تحتضن الواجهة الأمامية لصالة الاحتفالات الملكية في "ساوث بانك" في لندن العمل التركيبي الجديد "غمامة مدينية"للمصممة والمهندسة المعمارية العراقية زها حديد. وقد تزامن افتتاح هذا العمل التركيبي مع معرضها الاستعادي الشامل الذي ينظّمه متحف التصميم في لندن. تتكون هذه"الغمامة"من 150 قطعة كونكريتية سوداء مصقولة ومربوطة بعضها ببعض عبر براغٍ حديد. واللافت في هذا التكوين الذي يهدم الفواصل بين العمارة والتصميم والهندسة والنحت هو إنسيابية المادة الكونكريتية الصلبة، ورشاقتها التي استمدتها زها من مخيلتها المرنة أصلاً. ولهذا فهي شكلّت المعالم الخارجية للقطع الكونكريتية وصاغتها في أشكال مرنة، منسابة، لدنة، كأن الحجر الصلد مادة مطواعة لينة قابلة للمطِّ والتطويل. يزدان جدار"الغمامة"بعدد كبير من الثقوب التي يمكن الإفادة منها بواسطة المؤثرات الضوئية التي تمنح التكوين أبعاداً بصرية مضافة إذا ما أرخى الليل سدوله. وما يميز أي عمل معماري أو فني لزها حديد هو حركته، وانسيابيته، وغياب الأشكال التقليدية فيه، وتحديداً العمودية والأفقية منها، وهيمنة الميوعة"الفوضوية"التي تشي بالقلق والخلخلة وعدم الاستقرار. لكن المتمعن في أي عمل لها، سواء كان تخطيطاً، أو رسماً، أو تكويناً، أو بناءً معمارياً كبيراً سيجد من دون عناء بنية قوية جداً قائمة على مبدأ تفكيكي يخلخل قناعة المتلقي القائمة على أشكال تقليدية مألوفة استمدها من"ثنائية الأشكال الأفقية العمودية"واعتاد عليها وألِفها، بينما لم يعتد على الأشكال الفوضوية المائعة والمتشظية في كل الزوايا المتاحة والممكنة. فالمهندسة الفنانة تنزع الى التماهي مع البيئة التي تحيط بعملها، وتطوّقه من جهاته الأربع. ورب سائل عن السبب الذي يدفع زها الى العزوف عن الأشكال التقليدية القديمة التي تتعارض كلياً مع مخيتلها المجنحة التي تجد ضالتها في كل ما هو جديد، وغريب، وحداثي وما بعد حداثي أيضاً. قالت زها ذات مرة:"إن التخطيطات الهندسية التقليدية لا تستطيع أن تنقل"مشاعرها"المتطرّفة أبداً، وفضاءاتها المنسابة، لكن رسوماتها، وتخطيطاتها الجريئة تفلح في نقل تلك المشاعر المنفلتة."ولا شك في أن هذه المشاعر المتمردة على الأشكال التقليدية تحتاج الى وقت طويل كي يفهمها عموم الناس أو يستسيغونها في الأقل. ولهذا السبب تلوذ المهندسة الفنانة بالرسوم التجريدية أو الانطباعية القائمة في مخيلتها الخاصة التي تجنح الى الفرادة والاستفزاز أحياناً. ذات مرة عرض عليها المعماري الهولندي المشهور كولهاس إثر تخرجها عام 1977 في"الجمعية المعمارية أ. أ."أن تكون شريكة له في مكتبه المعماري الخاص، لكنها سرعان ما انفصلت عنه، ولم يتذمر هذا المبدع الكبير، بل وصف سلوكها بالقول:"إنها كوكب يدور في فلكه الخاص". وعلى رغم أن وعيها المعماري تشكَّل على أسسٍ حداثية وبنائية وسوبرماتية، إلا أنها تنتمي كلياً الى تيار"الحداثة الجديدة"أو"الحداثة الباروكية"التي يصعب فيها تحديد نقطة الارتكاز ظاهراً في الأقل. ولهذا قال كازامير مالفيتش مرة:"نستطيع أن نُدرك الفضاء حين نتحرر من الأرض، وعندما تختفي نقطة الارتكاز". يمكن الاستدلال على إفادتها من التجريد الزخرفي للحروف العربية وتوظيفها بطريقة تجمع بين التفكيكية والتركيبية المُشار إليهما سلفاً، وهي تحاول استثمار البيئة، والإفادة منها في استنباط أشكال جديدة. تحتشد السيرة الذاتية لزها حديد بنحو ثلاثين جائزة عالمية لكن لا بد من الوقوف عند جائزتين مهمتين هما"جائزة البريتزكر"التي تمنحها"مؤسسة هيات المالكة لسلسة فنادق ريجينسي"لأحد المعماريين الأحياء، وتبلغ قيمتها المادية 100.00 دولار مقرونة بميدالية برونزية. أشادت لجنة التحكيم بالمنجزات العمرانية التي حققتها زها حديد ووصفتها بأنها"إسهامات مهمة وباقية للبشرية"وقد حصلت على هذه الجائزة بعد كفاح طويل. وهي للمناسبة أول امرأة وأصغر مشاركة تحصل عليها منذ تأسيسها عام 1979. وتقارن غالباً بجائزة"نوبل"الشهيرة، وأُسندت إليها بعد فوزها في مسابقة تشييد مركز روزنثال للفن الحديث في سينسيناتي في أوهايو عام 2004. أما الجائزة الثانية التي نالتها حديثاً فهي جائزة"توماس جيفرسون للهندسة المعمارية"للعام 2007 إذ مُنحت لها تقديراً لمساهمتها الجدية والمتفردة في حقل الهندسة المعمارية. وما يذكر أن هذه الجائزة تُمنح سنوياً منذ العام 1966 وفاز بها خيرة المعماريين في العالم منهم زها حديد. ولا بد من الإشارة أيضاً الى عدد من المعالم العمرانية التي أنجزتها خلال رحلتها المعمارية الطويلة نسبياً بينها مبنى شركة سيارات"بي أم دبليو"الألمانية في لايبزغ، منصة التزحلق في مدينة أنزوبروك في النمسا، محطة إطفاء الحريق في مدينة فايل الألمانية، محطة القطار في سترايبورغ، المركز الإعلامي في دوسولدوروف، مبنى الأوبرا في كارديف، المكتبة الوطنية في كيبيك في كندا، مركز الفن الحديث في روما، صالة الفلهورمونيكا في ليكسمبورغ وغيرها من الشواهد العمرانية التي تنم عن عبقرية هذه المعمارية الفنانة العراقية.