مختارات فرناندو بيسوّا نقلها عن الإسبانية: المهدي أخريف منشورات المجلس الأعلى للثقافة - المشروع القومي للترجمة 372 صفحة من الحجم الوسط في مفتتحٍ مقتضب يتصدّر ترجمته "مختارات" من أعمال بيسوّا، الصادرة أخيراً، يحرص المهدي أخريف على بيان "التعدُّد" في "شخصيّات" الشاعر البرتغالي 1888 - 1936 و"الأصوات" التي عبَّرت عن عالمه الداخلي بأسماءٍ مختلفة، مُقترحاً على القارىء "ميثاق قراءة" قوامه الدقَّة، وكأنه بذلك يُقرُّ سلفاً بجوانب من الغموض دَاخَلَتْ نص الترجمة، أحياناً، وقد يكون سببها غموض الأصل الإسباني، وهو أصل ثانٍ منقول عن البرتغالي، لغة الشاعر، غير أنّ هذا لم يَحُلّ، في معظمِ الأحيان، من نجاحات بيّنة في أداءِ الترجمة المتقنة. ومع ذلك فإن تبريرات المفتتح تبدو ضرورية خصوصاً في تقديم شاعر من طراز فرناندو بيسوّا الى قارىء عربي لم يسمع عنه من قبل، أو سَمِعَ نُتفاً في السنوات الأخيرة عبر ترجمات صحافية مجتزأة ومرتجلة في معظم الأحيان. ولعلَّ الغموض الذي أشرنا اليه لا يتأتى من غموض شعر بيسوّا وتعدُّد أصواته ومناحيه وأساليبه بمقدار ما يتأتى من غموض شخصية بيسوّا نفسه في حياته المقتضبة 47 عاماً وأعماله المهذارة والتي لم يُنشر منها في حياته سوى القليل، وما زال أمر تصنيفها وإعدادها للنشر متعثراً ودونه صعوبات شتَّى ليسَ أقلّها شأناً طابعها المُبَعْثر باعتبارها "شذرات" و"توقيعات" لا تُنْتَظَمُ في سياقة واحدة. وقد تكون أعمال بيسوّا الشعرية حظيت باهتمام أكبر فأمكن نشرها بالبرتغالية، وترجمتها الى لغات أخرى ما أتاح انتشارها بين القرَّاء ونقلها بلغاتٍ عن لغات واقتباس مؤلفها كشخصية روائية كما فعل أنطونيو تابوكي وساراماغو..." غير أنّ أعماله النثرية لم تحظ حتى العام 1992 باهتمامٍ مماثل، خصوصاً مؤلفه الرئيسي الهائل "كتاب اللادعة لبرناردو سواريس" لصعوبة تصنيف مقاطعه وإعداده للنشر" فمن أصل 520 مقطعاً هي مجمل كتاب "اللادعة" الذي صدر كاملاً في منشورات آثار لشبونة في طبعة وحيدة عام 1982 اختار كريستيان بورغوا، ناشر الترجمة الفرنسية 157 مقطعاً في جزء أول صدر 1988، ثمَّ في جزءٍ ثانٍ، اشتمل على 317 مقطعاً، وصدر عام 1992" وما زالت، الى يومنا هذا، حقيبة "مخطوطات" بيسوّا البالغ عددها نحو 27543 نصاً، بحسب تيريزا ريتا لوبيز تطالع الدارسين والمعنيين بأدبه بمفاجآت سارّة لم تستنفد بعد. يمكن القول إذاً، بعد هذا الاستطراد، ان الغموض المشار اليه لا يكمن فقط في تعدُّد "لغات" بيسوّا بل بالظروف التي أحاطت بنشأتها وتدوينها وقراءتها ونشرها فيما بعد، ومن ثمّ ترجمتها. فهناك أربعة شعراء كتبوا شعر بيسوّا بلغات وأساليب مختلفة، هم، على ما يشير المهدي آخريف: فرناندو بيسوّا وألبرتو كاييرو وريكاردو رييس وألبارو دوكامبوس" أمّا أعماله النثرية، فيمكن القول انها صُنعت، الى "كتاب اللادعة" المنسوب الى برناردو سواريس، من قبل 72 شخصية مختلفة لها أسماء وأعمار ووجهات وأساليب بحسب ما أحصته تيريزا ريتا لوبيز، أيضاً وإن كان بَعْضُها لم يكتب أدباً. في غمرة هذه "الكثرة"، لا بل هذا "الحشد" من مؤلفي أعمال بيسوّا، يحقّ للمهدي أخريف، كمترجم الى العربيّة، أن يقيم المسافة بينه وبين من شُغف بأعماله، ويقصر تدخّله على مفتتح مقتضب وثبت كرونولوجي لسيرةِ بيسوّا في الصفحات الأخيرة من المختارات وأن يُثبت المقالة الدراسة التي وضعها الشاعر الراحل أوكتافيو باث لأشعار بيسوّا ص ص 193 الى 235 بعنوان "المجهول من لون ذاته"، والذي يقرر منذ السطور الأولى امتزاج "أشخاص" بيسوّا بشخص بيسوّا، وامتزاج اللَّبس أو المفارقة الأولى بأشعاره. يقول باث، بترجمة أخريف: "ليس للشعراء بيوغرافيات، أشعارهم هي بيوغرافياتهم، وبيسوّا الذي كان دائم الارتياب في واقعية هذا العالم سوف يوافق، دون تردُّد، على المضيّ الى أشعاره مباشرةً، متجاهلاً حوادث ومصادفات وجوده الأرضي. لا يوجد في حياته شيء متوقع، لا شيء باستثناء أشعاره ... وما تبقى من السرّ مكتوبٌ في إسمه: لأنَّ Pessoa تعني "شخص" في البرتغالية، وقد تحدرت من لفظة Persona قناع الممثلين الرومانيين. إنَّه، إذاً، قناع، شخصية خيالية... وبيسوا الحقيقي هو شخص آخر". ولعلَّ الترجمة الفرنسية للإسم تعبِّر عمّا يكتنف "سرّ بيسوّا" من التراوح بين الذات، ذات النفس، ونفيها. فمن القليل جداً ممَّا يعرف عن حياة بيسوّا العاطفية هو صلته بصديقته "أوفيليا" التي كانت تسمّيه في الرسائل التي تبادلاها ب Fernand Personne، وبالفرنسيّة، ربما لأن المفارقة تبدو أوضح عبر الدلالة المزدوجة لكلمة Personne بالفرنسية على ما يزعم جورج رايار في ال"كانزين لتيرير" التي تعني الحضور والغياب في وقت واحد: أحد ولا أحد. غير أنّ ابتكار الأسماء المتعدِّدة للشاعر الواحد ليست في حالة بيسوّا من قبيل اللعب المحض، كما يقول باث أيضاً، ليست اختراعاً لشخصيات شعريّة، بل هي اختراع لنتاج شعراء متعددين وعديدين" اختراع لأدبٍ بأكمله. وقد استطاع بيسوّا أن يتطرَّق لهذا الأمر معلِّلاً وشارحاً في مقالته: "حول تعدُّد الأسماء" صدرت عام 1985 في كتيب عن منشورات "أون" في ترجمة فرنسية لريمي هوركاد، مترجم قصيدة بيسوّا الرائعة: "دكان التبغ". ولعلَّ في ملاحظات باث هذه، وفي مزاعم بيسوّا نفسه في المقالة المذكورة، ما يجعل القارىء حائراً أمام عبارة المهدي أخريف في تقديمه، والتي تقرِّر بأنّ ألبارو دي كامبوس هو، من بين الجميع، القرين "البيسوّي الأكثر بيسوّية من بيسوّا" ما يبرِّر التوسع في مختارات دي كامبوس لتحتلَّ نحو ثلثي حجم الكتاب من 127 الى 361. ولا نذكر هذا التفصيل الذي يبدو شكلياً للتقليل من أهمية الجهد الهائل الذي بذله آخرين في انجاز ترجمته هذه، بل لأننا نزعم أنَّ كلّ هؤلاء هم بيسوّا بنفس المقدار الذي يمكن أن نزعم فيه أن لا أحد من هؤلاء هو بيسوّا، لأنَّ بيسوَّا من دون هؤلاء ليس أحداً على الإطلاق، ولذا يستحيل أن يكون أحد منهم بيسوياً "هو الأكثر بيسويّة من بيسوّا". ذلك أن "التباس" الهويّة الذي يُطاول شخص الشاعر المؤلِّف ينبع من "التباس" الأشعار في تعدُّد مؤلفيها، وإلاّ لما سلّمنا بما قرّره أوكتافيو باث في قراءة بيسوّا، وكاتب هذه السطور، الشغوف بأعمال بيسوّا، يميل الى التسليم بها. لأنَّ مثل هذا التسليم قد يكون بداية طريق لفهم بيسوّا، قد يكون إشارة متوهمة، ولكن محتملة، لقراءة أثر قد يكون، من بين قلّة آخرين، "صانع" الحداثة الأدبيّة في أوروبا. أمَّا الأمر الثاني الذي قد يحيل اليه ظنُّ المهدي أخريف ووصفه دي كامبوس بأنّه "الأكثر بيسويّة"، فهو إلغاء "الكشفِ" هذا لما قد يكون محلّ الجوهر في أعمال بيسوّا وهو "مسرح الظلال" الهائل الذي لا يعبِّر قوله الشعري إلاّ عنه" ما يسمّيه إدواردو لورنثو في المجلَّة الأدبية الفرنسية، ب"الفودفيل الميتافيزيقي" الذي يشمل كل أوجه "الحساسية البيسويّة" ولا يقتصر على ما يُعرَّف به شعر البرتو دي كامبوس، أي النزعة "المستقبلية" أو "الإحساسية" التي كان بيسوّا، الى جانب سا - كارنيرو، وبتأثير من مارينيتي، رائدها في البرتغال نحو العام 1912، مثل هذه "الإحساسية" تقوم، كما هو واضح في "نشيد الظفر" و"نشيد بحري" أنظر صفحة 127 وصفة 239 من ترجمة أخريف، على المعادلة التي أسهب في تحليلها الناقد جوذيه جيل في معرض تناوله "للأناشيد" أي "أن يحسّ الشاعر بأنه يحسّ، ويرى ويرى نفسه وهو يرى، وأن يقول ما يحسّه وما يراه". وما يجمله تابوكي في عبارة واحدة: "الإحساسُ بكافة الأوجه". فقد يكون ذلك أحد أوجه "الفودفيل الميتافيزيقي" الذي ينشئه التباس بيسوّا، لكنه بالتأكيد ليس بيسوّا لأنّ لا أحد يعرف بما في ذلك بيسوّا مَنْ أو ما هو بيسوّا؟ ممّا لا شكّ فيه أن كلّ ترجمة هي، أوّلاً، قراءة، و"مختارات فرناندو بيسوّا" في تقديم وترجمة المهدي اخريف هي، أولاً، قراءة متمعنة ومتأنّية لا توهنها صعوبة أو تكبّد مشقة. وهي، الى ذلك، تعبيرٌ عن متعة المهدي أخريف وشغفه بقراءة بيسوّا وبتقصّي عالمه الشعري. وقبل الإشارة الى "هناتٍ" هي الملازمة لكلِّ ترجمة، ينبغي القول أن خيار ترجمة بيسوّا، وتقديمه الى قارىء عربي يجهله أو يكاد، هو خيار جرأة وعلامة شغف مؤكدة. أمّا الترجمة فقد تخطىء وقد تصيب، وقد تخطىء وتصيب معاً، لكنها مغامرة الشغف التي لا بدّ منها.