات في مقولات شتى لبيسوا، بحيث يشير بوضوح في مقطوعة تحت عنوان «أمير المنفى الأكبر»، إلى انتمائه إلى سلالة الرومنطيقيين على رغم تعلقه بقراءة الكلاسيكيين. في هذا السياق قد يمكننا تفهم تعبيره عن الضجر الشديد الذي يلاقيه من عملية القراءة في مقطوعة بعنوان «كتابي المفضل»، ثم يثني على كتاب واحد يعيد قراءته على الدوام هو «بلاغة الأب فيغيديدرو» الذي يشير إلى أنه يقرأه آلاف المرات. المدهش أن تلك المقطوعة تتبعها مباشرة مقطوعة تحت عنوان «متعة القراءة» يتحدث فيها عن أنه ليس ثمة متعة تعادل متعة القراءة، ويضيف إلى قائمة الكتب المفضلة لديه كتاباً آخر عن بلاغة اللغة البرتغالية للأب فريري. نتأكد من ملامح تلك الشخصية القلقة في مقطوعة عن عمر الخيام يشير فيها بيسوا إلى أن هذا الرجل، استطاع الإمساك بما يريد، بمعنى امتلاك الرجل شخصيته، في مقابل ذلك يقول: «أما أنا، فلا أملك لحسن الحظ أو لسوئه، أي شخصية على الإطلاق، ما أكونه في لحظة معينة، أنفصل عنه في اللحظة الموالية، ما كنته ذات يوم أنساه في اليوم الذي يليه». يتحدد أيضاً موقف بيسوا من الدين بالدرجة ذاتها من الاضطراب وهو حال كثير من الرومنطيقيين، كأن لا يستبعد غالبهم الجانب المعتقدي من فضائهم المعرفي. لذلك نجد بيسوا في المقطع الاستهلالي ينتقد الاتجاه الواسع إلى استبدال المعنى الديني بالمعنى الإنساني أي حلول كلمة الإنسانية محل لفظ الإلوهية، لكنه في مقطوعة أخرى بعنوان «تبعثر موحد» يشير إلى أن ديدنه الدائم عدم الإيمان بشيء، ويقول: «إن موقفي الإنكاري الطبيعي إنما هو رفض الحواجز التي تحت وطأتها أضع هذا كله في شكل ثابت». وكما تتمدد علاقة بيسوا بالرومنطيقية الجديدة، فهي أيضاً لا تخلو من ظلال سريالية يقدس فيها نزواته المجردة من المقصد والقيمة، كما يشير في مقطوعة بعنوان «أحلام منتصف النهار». فمع ضيق مساحات التنفس في الواقع يهرب إلى الأحلام لدرجة تدفعه إلى القول إنه عاش في الأحلام تجربة انعتاقه، وتتجلى في شكل أكبر فكرة رفض الواقع والحلم معاً في مقطوعته «ذلك الحلم المديد»، بحيث يقول: «المأساة المركزية لحياتي، مثل كل المآسي، هي سخرية القدر. أرفض الحياة الواقعية كمن يشجب إدانة، أرفض الحلم باعتباره تحرراً شائناً، لكنني أعيش أكثر الحالات حساسية وأكثرها يومية في الحياة الواقعية وأعيش الأكثر حدة واستمرارية من الأحلام... إنني أشبه عبداً يسكر في القيلولة من شقاءين في جسم واحد». إن تجربة فرناندو بيسوا في كتاب «اللاطمأنينية» كانت تمثل إجابة عميقة عن إشكاليات قصيدة النثر المصرية والعربية على السواء. وقد خصص بيسوا مقطوعة تحت عنوان «حديث النثر» يجيب فيها عن السؤال المركزي في ثقافتنا: «هل يمكن أن يتألف الشعر من النثر؟»؛ نعم. هكذا يجيب بيسوا، مشيراً إلى أن الفن كله متحصل في النثر باعتباره الكلمة الحرة التي يتمركز فيها العالم. هذا يبدو تعضيداً لموقفه الجوهري من الشعر حتى ليرى أن دور الشاعر أمامه أشبه بدور المبتدئ في المحفل السري، ومن هنا يؤكد أنه «على يقين من أنه، في عالم متحضر تماماً لن يوجد غير النثر». وكما يشير والاس فاولي إلى أن الفنان لا يخلق مشكلة عصر، فإنه بالضرورة لا بد من أن يكون شريكاً في صناعة أسطورتها، ويمكننا من هنا أن نقرأ اضطراب الحواس الذي يتبدى في كتابة بيسوا باعتباره ابناً لأسطورة المعرفة التي تتمركز في مناطق من اللاوعي السحيق. كان بيسوا يحتاج إلى السريالية ليؤكد لنا أنه ضد هذا القبح الذي تركته حروب كاسحة أنهت أسطورة إمبراطورية عظمى هي الإمبراطورية البرتغالية. وكان يحتاج إلى أن يكون ابناً للرومنطيقية الجديدة على خطى إميل زولا ورفاقه ليقول لنا إنه يرفض الواقع والواقعية عندما يتعديان حدود الذوق الإنساني الذي يحاول أن يلتئم حول ما هو أقل قسوة.